خلال الأيام الأخيرة، وبعد تتابع نوبات العمل الليلي، بدا أنّ سكرتيره قد تشبّث هذه المرة بعناد لا يُلين، وكأنّه عاقد العزم ألا يتزحزح قيد أنملة.
“……هل تغيّر تحت تأثيرٍ ما؟”
وهو يتأمّل، أدرك “مين-جون” أنّ سكرتيره “جونغ سو-سوب”، ذاك الذي اعتاد تنفيذ كلماته بلا نقاش، قد تبدّل في الآونة الأخيرة. وللإنصاف، فإنّ التغيير بدأ تحديدًا منذ أن اقتحمت تلك المرأة، “تشا دان-آه”، مسار حياته اليومية.
هل كان عليه أن يتوقّع الأمر منذ اللحظة التي أصرت فيها على أنّها ليست مُطارِدة بل منقِذة؟ ابتسم “مين-جون” ابتسامةً خفيفة، ثم ركب مصعد جناح المرضى وغادر المبنى. لم تكن في باله وجهة محددة؛ إنما فقط ضاق صدره من البقاء حبيس الغرفة.
لكن صوتًا جهوريًا اخترق سكون الممر:
“أيجرؤ مقيم في سنته الأولى أن يلقّنني درسًا الآن! من أين جئتَ بهذه الوقاحة؟!”
كان صوت رجلٍ في منتصف العمر يوبّخ أحدهم. ولو كان في حالته الطبيعية، لما توقّف “مين-جون” ليستمع. فهو بطبعه لا يلقي بالًا لشؤون الآخرين.
غير أنّ عبارة “مقيم في سنته الأولى” أوقفت خطاه قسرًا. صورةٌ واحدة تبادرت إلى ذهنه دون استئذان. صحيح أنّ هذا المستشفى يعجّ بالمقيمين الجدد، لكن عينيه تحرّكتا بغير وعي، وهناك وجدها…
كانت هي. تشا دان-آه.
من بين كل أولئك، كان لا بدّ أن تكون هي.
“دكتورة تشا، النتائج ظهرت. الدواء كان يحمل بالفعل مشكلة.”
اقتربت “جونها” من “دان-آه” وهي تلوح بتقريرٍ حصلت عليه من ابن عمها. كانت قد رجّحت في قرارة نفسها أنّ لا خطب في الدواء، ومع ذلك صدّقت أنّها ربما تُبالغ. غير أنّ الحقائق نطقت: نعم، ثمة خلل.
لم يكن الخلل في تركيبة الدواء ذاتها، بل في سلسلة التوزيع، حيث يُرجَّح أنّ التلوث أصابه أثناء التداول. وبذلك لم يعد بالإمكان إنكار الإهمال في الفحص والرقابة.
قبضت “دان-آه” على التقرير، وتوجّهت مباشرة إلى مركز طب العيون. كان لا بدّ من وقف وصف هذا الدواء للمرضى في الحال. وبما أنّ لديها الدليل بين يديها، فقد ظنّت أنّ إيقافه سيكون أمرًا بديهيًا.
لكن الرد كان صادمًا:
“دكتورة تشا، أليس هذا تعدّيًا على حدودك؟ شؤوننا نتكفّل بها نحن. الطوارئ لا شأن لها بعيادتنا.”
خذلها زملاؤها وأساتذتها على السواء، كلٌّ يحتمي بصمته. حتى كبير مقيمي العيون لم يُعر كلماتها وزنًا، بل قابلها بالاستياء.
ولأن لا أحد ارتضى أن يرفع صوتها إلى من هم أعلى، لم يبقَ أمامها سوى أن تذهب بنفسها إلى رئيس المركز. غير أنّه لم يكن بأفضل حال:
“أتظنين، وأنتِ مجرد مقيمة في سنتك الأولى، أنك مؤهلة لتعلميني! من أين جئتِ بكل هذه الجرأة؟!”
زمجر الرجل وألقى التقرير من يده حتى ارتطم بخدها قبل أن يسقط أرضًا. لسعها الورق على بشرتها، لكنّها لم تُبالِ بجرحها. التقطت الأوراق مجددًا، وواجهته بصوتٍ ثابت:
“الأمر ليس كما تظن، سيادة الرئيس. التقرير واضح: التلوث وقع في عملية التوزيع. ينبغي أن نوقف صرف الشحنة الحالية فورًا ونضع خطة بديلة…….”
“ولِمَ يكون ذلك من مهام مقيمة مبتدئة؟ بل ومن قسم الطوارئ تحديدًا؟ أيحقّ لكم أن تتدخّلوا في شؤون غيركم؟!”
كلماته لم تقتصر على رفضها، بل طعنت كرامتها وكرامة تخصّصها كلّه. شحبت ملامح “دان-آه”، لكن قبضتها اشتدّت على الورق وهي تهمّ بمحاولة أخرى. فالمرضى أهم من كبريائها.
“رجاءً، ألقِ نظرة واحدة على هذا التقرير فقط…….”
“كفى! أتظنين أنّي لا أعلم ما أفعل؟ لأنّ المرضى ينادوكِ بـ’الدكتورة’، ظننتِ نفسكِ طبيبة بحق؟”
وبحركة غاضبة، دفع يدها بعيدًا وأدار ظهره. حاولت أن تلحق به، لكن قدميها خانتاها، فسقطت أرضًا منهارة.
لم تعد تدري إلى أين يمكن أن تتجه. لا أحد يريد الإصغاء، ولا سبيل يلوح في الأفق.
ــ “أتتوقعين أن يستمع رئيس المركز إلى كلمة مقيمٍة صغيرة؟ في أفضل الأحوال سينهركِ، وفي أسوأها ستُوسَمي وتُقصَري مسيرتك. أتنوي أن تودّعي الطب بعد عامك الأول؟”
هكذا كان “تشانغ-هون” قد حذّرها من قبل. وها هي الآن ترى صدق كلماته.
“……لقد وُسِمتُ بالفعل.”
تمتمت بمرارة وهي تدفع نفسها واقفة رغم ثقل ساقيها. إذا لم يُنصِفها رئيس المركز، فربما هناك أستاذ آخر يُصغي. يكفي طبيبٌ واحد يؤمن بكلامها كي تنقذ حياةً أو أكثر.
في تلك اللحظة، شعرت بخطى تقترب وصوتٍ مألوف ينساب من فوقها:
“ما الذي يحدث هنا، دكتورة تشا دان-آه؟”
شهقت، ورفعت رأسها دفعة واحدة. ارتجفت عيناها حين وقعتا على الرجل الواقف أمامها.
حتى وهو يرتدي زي المرضى، بدا كما لو كان مرتديًا بزة أنيقة مشدودة بعناية.
كان هو. كوون مين-جون.
“أعتذر… لم أُدرك أن الأمر أفلت من يدي. على أي حال، كيف تسير أمور إقامتك؟ أجريت كل الفحوص الأولية؟ والغد، في أي ساعة يكون الاختبار…….”
قاطعها صوته الحازم:
“أي دواء هو الذي اكتشفتِ فيه الخلل؟”
تسمرت مكانها، واتسعت عيناها قبل أن تُطبِق شفتيها. ثم أخذ الاحمرار يتسرّب إلى وجهها رويدًا رويدًا.
“……لقد رأيت كل شيء إذًا.”
“صدفة ليس إلا. لكن لا تقلقي، لم يكن هناك أحد غيري يسمع أو يرى.”
كان واثقًا أنّ ذلك الرئيس ما كان ليتجرّأ على تلك الفظاظة لو عَلِم أنّ ثمّة شاهدًا حاضرًا. لا بد أنه تصوّر أنّها وحيدة، لذلك صبّ عليها جام غضبه دون تردّد.
“…….”
غير أنّ الكلمات التي أضافها “مين-جون” ليُطمئنها لم تُجدِ نفعًا، إذ ظلّ القلق بادياً على محيّا “دان-آه”. نظر إليها مليًّا، إلى وجنتيها المتورّدتين حمرةً، ثم حوّل بصره عنها.
هبّت نسمات لطيفة تتسرّب إلى السرداق الخشبي الصغير الذي يجلسان فيه. مكان هادئ، حتى لينسى المرء أنّه في صرحٍ طبيّ يعجّ بالمرضى.
قال “مين-جون” بهدوء: “لم أتخيّل قط أنّ في المستشفى ركنًا كهذا.”
فهو ركنٌ ناءٍ، بعيد عن المبنى الرئيس والمباني الملحقة، بل حتى عن قاعة الجنازات. ومن النادر أن يزوره أحد. أمّا هي، فلم تطأه إلا مرّاتٍ معدودة حين جرّها صديقها “را-كيونغ” أيام تدريبها الإكلينيكي.
كادت تغرق في ذكريات صديقها لولا أنّها أسرعت تُبعدها عن ذهنها، ثم التفتت نحو “مين-جون”. كان يحدّق إلى المشهد أمامه، أو لعلّه لم يكن يحدّق في شيء بعينه، فالنظرة في عينيه كانت شديدة الخلو من الاهتمام.
‘أهو بسبب الكمامة؟‘ هكذا حدّثت نفسها. فقد غطّت الكمامة نصف وجهه، فلم تستطع أن تستشف ملامحه. لكنّها ما لبثت أن رفضت الفكرة؛ إذ شعرت أنّه حتى بلا كمامة، سيبقى منغلق الملامح، عصيّ القراءة.
‘إلا إذا كان فمه وراءها فاغرًا أو مُشوّهًا… وهذا مستحيل.‘
“… فُفُه!”
لم تتمالك نفسها فضحكت من خيالها السخيف. فالتفت إليها “مين-جون” بعينين متسائلتين.
ارتبكت وقالت: “آه… لا شيء. مجرد… همم.”
لوّحت بيدها نافية، ثم شيئًا فشيئًا انحسر ابتسامها، وعاد قلبها يثقل كما كان. جمعت يديها معًا وسكتت. لم يسألها “مين-جون” مجددًا، بل اكتفى بردّ بصره إلى الأفق.
مرّ وقت ساكن، كأن ضجيج المستشفى قد انقطع عن العالم. ثم تسرّب صوتها خافتًا ليشقّ السكون:
“كان لدينا مريضة في قسم الطوارئ…”
عادت بها الذكرى إلى ذلك اليوم. لا تزال تذكر دموع ابنة المريض وهي تتشبّث بها يائسة. مأساة لم يكن لهم أن يذوقوها لو لم يتناول الأب ذلك الدواء المشؤوم. كان من الممكن أن يقضوا وقتهم سويًا في حياةٍ طبيعية، بدل أن يُقذفوا إلى عتمة العناية المركّزة.
قال “مين-جون” بعد أن أصغى مليًا: “إذن كان القاسم المشترك بينهم ذلك الدواء. ولهذا طلبتِ فحص مكوّناته سرًا… فجاءت النتيجة كما توقّعتِ.”
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 24"