ما إن عاد مين جون إلى العمل حتى سارع موظفو قسم التخطيط والإدارة إلى الوقوف لتحيته. فبادلهم إيماءةً خفيفة من رأسه دون أن يبطئ خطاه، ثم مضى مباشرةً إلى مكتبه.
لحقته السكرتيرة بخطوات حذرة، وقلق ظاهر في ملامحها، قبل أن تهمس بصوت متردد:
“سيدي… أليس من المبكر جدًا عودتك إلى العمل؟”
“لا بأس، أنا بخير.”
“مع ذلك… أرجو ألا تُجهد نفسك…”
لكن قبل أن تُكمل قلقها، قاطعها رنين هاتف مين جون. أشار إليها بوضع الملفات على المكتب ثم الانصراف، قبل أن يلتقط الهاتف ويجيب بصوت ثابت:
“معك كوان مين جون.”
صوته لم يحمل أي أثرٍ لوهن أو مرض، رغم أنه بالكاد خرج من المستشفى بعد أزمة صحية خطيرة. تأملت السكرتيرة ذلك الثبات البارد في نبرته، ثم تنهدت بصمت، وضعت الملفات بهدوء وغادرت.
“آه، لا أعلم ما الذي قيل لك بالضبط…”
قالها مين جون وهو يرتدي نظارته ويقلب أولى الأوراق أمامه. وبينما كانت عيناه تمسحان الملفات بنظرات صارمة ودقيقة، استمر في الحديث عبر الهاتف بنبرة رسمية:
“لا، لا توجد أي مشكلة. بالطبع. نعم، نلتقي قريبًا.”
وما إن أنهى المكالمة حتى ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة. كانت المكالمة تحت عنوان “تهنئة على الشفاء”، ولكن…
هل كانت فعلًا تهنئة؟ أم محاولة لمعرفة… متى سيموت؟
‘أظن المتصل نفسه يعلم الغرض الحقيقي من اتصاله.‘
جلس في كرسيه وأرخى ظهره على مسنده، ثم رمق النافذة بنظرة متأملة. كل ما يراه: ناطحات سحاب شاهقة وشوارع مستقيمة لا تنتهي.
ربما هذا هو المشهد الأخير الذي سيراه عند موته.
“نسبة ضخ القلب تقل عن 20%. في أي لحظة قد تصاب بصدمة قلبية مفاجئة.”
ما قاله الطبيب لا يزال يتردد في أذنيه. سقط مين جون بالفعل في مكتبه الأسبوع الماضي، وتم نقله على الفور إلى المستشفى. ومنذ ذلك الحين وهو مقيم هناك، حتى خرج بالأمس… ولو لم تصرّ عليه السكرتيرة، لكان قد عاد إلى المكتب فور خروجه. نعم… تنفّسه تحسّن قليلًا عمّا كان، ولكن إلى متى؟
“أنصحك بالبقاء في المستشفى إلى حين توفر القلب المناسب للزراعة.”
كان رأي الطبيب واضحًا. لكن مين جون لم يكن راغبًا في إهدار ما تبقى له من وقت، وهو يعلّق حياته على احتمالٍ غير مؤكد. حتى جهاز المساعدة القلبية (LVAD) لم يكن خيارًا متاحًا، إذ أن حالته تشمل فشلًا في البطين الأيسر والأيمن معًا. ببساطة… لقد حُكم عليه بالموت.
ورغم ذلك، فإن ملامحه ظلت باردة كالجليد، خالية من أي أثرٍ للذعر. عاد يطالع الملفات بهدوء وكأن شيئًا لم يكن.
وضع اسمه على قائمة الانتظار لزراعة القلب، لكنه لم يتوقع الكثير.
حتى لو اقترب الموت منه أكثر فأكثر، فإن شيئًا لن يتغير.
نعم… لم يكن خاليًا من الشعور بالظلم، لكن…
‘وماذا في ذلك؟ هذه هي الحياة.‘
لو كانت الحياة تسير وفق مشيئة الإنسان، لما أقدمت والدته على إنهاء حياتها بيديها، ولما وُلد هو في أسرةٍ كهذه.
‘ولما كانت هناك حوادث عبثية تودي بحياة الناس وهم لا يزالون في ريعانهم.‘
فكر فجأة في حادثة الحفرة الأرضية (Sinkhole) التي وقعت الأسبوع الماضي. كارثة أودت بحياة عشرات الأشخاص في قلب سيول. وقد حدث ذلك بالقرب من مستشفى “جامعة كوريا” حيث كان يرقد، ولهذا تخلّدت المشاهد في ذاكرته.
الانفجار… صفارات الإنذار التي لم تتوقف… هزّة الأرض التي وصلت حتى غرفته.
وبينما كان يهمّ بتحويل نظره من النافذة إلى الأوراق، قطع تفكيره صوت رنين آخر من هاتفه المحمول.
رنين طبيعي، لكن وقعه في أذنه لم يكن طبيعيًا.
مد يده، وعندما رأى الرقم على الشاشة… توقّف.
كان الرقم عائدًا لمركز زراعة الأعضاء في مستشفى جامعة كوريا.
“لدينا متبرع بالقلب… هل تود تلقي الزراعة؟”
جاء صوت الموظف هادئًا، أشبه بتلاوة تقرير عادي. لكن وقع كلماته كان مدوّيًا.
“لجنة تحديد الوفاة الدماغية ستنعقد بعد ظهر اليوم. سيتم إجراء اختبارين للموجات الدماغية، وإذا تأكدت الوفاة، سيتم استخراج القلب وإجراء الزراعة خلال 4 ساعات.”
كان الموظف يتحدث كأنما يقرأ من كتيّب إجراءات طبية. ومين جون اعتقد أنه سيستقبل خبر موته بهذه البرودة نفسها. لكن الواقع… كان شيئًا آخر تمامًا.
درررر—
نهض مين جون من مقعده فجأة، فانزلق الكرسي إلى الوراء مُصدرة صوتًا مكتومًا، وفي اللحظة ذاتها، سقط قلم الحبر الفاخر من على سطح المكتب نحو الأرض.
لكنّه لم يفكّر حتى في التقاط القلم. كلّ ما فعله هو أنه أمسك بهاتفه الجوال بكلتا يديه بقوة، كما لو كان يتمسّك بالحياة ذاتها.
أُريد أن أعيش.
للمرة الأولى، فكّر “مين جون” بتلك الطريقة. لم تكن الحياة شيئًا يمكن التخلي عنه بتبلُّد، ولم يكن الموت أمرًا يُستقبل بهدوء.
“.. سأقبل. نعم، سأتوجه إلى هناك حالًا.”
كانت تلك فرصةٌ للبقاء، تُمنَح في مقابل موتِ أحدهم. ولم يكن مستعدًا ليُفوّت تلك الفرصة أبدًا.
* * *
سقطا معًا. إلى أسفل حفرة عملاقة بعمق اثني عشر مترًا.
لكن المصير لم يكن واحدًا. فبينما اقتصرَت إصابات دان آه على كسور في ثلاثة أضلاع، أصيب راكيونغ بنزيف تحت الجافية ناتج عن صدمة عنيفة في الرأس، ولم تمضِ لحظات حتى دخلت في حالة موت دماغي على طاولة العمليات.
كان جذع الدماغ، بل الدماغ بأسره، قد تضرّر بالكامل. لم يكن هناك أي احتمالٍ للنجاة. لم تستطع دان آه، رغم كل إنكارها، أن تتشبّث حتى بخيط أملٍ واحد. لم تكن مجرد شخصٍ عادي، بل طبيبة، ولهذا كانت الحقيقة أمامها صارخة لا مفرّ من مواجهتها.
وللحظة، كرهت كونها طبيبة بشدة. كانت تتمنى لو بإمكانها أن ترمي الأحكام الطبية إلى الجحيم. أن تصرخ بذلك دون خوف.
لكنها، في النهاية، لم تملك إلا القبول. كانت تعرف جيدًا كم أن التعلّق بأملٍ زائف، ليس سوى خُدعة قاسية.
“لقد سجلت نفسي كمتبرع بالأعضاء.”
” إنه راكيونغ، دكتور “جي”. لقد سجّل نفسه كمتبرع بالأعضاء منذ كانت متدرّب في السنة الماضية…”
لم يكن أحدٌ يتخيل أن الأمور ستؤول إلى هذا المصير. من قد يُسجّل كمتبرع بالأعضاء متوقّعًا موته بهذه السرعة؟
“لقد أُثبت أن القلب، والكبد، والعينين، صالحين للتبرع.”
جاء “سوك وونغ” عابس الوجه، مُنتفخ العينين من البكاء، وأخبرهم بقرار لجنة تحديد الوفاة الدماغية. لم يكن لـ “راكيونغ” أي أقارب على الإطلاق، لذا قام أستاذه المشرف “جانغ كي هون” بطلب تقييم الوفاة بصفته الطبيب المسؤول عن حالته.
“الرئتان، الكليتان، البنكرياس، الأمعاء الدقيقة… لقد تضررت كثيرًا ولا يمكن استخدامها.”
أغمضت دان آه عينيها بينما كانت تستعيد كلمات “سوك وونغ” التي قالها بصوتٍ متقطع بين نشيجه.
“أنا أحب إنقاذ المرضى. أشعر أن المرضى الذين أنقذتهم هم مَن يربطونني بهذا العالم.”
ظلّت كلمات “راكيونغ” تتردّد في أذنها. في تلك اللحظة، استهزأت دان آه بكلامه واعتبرته عاطفيًا مبالغًا فيه. لكنها، في قرارة نفسها، كانت تعتقد أن فيه لمسة من الروعة.
فـ”راكيونغ” كان مختلف عنها تمامًا. لم يدخل كلية الطب بدافعٍ من رتبةٍ دراسية، بل بدافعٍ من شغفٍ حقيقي ومهمةٍ إنسانية.
‘…كان يرغب في إنقاذ أكبر عدد ممكن من الناس.’
ربما لأنه لم يستطع تحقيق تلك الأمنية تمامًا، أو لأن جسد “راكيونغ” كان مدمّرًا إلى تلك الدرجة، شعرت دان آه بوجعٍ يمزّق صدرها.
وهي تهمّ بأن تضرب صدرها المثبّت بحزام ضاغط، سُمِع طرقٌ على الباب، ثم فُتِح.
“سمعتِ أنكِ ستُغادرين المستشفى… ماذا تفعلين؟”
دخل “سوك وونغ” الغرفة، ولما رأى دان آه تتحرّك، صُدم واندفع نحوها.
“يا فتاة! كيف تتحركين هكذا؟ حتى لو لم تضطري لإجراء ثوراكوستومي، لا يزال هناك هيموثوراكس في صدرك!”
شرح :
“كيف لك أن تتحركي وهناك دم متجمّع حول رئتيكِ؟ حتى وإن لم تُجري تلك العملية، فحال جسدكِ ليس طبيعيًا الآن!”
“…لماذا جئت؟ لا بد أنك مشغول.”
كانت قد سمعت أنه غيّر جدول أعماله بالكامل ليبقى في بيت العزاء طوال الأيام الثلاثة للجنازة. ولم يكن ذلك أمرًا سهلًا أبدًا.
“مهما كنت مشغولًا، لا يمكنني ألا آتي حين تخرج صديقتي من المستشفى، أليس كذلك؟ أليست هذه هي المحبة بين الزملاء؟”
“أي محبة هذه… ثم حتى لو خرجت، لا مكان لي لأذهب إليه.”
لطالما عاشت حياتها في هذا المستشفى، والآن، بات هذا المكان الوحيد الذي بقي لها.
في يوم خطوبتها، لطّخت وجه عائلتها بالعار وهربت، ولم يكن من الممكن أبدًا أن يقبلوها بعد ذلك مجددًا. والدليل؟ أنهم لم يزوروها ولو لمرة واحدة خلال فترة مكوثها بالمشفى.
كان ذلك بمثابة إعلان قطيعة.
منذ صغرها، كانت تتوسل الحب والاهتمام… ولم تحصل، في النهاية، إلا على هذا المصير البائس.
عضّت على شفتيها المرتعشتين، ثم بدأت تحزم أغراضها. وإن كان يُسمى “حزمًا”، فحقيقتها لم تكن تملك شيئًا يُذكر. دبّ دمية، وبعض الملابس، ملابس داخلية، مناشف…
وبرغم قلّة الحاجيات، كانت حركتها بطيئة، ولم تنتهِ بعد.
في تلك اللحظة بالتحديد…
“سوك وونغ” بدأ يتردّد، وكأنه يود أن يعطيها شيئًا.
“…ما بك؟”
“آه، لا شيء… تباً، لا أعرف كيف أقولها! خذي!”
تنفّس بعمق، ثم أخرج شيئًا من جيب معطفه الأبيض ووضعه في يدها دون مقدمات.
“…؟”
حدّقت دان آه باستغراب فيما أمسكته. كان وحدة تخزين USB صغيرة، من ذلك النوع الرخيص الذي يُباع في مكتبة المستشفى.
ما هذا بحق؟ رفعت نظرها إليه بتساؤل، فبدأ “سوك وونغ” يفرك وجهه بعصبية بكفّيه، ثم تكلّم أخيرًا.
“صوت قلب… إنها نبضات قلب “راكيونغ”، سجّلتها.”
“…ماذا؟”
اهتزّت عينا دان آه، لم تكن قد استوعبت بعد ما قيل، ومع ذلك، شعرت بشيء يهبط داخل صدرها كما لو أن قلبها سبق عقلها في الفهم.
“قلب “راكيونغ”… أجريت له عملية زراعة هنا، في المستشفى. واليوم، التقطنا للمريض صورة بالأشعة فوق الصوتية…”
“…!”
وكأنّه أراد أن يؤكد على ما قاله، تابع حديثه. فتحت دان آه عينيها على اتساعهما، وقبضت على الـUSB بقوة لا إرادية.
في الداخل… نبض قلب “راكيونغ”.
قلبه… لا يزال ينبض.
في هذه اللحظة… في هذا المستشفى… في مكانٍ ما.
معلومة الفصل : ثوراكوستومي (Thoracostomy): إجراء طبي بيعملوا فيه فتحة في جدار الصدر علشان يركّبوا أنبوبة، والهدف منها تفريغ الهواء أو السوائل أو الدم اللي بيتجمع حوالين الرئة. يعني عملية إنقاذ للرئة عشان ترجع تتنفس بحرية، مش تفضل مكتومة
هيموثوراكس (Hemothorax): ده مصطلح يعني إن في دم اتجمّع في التجويف الجنبي (الفراغ حوالين الرئة)، وده بيحصل غالبًا بعد إصابة أو كسر في الضلوع أو بسبب نزيف داخلي، وطبعًا بيكون مؤلم وبيأثر على التنفس جدًا.❤️
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"