“أفيقي يا تشاي دان آه!”
ارتطم صوت جون ها الصارم في أذنيها، فاهتز كيانها كله، وفي لحظةٍ خاطفة عادت بها الذاكرة شهرين إلى الوراء.
إلى يوم خطوبتها.
اليوم الذي هرعت فيه خلف السرير المتنقّل الذي كان يحمل را-كيونغ، قبل أن تتعثر وتسقط أرضًا.
اليوم الذي شاهدت فيه زميلها من قسم الطوارئ يضغط بكل ما أوتي من قوة على صدر را-كيونغ في محاولة يائسة لإنعاشه… قبل أن يتلاشى المشهد أمام ناظريها إلى نقطة ضبابية صغيرة ثم يختفي.
أصداء العجلات وهي تتدحرج على أرضية الممر، وصيحات الطاقم المذعورة، ارتدت في رأسها كطنين أذن لا ينقطع.
وعادت رائحة الدم الثقيلة، التي هزّت حواسها في ذلك اليوم، لتخنقها من جديد.
ذلك النزيف الغزير الذي لا يتوقف، الأحشاء الممزقة، والساق المطحونة الممزقة المتدلية.
“أتريدين قتل المريض؟ تماسكي!”
صوت جون ها الحاد اخترق مسامعها كالصاعقة. ارتجف جسد دان آه ثم رمشت سريعًا لتستعيد بصرها.
رأت إن-هو وهو يثبت القسطرة الوريدية المركزية ويأمر بضخ كميات هائلة من السوائل منعًا لصدمة نقص حجم الدم.
عادت عيناها إلى المريض. الدم كان يتفجر من بطنه بلا توقف. وأسفل السرير المتنقل تراكمت مناشف سميكة، مشبعة بالدم حتى آخر خيط فيها.
(مناشف مسروقة – ○○ حمام البخار).
تذكّرت دان آه ضحكات تشانغ-هون ذات يوم حين أراها على الإنترنت صورة لتلك المناشف التي تحمل العبارة الغريبة. علّق يومها قائلاً: “كم سرق الناس حتى اضطرت الحمامات أن تكتب هذا على المناشف؟” … وقد ضحكا معًا طويلًا. بل إنها حدّثت نفسها أن تروي تلك الطرفة لاحقًا لرا-كيونغ… لكن لم يتح لها الوقت.
“اتصِلوا فورًا بجراحة الإصابات!”
صوت إن-هو المستعجل دوّى، وفيما دان آه تتمايل وتتراجع إلى الجانب، اندفع السرير مسرعًا أمامها.
تمامًا كما في ذلك اليوم… يوم نُقِل فيه را-كيونغ.
الدم يلطّخ الأجواء برائحته المروّعة، وهي، كما آنذاك، عاجزة حدَّ اليأس.
“…هَه…”
اختنق صدرها وكأن حبلًا يطبق على عنقها. لهثت، ثم خرّت جاثية. أظلمت الدنيا في عينيها وغشاها دوار شديد.
“الدكتورة تشاي؟ دان آه! ما بكِ؟”
شعرت بيد تمسك كتفها وتهزها. لم ترَ من يكون، كل ما فعلته أن مدت يدها لتقبض بيأس على طرف ثوبه.
(أنقذه… أرجوك).
“أنقِـ…”
“دان آه!”
(أنقذ را-كيونغ… أرجوكِ أنقذه).
لكنها لم تنطقها، بل سقطت فاقدة الوعي. آخر ما وصلها كان أصوات من يناديها بجزع، ثم انقطعت ذاكرتها.
* * *
انفرجت جفون دان آه ببطء. سقف أبيض ناصع، وأضواء نيون لاذعة اخترقت بصرها. رفعت يدها لتحجب الضوء، فشعرت بشيء يعيقها. أملت رأسها قليلًا، لترى إبرة المغذي مغروسة في يدها.
“…آه.”
حاولت أن تجلس. دارت بها الدنيا قليلًا، لكنها تماسكت بصعوبة حتى استوت جالسة. مدّت يدها لتنزع الإبرة، لكن الستار انزاح فجأة، تلاه صوت نبرة تأنيب.
“كنت أعلم! لم تستطيعي حتى أن تلتزمي بالراحة؟”
رفعت رأسها. “…الدكتور أوه، ماذا حدث؟”
كان القادم زميلها تشانغ-هون. لكنها لم تحظَ بالإجابة، إذ قطّب حاجبيه وقال بحدة:
“أنا الذي أسألك! ما الذي جرى لكِ؟”
– “ماذا تقصد؟”
– “لقد فقدت وعيك! ألا تذكرين؟”
ارتجفت عيناها، وعاد المشهد يسيل في ذاكرتها.
قال بصوت متزن: “ألا ترين أنه من الأفضل أن تراجعي قسم الطب النفسي العصبي؟”
– “ماذا؟ لا! لم يكن الأمر هكذا… فقط شعرت بالدوار.”
هزّت رأسها نافية. لكن تشانغ-هون لم يتراجع:
“دان آه، لقد رأيتِ را-كيونغ في ذلك المريض، أليس كذلك؟ أنكريني إن استطعتِ.”
شهقت. وجهها شحب فجأة. وعندها أكمل بصرامة:
“هذا اضطراب ما بعد الصدمة، PTSD. تحتاجين إلى علاج.”
صرخت: “لا! ليس كذلك!”
بنزقٍ نزعت إبرة المغذي، فاندفع الدم على ظهر يدها وانساب، لكنها لم تعبأ.
“أنا بخير. لا شيء بي. فقط… متعبة قليلًا. قلة نوم… وربما فقر دم… هذا كل شيء!”
لم تُصغِ لاعتراضاته، بل نهضت مترنحة وهربت. قطرات الدم تساقطت خلفها، تلطّخ الأرضية.
(أنا بخير… لا شيء بي… بخير…).
ركضت حتى خرجت من قسم الطوارئ، واتجهت إلى الدرج الخلفي. أغلقت الباب خلفها، وهوت جاثية تضم رأسها بكلتي يديها.
“ليس كذلك… ليس كذلك أبداً…”
دمها لوّث شعرها ووجهها، لكن لا وقت لتلك التفاصيل. لم يبقَ في ذهنها سوى فكرة واحدة تتردد بإلحاح:
الرجل الذي يحمل قلب را-كيونغ.
كان لا بد أن تراه.
أن تراه وحده… علّها تستطيع أن تتنفس من جديد.
* * * *
“إنَّ قوّةَ كوريا الجنوبيّة لا تنبع من الأرض ولا من الموارد، بل من الإنسان ذاته. تلك كانت الكلمات التي اعتاد والدي الراحل ن يؤكّد عليها دومًا. غير أنّي في صغري لم أستوعب مغزى حديثه. وكنتُ في قرارة نفسي أتساءل: ما الذي يمكن أن يقدّمه بلد صغير كهذا، لا يملك من الأرض إلا القليل، ولا يفيض منه حتى قطرة نفط واحدة؟”
ارتسمت على وجوه الحاضرين ابتسامات مجاملة عند سماع كلمات “كوان غي-هان”، رئيس مجموعة “تايونغ”. أمّا الوحيد الذي ظلّ عابس الوجه، بلا أثر من سخرية ولا حتى انفعال، فهو ابنه الأكبر “مين-جون”.
كان “مين-جون” يتأمّل والده وهو يضيّع وقته بكلمات لا طائل منها، فانقبض ما بين حاجبيه، ثم حوّل بصره إلى الأطفال الجالسين صفًّا قرب المنصّة.
هؤلاء كانوا أبطال الحفل اليوم، حفل تسليم المنح الدراسيّة.
أو بالأحرى: كان ينبغي أن يكونوا الأبطال… لكنّهم الآن مجرّد خلفيّة لخطبة والده المطوّلة.
قال غي-هان:
“غير أنّي اليوم أُدرك حقًّا ما قصده والدي. لقد كان للإنسان أعظم الدور في جعل كوريا الجنوبيّة تزدهر إلى هذا الحدّ. فالابتكارات التقنيّة التي تسبق المستقبل، والثقافة التي تأسر قلوب العالم، كلّها تنبع من الإنسان نفسه.”
ثم استدار أخيرًا نحو الأطفال، كأنّه تذكّر وجودهم لتوّه. وما إن وقعت أنظاره عليهم حتى ارتجفوا قليلًا، وجلسوا باستقامة، بعد أن ضاقوا ذرعًا بخطبته الطويلة.
وأضاف بصوت يعلوه حماسة مصطنعة:
“وهؤلاء الطلّاب هنا، إنّما هم العقول التي ستقود كوريا إلى قفزة جديدة في الغد! وإنّ مجموعتنا، مجموعة تايونغ، مستعدّة دومًا لأن تكون السند الذي يعضد خطواتهم!”
تبع ذلك تصفيق متقطّع من الحاضرين. حتى “مين-جون” اضطر إلى أن يصفّق مرّات قليلة، قبل أن يُسدل يده ببرود.
قال غي-هان مبتسمًا لابنه:
“تقدّم يا مدير كوون، والتقط صورة مع الطلّاب.”
بعد أن التُقطت صور عدّة للأطفال وهم يحملون شهادات المنحة، التفت إلى “مين-جون” ليدعوه، غير أنّ الأخير هزّ رأسه هدوءًا وردّ قائلًا:
“لا داعي. ثم إنّني أضع القناع على وجهي على أيّ حال…”
قهقه أحد أعضاء مجلس إدارة المؤسّسة ساخرًا:
“هاهاها! وأيّ قناع ذاك الذي يحجب وسامة مديرنا كوون؟! إنّ الطلّاب لا بدّ أن يسعدوا بالتقاط صورة مع وجه جميل مثله. أليس كذلك يا أبنائي؟”
نظر الأطفال إلى بعضهم البعض بنظرات متردّدة، وارتسمت على وجوههم ابتسامات محرجة.
تدخّل “مين-جون” قائلًا بهدوء وهو يرفع معصمه ليتفقد الساعة:
“ذلك صحيح، ولكن يبدو أنّنا إن واصلنا على هذا المنوال سنتأخّر عن موعد العشاء.”
قطّب كي-هان حاجبيه وسأله مستغربًا:
“عشاء؟ أهناك موعد ينتظرك؟”
فأجابه الابن متردّدًا:
“ليس لي أنا… بل…”
وما إن التفت إلى الخلف حتى تقدّم سكرتيره بخطى واثقة قائلاً:
“لقد أعددنا بوفيه في قاعة الاحتفالات بالطابق السفلي، ليحظى أبناؤنا الطلاب بعشاء قبل مغادرتهم.”
“وااه!”
انفجرت بين صفوف الأطفال صيحات فرح صغيرة، بعد أن ظلّوا صامتين طوال الحفل. أما “مين-جون”، فغادر القاعة تاركًا خلفه أصواتهم المتحمّسة.
لقد كان مضطرًّا –إلى جانب عمله في “تايونغ للتجارة”– أن يشغل منصبًا في مجلس إدارة مؤسّسة المنح. وهذا ما أجبره على حضور مثل هذه الفعاليّات المرتبطة بالمنح والبرامج الخيريّة. غير أنّها كانت –في نظره– أكثر المهام مقتًا.
فلم يكن الغرض منها سوى استدعاء الصحفيين، والتقاط الصور أمام الكاميرات… دون أي معنى آخر.
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 15"