1
في مساءٍ متأخر، وبينما كانت السيارات العائدة من ساعات العمل الطويلة تملأ الطرقات، جلست “دان آه” في إحدى السيارات المركونة، تراقب المارّة بعينين قلقتين، كأنّها تخشى أن يفوتها وجهٌ واحد، أو تغفل عن سيارة طال ترقّبها.
همست لنفسها بتنهيدة حزينة:
“يبدو أنه سيتأخّر مجددًا هذا اليوم أيضًا… يا ربّاه، ألا يكترث لصحّته؟ لا بدّ أن يكون أكثر حرصًا… لا سيّما خلال هذين الشهرين، أو الثلاثة.”
كانت عضّتها على شفتيها تفضح اضطرابها، وذراعاها مشدودتان بتوتّرٍ خفيّ. وفي اللحظة التي أعادت فيها بصرها المرتبك إلى النافذة، تسلّلت بهدوءٍ آسر سيارة سيدان سوداء، تتهادى كطيفٍ نبيل نحو موقف السيارات.
“……!”
اتّسعت عينا “دان آه” بذهولٍ عاجز؛ كانت تلك هي السيارة ذاتها… التي تنتظرها بشوقٍ مُثقَل بالخوف.
لكنها، ما إن أدركت ذلك، حتى انكمشت في مقعدها على الفور، وكأنها تخشى أن تقع عيناها في مرمى نظراته.
لم تُظهر من جسدها سوى عينيها، تطلان من خلف المقعد الأمامي، ترقبان المشهد في صمتٍ متوجّس.
توقّفت السيارة في مكانها تمامًا، ثم ما لبث أن نزل منها رجل.
كان طويل القامة، مهيب الطلعة، يرتدي معطفًا داكنًا يلامس الأرض بكبرياء. ورغم أن نصف وجهه كان مغطّى بقناعٍ أسود، إلا أن وسامته الباذخة كانت صارخة، لا تخفى على ناظر.
لكن “دان آه” لم تكن تنظر إلى وجهه… بل إلى ما وراءه.
ما يعنيها وحده، هو قلبه.
“أرجوك، فقط اعتنِ بنفسك قليلًا، أيها المريض كوون مين جون… خرجت لتوّك من المستشفى، وتظنّ أنّ القناع يخفي عني ما أراه فيك؟”
قالتها بصوتٍ متهدّج، يكاد يذوب بالقلق، قبل أن تخنقها شهقة مباغتة، حين رأته يستدير فجأة، ويتجه بخطًى عريضة… مباشرة نحوها.
‘م-مستحيل… هل رآني؟‘
الظلام دامس، والرؤية ضعيفة… فلا يُعقل أن يكون قد انتبه لوجودها.
لكنّه اقترب… بخطواتٍ دقيقة، لا تخطئ، نحو السيارة التي تختبئ فيها.
‘ماذا أفعل الآن؟! أألوذ بالفرار؟!‘
انحنت بسرعة نحو الجهة الأخرى، محاولةً أن تخفي جسدها عن الأنظار، لكن…
طق، طق.
ارتعد قلبها، وتصلّب جسدها. التفتت ببطء، بعينين متسعتين، نحو نافذة السائق.
كان يقف هناك رجل، يطرق الزجاج بأصبعه، ويشير إليها بخفّة… دون أن ينبس بكلمة.
ومع ذلك، كانت رسالته واضحة:
اخرجي.
أُمسكت.
أغمضت “دان آه” عينيها بقوة، كمن يتمنّى لو يختفي، ثم فتحتْهما بتصميمٍ واهن، وخرجت من السيارة بخطًى مترددة، تحاول إخفاء اضطرابها المشتعل.
“هل من أمر يشغلك—”
“قسم الطوارئ. مستشفى كوريا الوطني.”
قاطعها صوته الحادّ، البارد، كأنه قاطع سيف.
توقّف الزمن للحظة.
رفعت رأسها، تقابل عينيه بنظرةٍ لم تخلُ من رجفةٍ داخليّة.
كانت عيناه أشبه بجدارٍ من الجليد… صلب، قاسٍ، لا يسمح بالعبور.
لم يمهلها لترتّب كلماتها، أو تُرمّم ارتباكها، بل أردف:
“هل أنتِ الطبيبة تشا دان آه؟”
“……!”
إنه يعرفها.
كانت تلك الحقيقة كفيلة بأن تُفرغ الدم من وجهها، وتشدّ أطرافها نحو هاوية الخوف.
لم تملك حتى السؤال:
كيف؟ كيف تعرفني؟
بل لم تدرِ ما الذي يجب أن تقوله أصلًا.
مسحت وجهها براحة يدها المرتعشة، وارتبكت في تمتمة:
“أ-أعني… في الحقيقة…”
“نحن لسنا غريبَين عن بعض، أليس كذلك؟”
“……!”
اتّسعت عيناها من جديد، وكأنّ الصدمة تتكرر. كان بإمكانها أن تنفي، أن تدّعي الجهل به… لكنها لم تفعل.
فمنذ أن التقت نظراتها بنظراته… تلاشى صوتها، وسُحب منها لسانها كأنّه وُثق بقيودٍ غير مرئية.
“هل أنتِ… تطاردينني؟”
كان صوته هادئًا… لكن في هدوئه قسوةٌ لا تُحتمل.
مطاردة؟!
هل أطلق عليها هذا اللقب؟!
رغم أن ما تفعله قد يُشبه التتبع، إلا أن الأمر ليس كما يظنّ.
هزّت رأسها سريعًا، في نفيٍ قاطع، متوتر.
“لا! إطلاقًا! أنا لا—”
“إذن فسّري. ما سبب تواجدكِ المتكرر حول منزلي… وحول شركتي؟”
“…….”
صمتٌ مطبق.
لم تنبس ببنت شفة، لكن قبضتيها المرتجفتين، كانتا تعكسان كل ما تعجز عن قوله.
شعرت بالاختناق.
وفي لحظة… سُحبت ذاكرتها قسرًا نحو الماضي…
نحو اليوم الذي تغيّر فيه كل شيء.
ذلك اليوم… الذي انشقت فيه الأرض تحت قدميها في قلب سيول.
أو لنقل، اليوم الذي… خُطِبَت فيه.
✦ قبل عدّة أشهر ✦
“هيه! توقّف! لا تهرب أيها الجبان!”
ذاك الرجل، نجل رئيس مجموعة “جينسونغ”، والذي كان من المفترض أن يكون خطيبها، كان يصيح ويطلق السباب يمينًا ويسارًا.
لكن “دان آه” لم تعبأ به، أمسكت بيد “راكيونغ”، وانطلقت بها خارج قاعة الحفل. كان فستانها المعقّد يلتف حول قدميها، يُعرقل خطاها… لكنها لم تتوقّف.
كان لا بدّ أن تهرب.
ولم يكن هناك مفرّ.
…صحيح، هذا لم يكن جزءًا من خطّتها، لكنها لم تجد طريقًا آخر.
“راكيونغ! هذا لم يكن ضمن الاتفاق! التظاهر بأنك حبيبي كان كافيًا!”
قالتها وهي تندفع إلى داخل سيارته القديمة، بالكاد تلتقط أنفاسها.
لكنه، وهو يدير المحرّك ويبتعد عن الحفل، أجابها بجفاف بارد:
“ذلك لم يكن كافيًا. أردتُ أن يفهم والداك أن الأمر حقيقي. كان لا بدّ من لمسة… أقوى.”
“ولأجل هذه اللمسة (القوية)، خطّطتَ لتلك الحماقة دون أن تُخبرني؟! كنتُ سأُغمى عليّ! ومن أين جئت بتلك الدمية؟!”
توقّف عند إشارة حمراء. ضحك “راكيونغ” بصوتٍ عالٍ، ثم استدار إلى الخلف، وأخرج دمية دب من المقعد الخلفي.
“أليس هذا مذهلًا؟ ليس فقط يُشغّل الأصوات المحفوظة، بل يمكنه تسجيل الصوت مباشرة! لكن بالمناسبة… ما رأيكِ في صرخة الـ‘أغاااه’ خاصتي؟! سجّلتها وأنا أُفرغ فيها كل ما أملك من روح!”
“مجنون…! تفرغ فيها روحك؟ فعلاً؟”
صفعت دان آه دمية الدب التي ناولها لها راكيونغ في البداية، لكنها ما لبثت أن استسلمت وأخذتها حين أصرّ عليها مجددًا.
“حسنًا… ما ذنب الدمية في كل هذا؟”
تمتمت دان آه في سرّها، ثم ضغطت بلا مبالاة على بطن الدب.
“أغااااه!”
“آه! لقد أفزعتني!”
حتى بعد أن أعادت سماعها، بقيت الصرخة مفزعة كما هي. دان آه انتفضت وقشعرّ بدنها من صرخة الـ”أغاااه!” التي سجّلها راكيونغ بصوته.
* * *
“هذه الخطبة لاغية!”
الخطة كانت تتوقف عند هذه اللحظة بالضبط. ظهور “الحبيب” المزعوم في قاعة الخطوبة! ظنّت دان آه أن ذلك وحده سيكون كافيًا لإقناع والدها بالتراجع عن زواجٍ لا تريده.
ولهذا السبب، طلبت من راكيونغ أن يتظاهر بدور الحبيب، ويظهر في قاعة الخطبة.
كان ذلك كل ما في الأمر.
“حبيبتي… أتتزوجي وتتركيني أنا وطفلنا؟! أما زال قلبك لا يسمع بكاءه؟ ألا تسمعين كيف ينادي أمه كل ليلة؟! كيف لكِ أن تديري ظهرك لنا وكأننا لم نكن شيئًا؟”
لكن دان آه ارتكبت خطأً فادحًا… لقد نسيت أن راكيونغ لم يُلقب بـ”الكلب المجنون” عبثًا.
‘حتى لو كان الأمر تمثيلًا، كيف خطر له أن يأتي وهو يرتدي حمالة أطفال؟!‘
ظهور رجل وسيم فجأة كان كفيلًا بإثارة ضجة في أي حال… فكيف إذا جاء حاملًا دميةً في حمالة أطفال؟! أما الصوت المسجّل… فذاك أجهز على ما تبقّى من رصانة المشهد.
‘هاه… يا للجنون. فوف!‘
هزّت دان آه رأسها يأسًا، ثم انفجرت في ضحكةٍ باهتة دون قصد.
تذكّرت نظرات الذهول التي ارتسمت على وجوه الحضور… أولئك الذين كانوا يحسبون الأرباح والخسائر من تحالف عائلي يجمع مجموعة “جينسونغ” و”جي آر هولدينغز”، أو يتساءلون إن كان ذلك “النذل المدلل” قادرًا أصلًا على تحمّل مسؤولية زواج.
ثم تذكّرت والدها، الذي أمسك برقبته من شدّة الغضب، ووالدتها وهي تسرع لتسنده بوجهٍ مذهول.
‘رغم ذلك، أمي قد تكون سعيدة بما جرى… ربما سرّها ما حصل.‘
كانت والدة دان آه، السيدة “دو يون جو”، قد عارضت بشدة فكرة الخطبة من مجموعة جينسونغ. ليس لأن العريس كان سيء السمعة فقط، بل لأن الحديث عن الخطبة جاء لـدان آه… وليس لـ”سونغ آه”، ابنتها الحقيقية من دمها.
ورغم اعتراضها، لم تستطع معارضة زوجها “تشاي جونغ تايك”، الذي أصر على الأمر.
لكن بما أن الخطبة فُسخت بتلك الطريقة، فبالتأكيد سترى الأم في ذلك انتصارًا صغيرًا.
“ماذا عساي أن أقول؟ أنا السبب في إفشال خطبتك المستقبلية!”
قالت دان آه بنبرةٍ خفيفة وهي تحتضن دمية الدب، محاولة التخلّص من الكآبة التي خيّمت على صدرها. فالتفت راكيونغ نحوها بنظرة جانبية، وهو لا يزال ممسكًا بالمقود، ثم هز كتفيه بخفة.
“إذن عليكِ تحمّل المسؤولية.”
“أنا؟! أتحمّل المسؤولية؟!”
“وهل هذا غريب؟! لم أذق طعم الحب في حياتي، وتريدينني أن أموت عازبًا؟! قاسية أنتِ، تشاي دان آه!”
تمتم راكيونغ يتظاهر بالألم، بينما دان آه ضحكت ساخرًة، ثم نظرت إلى الدمية مجددًا وهي تعقد حاجبيها.
“بالمناسبة… كيف أحذف هذا الصوت؟”
“ماذا؟ لماذا تحذفينه؟! أنا سجّلته بكل جهدي!”
“همم… أهو هذا الزر؟ أجل، هذا هو.”
وقبل أن يتمكن راكيونغ من إيقافها، كانت دان آه قد ضغطت الزر ومسحت التسجيل. فصرخ متذمّرًا كمن فُجع بخسارة كبيرة، بينما كانت دان آه تضحك وتتهرب منه، في مشهد خفيف أشبه بعراك طفولي بريء.
لكن في اللحظة التالية…
كووونغ! كو غو غو غو غووونغ!
دوى صوتٌ مروّع… وكأن العالم من حولهما انهار دفعةً واحدة. وفجأة، انشقت الأرض أمام أعينهما، وانهار الطريق بأكمله.
“دان آه! انتبهي!”
لم تمضِ لحظات حتى هوَت السيارة التي يستقلانها في الفراغ، تتبع انهيار الطريق. وطارت دمية الدب من بين يدي دان آه، ثم ارتطمت بالأرض.
في تلك اللحظة، شعرت دان آه بحرارة جسد راكيونغ يحتضنها، وهو يحيطها بذراعيه ليحميها.
أغمضت عينيها بقوة…
ثم عمّ الظلام.في مساءٍ متأخر، وبينما كانت السيارات العائدة من ساعات العمل الطويلة تملأ الطرقات، جلست “دان آه” في إحدى السيارات المركونة، تراقب المارّة بعينين قلقتين، كأنّها تخشى أن يفوتها وجهٌ واحد، أو تغفل عن سيارة طال ترقّبها.
همست لنفسها بتنهيدة حزينة:
“يبدو أنه سيتأخّر مجددًا هذا اليوم أيضًا… يا ربّاه، ألا يكترث لصحّته؟ لا بدّ أن يكون أكثر حرصًا… لا سيّما خلال هذين الشهرين، أو الثلاثة.”
كانت عضّتها على شفتيها تفضح اضطرابها، وذراعاها مشدودتان بتوتّرٍ خفيّ. وفي اللحظة التي أعادت فيها بصرها المرتبك إلى النافذة، تسلّلت بهدوءٍ آسر سيارة سيدان سوداء، تتهادى كطيفٍ نبيل نحو موقف السيارات.
“……!”
اتّسعت عينا “دان آه” بذهولٍ عاجز؛ كانت تلك هي السيارة ذاتها… التي تنتظرها بشوقٍ مُثقَل بالخوف.
لكنها، ما إن أدركت ذلك، حتى انكمشت في مقعدها على الفور، وكأنها تخشى أن تقع عيناها في مرمى نظراته.
لم تُظهر من جسدها سوى عينيها، تطلان من خلف المقعد الأمامي، ترقبان المشهد في صمتٍ متوجّس.
توقّفت السيارة في مكانها تمامًا، ثم ما لبث أن نزل منها رجل.
كان طويل القامة، مهيب الطلعة، يرتدي معطفًا داكنًا يلامس الأرض بكبرياء. ورغم أن نصف وجهه كان مغطّى بقناعٍ أسود، إلا أن وسامته الباذخة كانت صارخة، لا تخفى على ناظر.
لكن “دان آه” لم تكن تنظر إلى وجهه… بل إلى ما وراءه.
ما يعنيها وحده، هو قلبه.
“أرجوك، فقط اعتنِ بنفسك قليلًا، أيها المريض كوون مين جون… خرجت لتوّك من المستشفى، وتظنّ أنّ القناع يخفي عني ما أراه فيك؟”
قالتها بصوتٍ متهدّج، يكاد يذوب بالقلق، قبل أن تخنقها شهقة مباغتة، حين رأته يستدير فجأة، ويتجه بخطًى عريضة… مباشرة نحوها.
‘م-مستحيل… هل رآني؟‘
الظلام دامس، والرؤية ضعيفة… فلا يُعقل أن يكون قد انتبه لوجودها.
لكنّه اقترب… بخطواتٍ دقيقة، لا تخطئ، نحو السيارة التي تختبئ فيها.
‘ماذا أفعل الآن؟! أألوذ بالفرار؟!‘
انحنت بسرعة نحو الجهة الأخرى، محاولةً أن تخفي جسدها عن الأنظار، لكن…
طق، طق.
ارتعد قلبها، وتصلّب جسدها. التفتت ببطء، بعينين متسعتين، نحو نافذة السائق.
كان يقف هناك رجل، يطرق الزجاج بأصبعه، ويشير إليها بخفّة… دون أن ينبس بكلمة.
ومع ذلك، كانت رسالته واضحة:
اخرجي.
أُمسكت.
أغمضت “دان آه” عينيها بقوة، كمن يتمنّى لو يختفي، ثم فتحتْهما بتصميمٍ واهن، وخرجت من السيارة بخطًى مترددة، تحاول إخفاء اضطرابها المشتعل.
“هل من أمر يشغلك—”
“قسم الطوارئ. مستشفى كوريا الوطني.”
قاطعها صوته الحادّ، البارد، كأنه قاطع سيف.
توقّف الزمن للحظة.
رفعت رأسها، تقابل عينيه بنظرةٍ لم تخلُ من رجفةٍ داخليّة.
كانت عيناه أشبه بجدارٍ من الجليد… صلب، قاسٍ، لا يسمح بالعبور.
لم يمهلها لترتّب كلماتها، أو تُرمّم ارتباكها، بل أردف:
“هل أنتِ الطبيبة تشا دان آه؟”
“……!”
إنه يعرفها.
كانت تلك الحقيقة كفيلة بأن تُفرغ الدم من وجهها، وتشدّ أطرافها نحو هاوية الخوف.
لم تملك حتى السؤال:
كيف؟ كيف تعرفني؟
بل لم تدرِ ما الذي يجب أن تقوله أصلًا.
مسحت وجهها براحة يدها المرتعشة، وارتبكت في تمتمة:
“أ-أعني… في الحقيقة…”
“نحن لسنا غريبَين عن بعض، أليس كذلك؟”
“……!”
اتّسعت عيناها من جديد، وكأنّ الصدمة تتكرر. كان بإمكانها أن تنفي، أن تدّعي الجهل به… لكنها لم تفعل.
فمنذ أن التقت نظراتها بنظراته… تلاشى صوتها، وسُحب منها لسانها كأنّه وُثق بقيودٍ غير مرئية.
“هل أنتِ… تطاردينني؟”
كان صوته هادئًا… لكن في هدوئه قسوةٌ لا تُحتمل.
مطاردة؟!
هل أطلق عليها هذا اللقب؟!
رغم أن ما تفعله قد يُشبه التتبع، إلا أن الأمر ليس كما يظنّ.
هزّت رأسها سريعًا، في نفيٍ قاطع، متوتر.
“لا! إطلاقًا! أنا لا—”
“إذن فسّري. ما سبب تواجدكِ المتكرر حول منزلي… وحول شركتي؟”
“…….”
صمتٌ مطبق.
لم تنبس ببنت شفة، لكن قبضتيها المرتجفتين، كانتا تعكسان كل ما تعجز عن قوله.
شعرت بالاختناق.
وفي لحظة… سُحبت ذاكرتها قسرًا نحو الماضي…
نحو اليوم الذي تغيّر فيه كل شيء.
ذلك اليوم… الذي انشقت فيه الأرض تحت قدميها في قلب سيول.
أو لنقل، اليوم الذي… خُطِبَت فيه.
✦ قبل عدّة أشهر ✦
“هيه! توقّف! لا تهرب أيها الجبان!”
ذاك الرجل، نجل رئيس مجموعة “جينسونغ”، والذي كان من المفترض أن يكون خطيبها، كان يصيح ويطلق السباب يمينًا ويسارًا.
لكن “دان آه” لم تعبأ به، أمسكت بيد “راكيونغ”، وانطلقت بها خارج قاعة الحفل. كان فستانها المعقّد يلتف حول قدميها، يُعرقل خطاها… لكنها لم تتوقّف.
كان لا بدّ أن تهرب.
ولم يكن هناك مفرّ.
…صحيح، هذا لم يكن جزءًا من خطّتها، لكنها لم تجد طريقًا آخر.
“راكيونغ! هذا لم يكن ضمن الاتفاق! التظاهر بأنك حبيبي كان كافيًا!”
قالتها وهي تندفع إلى داخل سيارته القديمة، بالكاد تلتقط أنفاسها.
لكنه، وهو يدير المحرّك ويبتعد عن الحفل، أجابها بجفاف بارد:
“ذلك لم يكن كافيًا. أردتُ أن يفهم والداك أن الأمر حقيقي. كان لا بدّ من لمسة… أقوى.”
“ولأجل هذه اللمسة (القوية)، خطّطتَ لتلك الحماقة دون أن تُخبرني؟! كنتُ سأُغمى عليّ! ومن أين جئت بتلك الدمية؟!”
توقّف عند إشارة حمراء. ضحك “راكيونغ” بصوتٍ عالٍ، ثم استدار إلى الخلف، وأخرج دمية دب من المقعد الخلفي.
“أليس هذا مذهلًا؟ ليس فقط يُشغّل الأصوات المحفوظة، بل يمكنه تسجيل الصوت مباشرة! لكن بالمناسبة… ما رأيكِ في صرخة الـ‘أغاااه’ خاصتي؟! سجّلتها وأنا أُفرغ فيها كل ما أملك من روح!”
“مجنون…! تفرغ فيها روحك؟ فعلاً؟”
صفعت دان آه دمية الدب التي ناولها لها راكيونغ في البداية، لكنها ما لبثت أن استسلمت وأخذتها حين أصرّ عليها مجددًا.
“حسنًا… ما ذنب الدمية في كل هذا؟”
تمتمت دان آه في سرّها، ثم ضغطت بلا مبالاة على بطن الدب.
“أغااااه!”
“آه! لقد أفزعتني!”
حتى بعد أن أعادت سماعها، بقيت الصرخة مفزعة كما هي. دان آه انتفضت وقشعرّ بدنها من صرخة الـ”أغاااه!” التي سجّلها راكيونغ بصوته.
* * *
“هذه الخطبة لاغية!”
الخطة كانت تتوقف عند هذه اللحظة بالضبط. ظهور “الحبيب” المزعوم في قاعة الخطوبة! ظنّت دان آه أن ذلك وحده سيكون كافيًا لإقناع والدها بالتراجع عن زواجٍ لا تريده.
ولهذا السبب، طلبت من راكيونغ أن يتظاهر بدور الحبيب، ويظهر في قاعة الخطبة.
كان ذلك كل ما في الأمر.
“حبيبتي… أتتزوجي وتتركيني أنا وطفلنا؟! أما زال قلبك لا يسمع بكاءه؟ ألا تسمعين كيف ينادي أمه كل ليلة؟! كيف لكِ أن تديري ظهرك لنا وكأننا لم نكن شيئًا؟”
لكن دان آه ارتكبت خطأً فادحًا… لقد نسيت أن راكيونغ لم يُلقب بـ”الكلب المجنون” عبثًا.
‘حتى لو كان الأمر تمثيلًا، كيف خطر له أن يأتي وهو يرتدي حمالة أطفال؟!‘
ظهور رجل وسيم فجأة كان كفيلًا بإثارة ضجة في أي حال… فكيف إذا جاء حاملًا دميةً في حمالة أطفال؟! أما الصوت المسجّل… فذاك أجهز على ما تبقّى من رصانة المشهد.
‘هاه… يا للجنون. فوف!‘
هزّت دان آه رأسها يأسًا، ثم انفجرت في ضحكةٍ باهتة دون قصد.
تذكّرت نظرات الذهول التي ارتسمت على وجوه الحضور… أولئك الذين كانوا يحسبون الأرباح والخسائر من تحالف عائلي يجمع مجموعة “جينسونغ” و”جي آر هولدينغز”، أو يتساءلون إن كان ذلك “النذل المدلل” قادرًا أصلًا على تحمّل مسؤولية زواج.
ثم تذكّرت والدها، الذي أمسك برقبته من شدّة الغضب، ووالدتها وهي تسرع لتسنده بوجهٍ مذهول.
‘رغم ذلك، أمي قد تكون سعيدة بما جرى… ربما سرّها ما حصل.‘
كانت والدة دان آه، السيدة “دو يون جو”، قد عارضت بشدة فكرة الخطبة من مجموعة جينسونغ. ليس لأن العريس كان سيء السمعة فقط، بل لأن الحديث عن الخطبة جاء لـدان آه… وليس لـ”سونغ آه”، ابنتها الحقيقية من دمها.
ورغم اعتراضها، لم تستطع معارضة زوجها “تشاي جونغ تايك”، الذي أصر على الأمر.
لكن بما أن الخطبة فُسخت بتلك الطريقة، فبالتأكيد سترى الأم في ذلك انتصارًا صغيرًا.
“ماذا عساي أن أقول؟ أنا السبب في إفشال خطبتك المستقبلية!”
قالت دان آه بنبرةٍ خفيفة وهي تحتضن دمية الدب، محاولة التخلّص من الكآبة التي خيّمت على صدرها. فالتفت راكيونغ نحوها بنظرة جانبية، وهو لا يزال ممسكًا بالمقود، ثم هز كتفيه بخفة.
“إذن عليكِ تحمّل المسؤولية.”
“أنا؟! أتحمّل المسؤولية؟!”
“وهل هذا غريب؟! لم أذق طعم الحب في حياتي، وتريدينني أن أموت عازبًا؟! قاسية أنتِ، تشاي دان آه!”
تمتم راكيونغ يتظاهر بالألم، بينما دان آه ضحكت ساخرًة، ثم نظرت إلى الدمية مجددًا وهي تعقد حاجبيها.
“بالمناسبة… كيف أحذف هذا الصوت؟”
“ماذا؟ لماذا تحذفينه؟! أنا سجّلته بكل جهدي!”
“همم… أهو هذا الزر؟ أجل، هذا هو.”
وقبل أن يتمكن راكيونغ من إيقافها، كانت دان آه قد ضغطت الزر ومسحت التسجيل. فصرخ متذمّرًا كمن فُجع بخسارة كبيرة، بينما كانت دان آه تضحك وتتهرب منه، في مشهد خفيف أشبه بعراك طفولي بريء.
لكن في اللحظة التالية…
كووونغ! كو غو غو غو غووونغ!
دوى صوتٌ مروّع… وكأن العالم من حولهما انهار دفعةً واحدة. وفجأة، انشقت الأرض أمام أعينهما، وانهار الطريق بأكمله.
“دان آه! انتبهي!”
لم تمضِ لحظات حتى هوَت السيارة التي يستقلانها في الفراغ، تتبع انهيار الطريق. وطارت دمية الدب من بين يدي دان آه، ثم ارتطمت بالأرض.
في تلك اللحظة، شعرت دان آه بحرارة جسد راكيونغ يحتضنها، وهو يحيطها بذراعيه ليحميها.
أغمضت عينيها بقوة…
ثم عمّ الظلام.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"