قالت الدمية بصوتها المعتاد، المتداخل بين البراءة المصطنعة والعبث المريب:
“بما أنني ضحكت…فهذا يعني أنك فزت في هذه الجولة.”
ثم تابعت، بنفس النبرة لكن هذه المرة فيها مسحة من الحدة:
“والآن…بعد خمس ثوانٍ، ستبدأ الجولة الثانية.”
مرت لحظة من الصمت… ثم كأن قلب كايرو عاد للنبض بقوة، سمعته يتحرّك بسرعة، ويجلس فورًا على الأرض قبل حتى أن تبدأ بالعد.
ربما كان يدرك أن أي تأخير، مهما كان بسيطًا، قد يُعتبر خرقًا للقواعد.
وبدأت الجولة الثانية.
عادت الغرفة إلى ما كانت عليه… سكونٌ مطبق، وصمتٌ ثقيل، وظلامٌ خانق لا يسمح لأي ضوء بالتسرّب.
بدا وكأن الغرفة انفصلت عن الزمن.
جلستُ دون أن أتحرّك.
لا همسة، لا نفس زائد، لا رمشة عين.
مرت الثواني، ثم الدقائق… أو على الأقل هذا ما بدا لي، لأن الزمن هنا لم يعد يقاس بالعقل، بل بالقلق.
كأن كل دقيقة كانت ساعة، وكل ساعة عذابًا جديدًا.
بدأ الإرهاق ينهشني شيئًا فشيئًا.
ظهري يؤلمني من الجلوس الثابت، وركبتي ترتجفان، وعينيّ تحترقان من التركيز المستمر… لكنني تحملت.
لا مجال للخطأ الآن.
سمعت صوت أنفاس كايرو من جانبي، كان يتنفس ببطء، لكنه بدا متعبًا أيضًا.
من طريقة شهيقه وزفيره، كنت أعلم أنه يمر بما أمرّ به تمامًا.
وهذا أمر متوقّع… فالجلوس بهذه الوضعية، وسط ظلام دامس، دون حراك أو كلام أو حتى تنفّس زائد، هو أمر مرهق لأي إنسان.
زد على ذلك وجود الدمية بجانبنا، ببرودها المرعب، وقوانينها الصارمة التي قد تنقلب علينا في أي لحظة… كل شيء فيها يُشعرك أنك تمشي على حبل مشدود فوق هاوية.
أما هي… فلم أسمع منها أي نفس، ولا حتى حركة.
ربما لأنها ليست بشرًا… فأن تتوقع منها أن تتنفس كأنها حيّة، كان مجرد وهم.
لقد كانت كتمثال حيّ.
وجودها وحده يرعبني أكثر من أي تهديد.
ومع استمرار مرور الوقت، بدأت أشعر أن جسدي يفقد الإحساس تدريجيًا، وأنني سأسقط مغشيًّا عليّ لو استمر الحال أكثر.
وفجأة… في قلب هذا الجمود، جاء الصوت:
“ترن…ترن…”
كان صوت الدمية.
نفس ذاك الرنين المعدني الذي استُخدم في بداية الجولة الأولى… لكنه بدا هذه المرة أقرب، أكثر وضوحًا.
سكتت لبرهة، وكأنها تمنحنا ثانية أخيرة لنلتقط أنفاسنا.
ثم قالت، بصوتها الحاد المتحكّم:
“حان وقت اللاعب الثاني…الذي سقطت عليه الحشرة.”
—
أخذتُ نفسًا بطيئًا، محاولًا الحفاظ على ثباتي، وبدأت أفكر بسرعة:
من هو اللاعب الثاني الذي سقطت عليه الحشرة؟
أغمضت عينيّ لحظة، أعادت ذاكرتي تقليب الدقائق الماضية.
أنا لم أشعر بشيء.
لا لسعة، لا قشعريرة، لا حتى ريشة تمرّ فوق جلدي.
إنني متأكد تمامًا… لم تلمسني أي حشرة.
إذاً…
هل من الممكن أن يكون كايرو مجددًا؟!
صحيح أن الاحتمال ضعيف، لكن في عالم هذه الدمية، لا شيء يُستبعد.
ربما سقطت عليه حشرة أخرى… لا أعلم.
عقلي يغرق في التساؤلات بينما جسدي لا يجرؤ على الحراك.
ثم، وسط هذا التوتر الثقيل… جاء صوتها.
هادئًا أولاً، بنبرة تتصنع السخرية:
“يالَسخافتي…”
توقف قلبي لوهلة، وأنا أستمع لها تكمل بصوت رتيب كأنها تتحدث مع نفسها:
“… لِمَ أسأل مِنَ الأساس، وأنا من سقطت عليها الحشرة؟”
لحظة صمت أخرى، لكنها لم تكن كأي صمت.
كانت كأن الزمن توقف فجأة، والواقع انقلب رأسًا على عقب.
ماذا؟!
الدمية؟!
الدمية هي من سقطت عليها الحشرة؟!
لم أدرِ في اللحظة الأولى ما إن كان ذلك مدعاة للدهشة… أم للضحك المرّ.
لكن سرعان ما اتسعت عيناي رغم الظلام الذي يلفّني.
فهذا يعني شيئًا واحدًا…
أن الدمية هي من عليها الآن أن تحاول إضحاكنا.
لم أصدق الأمر في البداية.
أيعقل أن تُجبر الدمية، هذا الكائن الغريب الذي يفرض علينا قوانينه المرعبة، على أن “تحاول إضحاكنا” نحن البشر؟!
كأن عجلة اللعبة انقلبت على صانعتها.
بدأ الأمل يطل من نافذة صغيرة جدًا في ذهني.
هذه… فرصة.
إذا لم يضحك أحدنا — لا أنا، ولا كايرو — فستُعد الدمية خاسرة في هذه الجولة.
وإذا خسرت… فهذا يعني أنني وكايرو نربح جولة إضافية.
خطوة نحو النجاة.
بل أكثر من ذلك…
حتى وإن ضحكنا، فلن يُعتبر ذلك خرقًا، لأن الدمية لم تضع على نفسها أي عقوبة حين ضحكت في الجولة الأولى.
لقد تجاهلت تلك التفصيلة، وكأن قوانينها لا تنطبق عليها.
إذاً، هي فتحت لنا بابًا صغيرًا، ولم تدرك أنه قد ينقلب عليها لاحقًا.
لكن رغم كل هذا… بقيت نقطة مقلقة.
هي الوحيدة التي يُسمح لها بالكلام خلال هذه اللحظات — لأنها من يعلن الوقت.
لذلك، إذا تكلمت الآن، فلن نعلم هل هي تحاول الإضحاك… أم أنها فقط تُعلن التعليمات.
وهنا… مكمن الخطورة.
الضحك… قد لا يُعاقب عليه.
لكن الكلام؟ أو الحركة؟
لا، هذا خط أحمر.
ربما الضحك الوحيد هو ما يمكننا فعله دون خوف من فقدان حياتنا.
عليّ أن أُبقِي نفسي ساكنًا، بلا أي إيماءة أو صوت، مهما حاولت الدمية.
لكن قلبي… بدأ يدقّ بقوة.
هل ستنجح فعلاً في إضحاكنا؟
هل ستكون هذه الجولة حاسمة لنا، أم مجرد فخّ آخر ضمن متاهة العبث؟
لا أملك سوى أن أستعد.
فالدمية، على ما يبدو… ستبدأ عرضها الآن.
—
قالت الدمية بصوتها الغريب، الحادّ، المائل للسخرية:
“فقط أحتاج لاعباً واحداً ليضحك… وسوف أفوز في هذه الجولة.”
ثم ساد الصمت لحظة قصيرة قبل أن تضيف:
“وبما أن اللاعب الأول قد فاز في الجولة الأولى، فأنتما الآن قد حصلتنا على نقطة.”
قالت عبارتها وكأنها تمنّ علينا، مع أن النقطة التي نلناها لم تكن سوى نتيجة عذاب وخوف وتوتر لا يُحتمل.
توقّفت لثانية أخرى، وكأنها تمنحنا لحظة لنستوعب ما قالته، ثم أكملت بصوت مفعم بالعبث، وكأنها تستمتع باحتراق أعصابنا:
“إذاً، حان دوري للانتقام، أليس كذلك؟ هيهيهيهيهي.”
ارتجف شيء داخلي عند سماع ضحكتها.
كان في صوتها نغمة تشبه صوت آلة مكسورة، أو خشخشة دمية مهترئة ضاعت منها الطفولة وبقي فيها الجنون فقط.
شعرت بشيء مظلم ينتشر في الجو من حولنا، كأن الهواء نفسه أصبح سامًا، كثيفًا، لا يُطاق.
ثم تابعت، بصوت بدا لي وكأنها تتحدث مع نفسها بصوتٍ عالٍ، لكنها كانت تقصدنا نحن تمامًا، وكل كلمة منها كانت موجهة كالسهم إلى عقولنا المرتبكة:
“إذاً… ما هي الطريقة التي تضحكون بها؟”
ثم أضافت:
“هل تضحكون مثل: هاهاهاهاها؟ أم: هيهيهيهيهي؟ أم: هوهوهوهو؟”
ماذا…؟
هل فقدت عقلها تمامًا؟
تجمدتُ في مكاني.
أي نوع من الأسئلة هذا؟
أي نوع من المنطق يمكن تطبيقه على كائن كهذا؟
تساءلت في داخلي بدهشة وذهول:
هل هي جادة؟
هل تريدنا حقًا أن نضحك فقط لكي نُخبرها عن نوع ضحكتنا؟
وهل نضحك حتى نُضحكها، أم نضحك لأننا خائفون من غضبها؟
شعرت كأنني دخلت مرحلة جديدة من الكابوس، مرحلة لا يُمكن فيها التنبؤ بما قد تفعله.
ومَن الغبي الذي سيقع في هذا الفخ ويضحك فقط ليجيب على سؤالها؟
أنا؟
كايرو؟
لا، مستحيل… نحن لسنا بهذا الغباء. أو… هكذا ظننت.
ظلّ كل شيء ساكنًا، الوقت كاد يتوقف، أو على الأقل بدا لي كذلك.
حتى صوت أنفاسي صار خفيفًا، يكاد يختفي.
ثم فجأة، وبلا أي مقدمات، جاء صوتها مرة أخرى… لكن هذه المرة، كان مختلفًا.
كان صوتًا مرعبًا، جافًا، منخفضًا… وكأنها تنطق الكلمات من قاع بئر مظلم.
قالت بصوت مُلطخ بالغضب:
“إذا لم تضحكا الآن… وتقولا لي نوع ضحكتكما… فسوف أعاقبكما!”
ارتجفت الكلمات داخلي.
تعاقبنا؟
على ماذا؟
على عدم الضحك؟
على تمسكنا بقواعدها التي أعلنتها بنفسها؟!
هذا… غش.
هذا ظلم.
ألم تقُل أنها ستحترم القوانين؟
ألم تقُل أنها مجرد “لعبة”؟
لكن لا… لا شيء في هذه اللعبة طبيعي.
ولا أحد في هذا المكان آمن.
تجمّدتُ في مكاني، والدم يتجمّد في عروقي.
أشعر بجسدي يتراجع إلى الداخل، وكأنني أريد أن أختفي من الوجود.
كانت عيناي مفتوحتين، لكنني لم أكن أرى شيئًا… سوى سواد الفكرة:
إذا لم أضحك… سأموت.
هل هذا هو الخيار الحقيقي الذي تركته لي؟
الضحك… أو الموت.
ظللت لحظات في هذا التردّد، قلبي يدق بقوة، أنفاسي تضيق، وجسدي يرتعش من شدّة التوتر.
ثم، خرجت الضحكة.
لم أكن مستعدًا لها، لم أكن أنويها، لكنها خرجت… كصرخة مكتومة، كتمويه يائس من أجل البقاء.
ضحكت.
“هااهاهاهاهااهاهاا…”
كانت ضحكتي مجهدة، غريبة، وكأنها ضحكة شخص يضحك أثناء غرقه.
وبعد ثوانٍ قليلة، سمعت صوتًا آخر ينضمّ لي، صوت مألوف ومضطرب… كايرو.
هو الآخر لم يحتمل.
قال بصوت مرتجف، ضحكته تقفز بين الجد والهزل:
“هوهوووهوهوهوهو!”
شعرت بشيء غريب في قلبي.
ضحكنا… لكن لا أحد فينا سعيد.
ضحكنا… لكن لا أحد فينا نجا بعد.
ضحكنا من الخوف، لا من المتعة.
ضحكنا لأننا تحت رحمة كائن غريب، لا نعلم إن كانت لديها رحمة، أم أنها مجرّد كابوس يرتدي جسد دمية.
ضحكنا… لأننا لم نكن نملك خيارًا آخر.
ولوهلة، تساءلت:
هل هذا هو نوع الضحك الذي يُبقي الناس على قيد الحياة؟
ضحكٌ مليء بالذعر… وعيون مفتوحة على الموت؟
الدمية لم تتحرك، لم تقل شيئًا بعد.
لكنني شعرت بها تراقب، تشاهد، تبتسم في الظلام من حيث لا نراها.
ربما تكون قد فازت بالجولة.
وربما… كانت فقط تلعب.
لكنني أنا متأكد من شيء واحد:
الضحك في هذه اللعبة… لا يعني السعادة.
بل يعني شيئًا أسوأ بكثير.
التعليقات لهذا الفصل " 72"