بدأت اللعبة.
جلسنا في الظلام، لا صوت، لا حركة، لا همسة.
لم أتحرّك.
لم أتنفّس أكثر مما يلزم.
حتى أنني شعرت وكأن الهواء نفسه صار ثقيلًا، وكأنّه يرفض أن يدخل إلى رئتي خشية أن يُحدث ضجة تكسر الصمت القاتل الذي حلّ علينا.
في داخلي، تكرّر سؤال بسيط… لكنه كان يعصف بي:
هل يُعتبر الرمش اختراقًا لقوانين اللعبة؟
رغبة لا إرادية اجتاحتني.
جفوني أثقل من أن تُقاوم، وعيناي بدأت تحترق من شدّة التركيز.
لم أعد أتحمّل، فـ…
رمشت.
ثم، أغمضت عينيّ لثانية أطول قليلًا.
ليس لأنني أردت النوم أو الارتياح… بل لأني لم أرغب برؤية ما قد يحدث إن كانت تلك “الرمشة” خرقًا.
انتظرت.
ثانية…
ثانية أخرى…
ثالثة…
ولم يحدث شيء.
فتحت عيني ببطء، تنفّست قليلًا، وبدأت أستوعب ما حولي:
لا شيء تغيّر.
لا عقوبة، لا أصوات، لا تحركات مريبة.
كان الظلام كما هو، كثيفًا، خانقًا، لا يُظهر أي ملامح أو تفاصيل.
الدمية ما زالت تمسك بيدي، بيدها الصغيرة الباردة،
وصوت أنفاسي أنا وكايرو ما زال موجودًا، مسموعًا، لكنه طبيعي.
لا يبدو أنها تمانع النفس أو الرمش.
استغربت…
لم أكن أتوقّع من تلك الدمية… “العدالة”.
ربما لأنني افترضت دائمًا أن الكابوس لا يحمل منطقًا، وأنها ستفاجئنا بأحكام مفاجئة وقاسية.
لكنها — حتى الآن — ملتزمة بما قالته.
إنها تلعب… ولكنها تلتزم بـ”قواعد اللعبة”.
سمعت صوت أنفاس كايرو.
لم أره، لكنني سمعته…
وكان واضحًا من طريقته أنه خائف.
كل نفس كان متقطّعًا، قصيرًا، وكأن رئتيه ترفضان التنفس الطبيعي.
تمنيت لو أستطيع أن أقول له شيئًا، أن أطمئنه، أو حتى أن أمسح على كتفه.
لكنني كنت مكبّلًا بالصمت… وبخوفي أنا الآخر.
أردت فقط أن نخرج من هنا.
أن نفوز.
أن تفي الدمية بوعدها إن نجحنا.
ربما لا تكذب… ربما، فقط ربما، يكون هناك مخرج.
الثواني تمرّ كأنها ساعات.
الدقائق تزحف على أطرافها كوحوش خفية، وكل ما نسمعه هو الصمت… ذلك الصمت المتوتّر، الذي لا يشبه الراحة، بل يُشبه طقطقة أعواد جافة في غابة قبل أن تشتعل.
ومع مرور الوقت، شعرت بأعضائي تبدأ بالتجمّد.
ركبتي توجعاني من الجلوس، ظهري بدأ يتقلّص من التوتر، لكنني لم أتحرك.
لم أسمح لجسدي أن يخونني.
ثم فجأة…
“دينغ… دينغ.”
صوتٌ معدني، خفيف، يشبه أجراس الساعة القديمة… لكنه خرج من فم الدمية.
كان الصوت مرتّبًا، كأنها تعلن رسميًا عن بداية مرحلة جديدة.
قالت بصوتها المعروف — خليط من الطفولة والجنون:
“لقد مرّت عشر دقائق. والآن… حان وقت الشخص الذي سقطت عليه الخشرة…ليضحكنا.”
توقّف قلبي للحظة.
إنها تتكلم؟!
لكن… الأمر منطقي.
أنا وكايرو لا نستطيع عدّ الدقائق في هذا الظلام، ولا يمكننا أن نعرف متى يُسمح بالحركة.
لكن هي…؟
قدراتها غير معروفة.
ربما تملك ساعة، أو ربما تحسب الزمن في ذهنها بدقّة لا تُصدّق.
أخذت نفسًا عميقًا — بهدوء، كي لا يبدو كخرق — وبدأت أفكر:
من هو الشخص الذي سقطت عليه الحشرة؟
أنا…؟
لكنني لم أشعر بأي شيء.
لا شيء لمس جسدي، لم أسمع طنينًا، لم أشعر بحركة.
إذًا… كايرو؟
أم…الدمية؟
هل كايرو هو أول من سقطت عليه الحشرة؟
هل هو من يجب أن يتحرّك الآن؟
هل هو من سيحاول أن يضحكنا؟ أقصد… أن يضحك الدمية؟
شعرت بخوف مزدوج.
خوفٌ من أن لا ينجح كايرو في مهمته.
وخوفٌ من أن تكون تلك الدقيقة اختبارًا لنا جميعًا… من نوعٍ آخر.
بدأت أفكر:
ماذا لو لم يتحرك؟
ماذا لو لم يعرف أنه الشخص المطلوب؟
ماذا لو تأخّر؟
الدمية لا تُحب التأخير.
وبينما كان عقلي يعجّ بهذه الأسئلة، ظلّ كل شيء ساكنًا.
حتى الآن… لم نعرف من بدأ.
لكنّ اللعبة، بالتأكيد، بدأت حقًا الآن.
—
كان الصمت ما يزال مهيمنًا على الغرفة، صمت ثقيل وكأن الجدران نفسها كفت عن التنفّس، وكأن الزمن عُلّق مؤقتًا بانتظار حُكمٍ مجهول.
كنت أبحث عن صوت، عن إشارة، عن شيء ينهي هذا الجمود… وفجأة، وسط هذا السكون المطبق، جاء صوته.
مرتجفًا.
هشًّا كأنفاس طفل مريض.
ضعيفًا، لكن حقيقيًّا:
“أ… أنا مَن سقطت عليه الحشرة.”
كان كايرو.
تجمد الهواء من حولي.
إنه هو…؟ هو أول من وقع عليه الاختيار؟
لم أسمع شيئًا.
لم أشعر بأي حركة.
كيف تسلّلت تلك الحشرة إليه دون أن نلاحظ؟!
لم يكن لدي وقت لأفكر، فقد جاء صوت الدمية مباشرة، بنفس هدوئها البارد، وكأنها كانت تنتظر اعترافه:
“إذاً…لتحاول إضحاكي الآن.”
قالتها بصيغة الأمر، لا بصيغة الرجاء.
كانت ما تزال تمسك بيدي… قبضتها الصغيرة لا تزال باردة، ثابتة.
وبنفس القدر من المنطق المُرعب، كانت بالتأكيد تمسك بيد كايرو الأخرى أيضًا.
كأنها حلقة تربطنا جميعًا، تقفلنا داخل دائرة من الرعب، لا مفر منها.
ثم تابعت — نبرتها أصبحت أثقل، وكأنها تستمتع بفرض السيطرة:
“أما اللاعب الآخر…”
صمتت لحظة، وكأنها تترك لكلماتها متسعًا لتتسلل إلى عظامي.
“…لا تنسَ.لا يجب عليك أن تتحرك. لا تضحك. لا تتكلم. لا تُصدِر أي صوت.”
شعرت بقشعريرة تمرّ في عمودي الفقري، وبلعومي جفّ فجأة.
“وإلا…ستخسر.”
قالتها بنبرة حادة هذه المرة.
قاطعة.
ثم أضافت، ببرود لا يرحم:
“صديقك هنا، عليه فقط أن يُضحِكَني أنا. إن لَم ينجح… فهو الآخر سيخسر.”
تجمّدت تمامًا.
حتى أنني لم أعد أميز صوت أنفاسي.
كلماتها كانت كالمطرقة… تُسقط أي شعور بالأمان كنت أتمسك به.
أن تُجبر على عدم الضحك وأنت تستمع لمحاولة مضحكة، وفي نفس الوقت، حياة صديقك على المحك؟
يا للسخرية.
شعرت بيدي ترتجف قليلاً بين قبضتها… لكنني تظاهرت بالتماسك.
تنفست بعمق — بصمت — لأخفف وطأة التوتر.
وفجأة، عادت الدمية لتكمل، هذه المرة بنبرة مليئة بالعبث، تنزف جنونًا:
“إذاً… لتحاول إضحاكي الآن، أيها الشخص الذي سقطت عليه الحشرة…”
ثم ضحكت.
ضحكة قصيرة، عالية، مليئة بالتهكّم، أقرب إلى صرير عجلة صدئة:
“هيهيهيهيهيهي.”
كان الأمر مرعبًا.
ظننت أنها فقدت صوابها — إن كان لها صواب أصلاً.
توقعت أن يبدأ كايرو فورًا، لكن… جاء صوته متردّدًا، مشوبًا بالشك:
“إ… إذاً… هل يـ… يُعتبر أنني فزت في… هذه الجولة الآن؟”
أحسست أنني تجمّدت مجددًا.
ماذا يفعل؟!
أهو يحاول المزاح؟
أهو يظن أن هذا سيُضحكها؟
صوت الدمية جاء سريعًا، وهذه المرة بدا مستغربًا بحق:
“أنت فزت؟ هل… تمزح معي الآن؟”
كان في نبرتها خليط من الغضب والاستغراب، وكأنها لم تُجرب أن يجرؤ أحد على استخدام “المنطق” معها داخل لعبتها.
لكن كايرو، رغم التوتر الظاهر في صوته، تابع قائلاً:
“لـ… لا… و… ولكنكِ… ضـ… ضحكتِ قبل قليل.”
صمتت الدمية.
لحظة واحدة.
ثم اثنتان.
تخيلتُ أنها ستنفجر، أنها ستصرخ، أو تسحب كايرو نحو الظلام لتأكله أو تفعل به شيء لا أجرؤ على تخيله.
لكن ما حدث… لم يكن متوقعًا.
قالت بهدوء مفاجئ، وكأنها تفكر بصوتٍ مسموع:
“… حسناً.”
توقفت، ثم أضافت:
“أظنّك…فزت في هذه الجولة.”
لحظة انتصار؟
هل هذا حقيقي؟!
ثم تابعت، وهذه المرة نبرتها تغيّرت، عادت إلى ما كانت عليه — باردة، متوعدة:
“ولكنني… لن أضحك بسهولة المرة القادمة.”
عاد الصمت.
لكن داخلي، لم يكن صامتًا.
كايرو نجح… بطريقة غريبة، نعم، لكنها نجحت.
لكنه في ذات الوقت، فتح على نفسه بابًا مظلمًا…
ففي الجولة القادمة، لن يكون لدى الدمية أي مجال للتسامح.
تباً…
هذه مجرد البداية.
التعليقات لهذا الفصل " 71"