كان الوقت يمرّ بسرعة، كأنه يسابق أنفاسي المرتجفة.
بدا لي أن كل ثانية تنزلق من بين يدي كحبّات رمل في عاصفة، لا يمكن القبض عليها ولا استعادتها.
كانت الدقائق الثلاث التي منحتها لنا الدمية قد شارفت على نهايتها، بل ربما لم يتبقَّ منها إلا رمقٌ أخير.
وقفت في الظلام، أراقب عقلي وهو ينهار تدريجيًا، كل فكرة تخطر على بالي تُرفض فورًا، إما لأنها غير ممكنة، أو لأنها تحمل خطرًا أكبر من أن أحتمله.
لم يكن هناك وقت للمنطق، ولا مجال لتجربة الحظ.
لم أملك خيارًا آخر سوى اللعبة التي اقترحها كايرو… لعبة الصمت.
كانت تبدو بسيطة، لكنني كنت أعلم في قرارة نفسي أن البساطة خدّاعة، خاصة عندما تكون بين يدي دمية تستطيع تغيير القواعد كما يحلو لها.
رغبت في الصراخ، في قول “لا” بصوتٍ عالٍ، لكن صوت العقل الخافت همس في داخلي:
(وما البديل؟)
لم يكن هناك بديل.
همست إلى كايرو، بتردد لا يمكن إخفاؤه، لكن مع نبرة مصمّمة على الأقل:
“ح… حسنًا… لا أظن أن لدينا أي خيار آخر… لنختر لعبة الصمت… هل أنت موافق؟”
تأخر في الردّ.
صمته لم يكن مجرّد لحظة تفكير… كان ثِقَلًا.
كأنّ الزمن توقف لوهلة، معلّقًا على كلمةٍ واحدة.
وأخيرًا، جاء صوته ضعيفًا، كأنّه انتُزع من صدره بصعوبة:
“ن… نعم… أنا موافق.”
شعرت بشيء يشبه الراحة… لكنها لم تدم.
فجأة، اخترق الظلام صوتٌ غريب، حادّ، رنّ كجرس مكسور وسط صمت المقبرة:
“ترن…ترن…”
تجمّدت في مكاني.
الدمية.
كان صوتها أشبه بلعبة موسيقية خربت نغمتها، لكنه لا يزال يصرّ على الغناء.
كانت نبرتها مرحة، طفولية، بريئة على نحو مزيّف، وكأنها فتاة صغيرة تلعب لعبة الغميضة… لكن في قلبها خنجر.
“لقد إنتهى الوقت…هاهاها! أتمنى أن تكونوا قد اخترتم لعبة ممتعة !”
ضحكت.
ضحكة بريئة… تخرج من فمٍ لا يعرف البراءة، ومن عقلٍ يتغذّى على الخوف.
ابتلعت ريقي، وأحسست ببرودة تتسرّب من ظهري إلى قدميّ.
ثم جاء صوتها من جديد، هذه المرة أكثر وضوحًا، وكأنها اقتربت منّا… دون أن نراها:
“إذاً…ما هي اللعبة التي إخترتموها؟”
توقّف كل شيء للحظة.
حتى الهواء شعرت بثقله.
نظرت إلى موضع كايرو، لا أعلم إن كان يبادلني النظرة أم لا، فالظلام لا يرحم… لكنني شعرت بأنفاسه، وارتجافه.
أدركت أننا على وشك الانطلاق… سواء إلى النجاة، أو إلى هاوية لا قرار لها.
—
ابتلعت ريقي ببطء، وأحسست بالحروف تنحبس في حلقي كأنها تخشى الخروج.
كان قلبي ينبض بعنف، حتى أنني شعرت به يرتطم بضلوعي.
وبرغم محاولتي للتماسك، خرج صوتي مرتجفًا، يحمل ارتعاش الخوف الذي حاولت عبثًا إخفاءه:
“ل… لقد قررنا أن نختار لعبة الصمت.”
حلّ صمت قصير، أعقبه صوت الدمية، ينبض بحماسٍ طفوليٍ غريب، لكن فيه نبرة استغراب لم أتوقعها:
“لعبة الصمت؟ هممم… وما هي هذه اللعبة؟ عما تدور؟”
استغربت من ردّة فعلها، لم تكن غاضبة، لم تكن رافضة… بل بدت فضولية، كما لو أنها تسمع عن اللعبة لأول مرة، أو… كما لو كانت تنتظر سماع التفاصيل بدافعٍ خفي.
ترددت لوهلة، ثم تنفّست بعمق، وحاولت أن أبدو أكثر ثباتًا، رغم أن قلبي كان يقفز في صدري كعصفورٍ مذعور، وقلت بصوتٍ خافت:
“ت… تدور اللعبة حول أننا… نحن الثلاثة… يجب أن نصمت لخمس دقائق كاملة. لا نتكلم، لا نتحرك، لا نهمس، لا نُصدر أي صوت. والذي يخالف هذه القواعد… يخسر.”
صمتُ بعدها، أنتظر ردّها، كأنني ألقيت بحصاةٍ في بئر مظلم وأنتظر أن أسمع صوت ارتطامها.
ثم جاء صوتها، لكن هذه المرة بنبرة مفعمة بالحماس، وكأنها طفلة اكتشفت لعبةً جديدة:
“واو! تبدو اللعبة ممتعة!”
شعرت بشيء من الراحة يتسلّل إلى صدري، ربما أعجبتها… ربما يمكننا النجاة…
لكن الأمل سرعان ما بدأ يتآكل حين سمعتها تتابع بصوتٍ أكثر هدوءًا، يحمل بين نبراته شيئًا خفيًا… شيئًا غير مريح:
“ولكن… ألا تظنان أنها مملة قليلاً؟”
توقفت أنفاسي.
تابعتْ، بصوتٍ لا يخلو من الخبث:
“نحن فقط… سنصمت، ولا نتحرك… ثم إن الوقت قليل… خمس دقائق فقط؟”
بدأ العرق يتصبب من جبيني كأنه مطرٌ حارّ يسيل من داخلي.
هل لم تُعجبها اللعبة؟!
هل شعرت بالإهانة لأننا اخترنا شيئًا بسيطًا؟!
أم أن البساطة نفسها هي ما أثار سخطها؟
“آخخ…” لم أتمالك نفسي من التفكير، شعرت كأن الأرض تميد بي، وكأن كل قرارٍ صغير قد يتحوّل إلى كارثة.
لكنها لم تتركني أغرق في خوفي كثيرًا، إذ جاء صوتها مقاطعًا أفكاري:
“هممم… هل تمانع إن عدّلتُ اللعبة قليلاً؟”
تُعَدِل اللعبة؟!
ما الذي يعنيه ذلك؟!
أي نوع من التعديل؟!
هل ستجعلها أكثر صعوبة؟
هل ستضيف قانونًا سريًّا لا نعلمه؟!
هل ستضع فخًا خفيًّا تنتظر أن نخطئ فيه؟!
تجمّدت، وبدأت الكلمات تتعثر داخلي، لكنني أجبت رغم ذلك، وكأن لساني يعمل ضد إرادتي:
“ن… نعم، ب…الـ… بالطبع، ا…افعلي ما تشائين.”
كان صوتي يتعثر، وكلماتي تتصادم، ومخارج الحروف تتكسّر، وأنا أحاول أن أبدو طبيعيًّا، لكن النتيجة كانت عكس ذلك تمامًا.
أدركت متأخرًا أنني أظهرت خوفي بوضوح… لا حاجة لتخمينه.
وضحكت.
ضحكتها اخترقت الظلام كالسهم، كانت عالية، غريبة، متقطعة، مزيج من الضحك الطفولي المبالغ فيه، والجنون الذي يتسلّى بالضعف:
“هاهاهاها!هيهيهيهي!”
ضحكت طويلًا… ثم قالت بنبرة لا تحمل سوى معنى واحد:
“آه… أحسنت الإختيار.”
سكتت للحظة، ثم أضافت بصوت ناعم كنسمة، لكنّه يحمل في طياته خنجرًا مغروزًا في القلب:
“لو أنك رفضت… كانت ستكون اللعبة مملّة…”
ثم خفّ صوتها إلى حدّ الهمس، لكنه ظلّ واضحًا، كأنه يُقال من أمام وجهي تمامًا:
“ولو كانت اللعبة مملّة… لكنت سأعاقبكما… هيعيعيعيهي…”
تجمّدت في مكاني مجددًا.
فكرت في “لو أنك رفضت”، وتأملت الاحتمال الآخر… وأنني، بكلمة واحدة، كنت سأفتح علينا بابًا من الخطر الذي لا يُغلق.
نظرت في الظلام أمامي، ولم أرَ سوى السواد… لكنني شعرت بنظرتها تخترقني، نظرة خفية، تراقب كل تعبير، كل ارتعاشة، كل حركة، حتى تلك التي لم أفعلها بعد.
كل ما في كياني كان يقول شيئًا واحدًا:
لقد دخلنا اللعبة بالفعل… وما من عودة بعد الآن.
…
ضحكت الدمية ضحكتها المعتادة، تلك الضحكة التي لا تشبه ضحكة بشر، بل أشبه بمزج عبثي بين آلة مكسورة وطفلة شريرة تحررت من قصص الكوابيس.
بدا صوتها وكأنه يعلو من كل الاتجاهات، حتى خُيّل إليّ أنها تحوم حولنا في دوائر لا نراها.
ثم، وسط سكونٍ مشحون بالتوتر، جاء صوتها واضحًا، مرحًا، لكنّه يحمل شيئًا مظلمًا في عمقه:
“إذاً… الآن، بما أنني سأعدّل اللعبة قليلاً…”
توقف الزمن لوهلة في أذني، كأن عقلي أراد أن يرفض ما سمعه للتو.
تابعت، وهي تجرّ كلماتها ببطءٍ كمن يتلذّذ بتمزيق ورقةٍ هشة:
“فيجب عليّ…أن أجعلها ممتعة، أليس كذلك؟”
ابتلعت ريقي بصعوبة، وأحسست بأن قدميّ بدأت ترتجف من تلقاء نفسها.
“ممتعة”؟ تلك الكلمة تحمل في عالمنا معاني الراحة والضحك، لكن حين تنطقها دمية…ماذا أستطيع أن أقول…ينقلب معناها.
“أولاً…”
قالت، وهي تضع نغمة ترقب في صوتها:
“لن تكون المدة… خمس دقائق.”
صمتَت للحظة قصيرة، ثم أكملت بنبرة مبتهجة:
“بل ساعة كاملة.”
شعرت وكأن الأرض سُحبت من تحت قدمي.
ساعة؟!
المدة ستكون ساعة؟!
لم أتمالك نفسي، وخرجت مني همسة مشوشة، كمن ينطق بفكرةٍ لم تكتمل:
“المُدة ستكون ساعة… مــهلاً، مــاذا؟!”
لكنها لم تتوقف، وكأنها قرأت صدمتي وقررت أن تستمر في سحق أي أمل تبقّى داخلي:
“ولعبة الصمت… لن تكون ممتعة إن صمتنا فحسب. هذا سيكون مملاً، وأنا أكره الملل.”
توقفت قليلًا، ثم واصلت بنبرة أقل ما يُقال عنها إنها مرعبة بلُطْفها:
“لذلك… بعد كل عشر دقائق من مرور اللعبة، سيكون مسموحاً لأحدنا أن يتحّرك لمدة دقيقة واحدة فقط.”
كنت أحبس أنفاسي، قلبي ينبض في رأسي، وذراعيّ صارتا ثقيلتين وكأنهما حجر.
تابعت:
“وخلال تلك الدقيقة… يجب على ذلك الشخص أن يحاول إضحاك الشخصين الآخريّن!”
رفعت رأسي وكأنني تلقيت صفعة غير متوقعة.
ماذا؟!
إضحاك؟!
وأكملت بلا رحمة:
“وإذا لم يحاول أن يضحكهما… فسوف يخسر.”
كلمة “يخسر” في حديثها لم تكن بريئة، لم تكن مجرد “خسارة لعبة”، بل بدت كتهديد صريح بالنهاية… أو العقوبة… أو شيء لا أجرؤ على تخيّله.
بدأ رأسي يدور من كمّ التفاصيل الجديدة، كنت أحاول إعادة ترتيب الجمل في ذهني، لكن كلّ فكرة كانت تصطدم بأخرى، وتتفتت:
كل عشر دقائق… دقيقة حركة…
وفي تلك الدقيقة… يجب أن أُضحكهم؟
وإن لم أفعل… أخسر؟
لكن… كيف سأعرف إن انتهت الدقيقة؟
وإذا أخطأت بالتوقيت؟ إذا تحركت لثانية إضافية؟ إذا ضحكت خطأً في غير دوري؟ أو فشلت في إضحاكهم؟
كيف يمكنني حتى أن أُضحك أحدًا… بينما أنا نفسي على وشك الانهيار من الخوف؟
عقلي كان يزدحم بالأسئلة، كأن عاصفة من الشكوك هبّت داخله:
من سيكون أول من سيتحرك؟
هل سيُختار عشوائيًا؟ أم ستختاره الدمية؟ أم… ستجعلنا نحن نختار؟!
وإن فعلنا، هل سيكون ذلك فخًا آخر؟!
وماذا لو حاول أحدنا أن يُضحك الآخر ولم يضحك؟ هل هذا كافٍ لنعتبره “محاولة”؟ أم أن الدمية ستقرر… بحسب مزاجها؟
نظرت إلى الظلام، محاولاً أن أرى ملامحها أو أي تلميح يمكن أن يساعدني في الفهم، لكن… لا شيء.
لا يوجد سوى السواد… والنفَس الثقيل… وصدى ضحكتها الأخيرة وهي تخبو شيئًا فشيئًا، كأنها تختبئ مؤقتًا في الظلال، بانتظار أن تبدأ المتعة.
ثم ساد الصمت… مجددًا.
لكن هذه المرة، لم يكن صمتًا عاديًا.
بل صمتٌ ينتظر قرارًا.
صمتٌ تتسلل فيه قوانين اللعبة خلف إبتسامات مخادعة.
التعليقات