ساد الصمت المكان، صمتٌ لم يكن يشبه أي صمتٍ آخر…
كان صمتًا ثقيلاً، خانقًا، وكأن العالم بأسره قد توقف عن التنفّس، وكأن الزمن نفسه امتنع عن التقدم، متردّدًا أمام القادم.
وقفت هناك، بجانب كايرو، في ظلامٍ مطبق، لا يُرى فيه شيء، ولا يُسمع سوى صوت أنفاسنا المرتعشة وهمسات العرق وهو ينحدر من جباهنا ليختفي في العتمة.
لم نكن نعلم ما يجب فعله… لم يكن هناك طريق واضح للهروب…
لم يكن هناك ضوء يرشدنا، ولا مخرج يلوّح لنا بالنجاة.
لكن هناك شيءٌ واحدٌ كنا متأكدين منه…
الهروب من الدمية…سيكون صعباً.
شعرت بعقلي يبدأ في الدوران، أفكارٌ مشتتة، متخبطة، تتزاحم دون ترتيب، كلها تبحث عن طريقة للنجاة.
ماذا أفعل؟
هل أصرخ؟
لا… لا، هذا غباء، قد تهاجمني فورًا.
هل أكسر النافذة؟
ولكن… في هذا الظلام؟ مستحيل أن أراها، دعك من أن أعرف مكانها أصلاً.
هل أركض؟ ولكن… إلى أين؟
أنا لا أرى حتى قدمي!
“ماذا أفعل؟… ماذا أفعل؟…”
ترددت هذه الجملة داخل عقلي كأغنية جنونية لا تتوقف، تكررت حتى شعرت أنها ستجنّني.
لكن قبل أن أسترسل أكثر في دوامة الذعر تلك…
قاطعني صوتها.
ذلك الصوت…
الصوت الذي لا يمكن وصفه بأنه طفولي، رغم أنه يشبه صوت فتاة صغيرة.
كان زائفاً… مشوهاً… شريراً.
صوتٌ وكأن أحدهم عبث بمفاتيح آلة موسيقية مكسورة وجعلها تتكلم.
قالت بنبرة تتراقص على حافة الجنون:
“إذاً…سوف نبدأ اللعب…ما رأيكما؟ هيـهيـهيـهيـهي…”
اقشعر بدني.
ليس بسبب الكلمات نفسها، بل بسبب الطريقة التي قالتها بها… كأنها تنتظر هذه اللحظة منذ زمنٍ طويل.
التفتُ برأسي في محاولة يائسة لأن أرى شيئًا… أي شيء… لكن الظلام كان كثيفًا كالغبار المتراكم على مرآة منسية.
لم أتمكن حتى من رؤية كايرو، لكنه كان هناك… واقفًا بقربي، يتنفس، يراقب، مثلي تمامًا.
لم أكن أعلم ما يفكر به، ولا كيف تبدو ملامحه في هذه اللحظة، لكن إن كان هناك شيء واحد أكاد أكون متأكدًا منه…
فهو أن كايرو كان خائفاً أيضاً.
ربما لا يظهر ذلك، ربما لا يعترف به، لكنه خائف… تمامًا مثلي.
مرّت لحظات أخرى من الصمت، شعرتُ فيها أن قلبي قد بدأ يضرب بقوة تكاد تخرجني من مكاني.
أردت أن أقول شيئًا، أي شيء…
أردت أن أتحكم بالموقف… أو على الأقل، أتظاهر بذلك.
تنفست بعمق، محاولًا تهدئة التوتر في صوتي، رغم أن العرق لم يتوقف عن الانحدار من جبيني، وقلت بصوتٍ خافتٍ ارتجف قليلًا:
“إ… إذاً، مما فهمته… أنتِ تريدين أن نلعب معكِ… لعبة، صحيح؟”
سكتُّ بعدها، أنتظر الرد.
كأنني رميت حجرًا في بئر مظلم، ولا أعلم متى سيرتدّ صداه.
لكن الصوت جاء بعد لحظة قصيرة… أسرع مما توقعت.
قالت بنغمةٍ تغلفها السعادة المريضة:
“هيـهيـهي… صحيح! أريد أن ألعب معكما لُعبة ما…”
طريقتها في مدّ الكلمات، في تحويل الجملة العادية إلى نغمة راقصة على حافة الجنون… جعلتني أشعر أن الأرض تحت قدمي بدأت تميل.
لُعبة؟!
أي نوع من “اللعب” تفكر فيه دمية متحرّكة تظهر وتختفي وتحبس ضحاياها في الظلام؟
هل هو نوع من التسلية لديها؟
هل نحن فقط دمى ضمن لعبتها؟
هل هذه مجرد بداية… لشيء أسوأ؟
نظرتُ نحو حيث كان يقف كايرو، وهمست دون أن أتوقع ردًا:
“تمالك نفسك… لا تضعف… لا تُرِها خوفك…”
لكن داخلي كان يرتجف.
ولأول مرة منذ وصولي إلى هذا العالم…
أدركت أن هناك نوعًا من الشر لا يحتاج إلى سيف أو قوة خارقة…
بل يكفيه أن يبتسم في الظلام… ويطلب اللعب.
—
وبعد عدة ثوانٍ .
سمعت صوت تنفس سريع…كان صوت تنفس كايرو ، لابد أنه حقاً خائف ، ولكن ماذا أستطيع أن أفعل له…أنا أيضاً خائف .
لم أكن أريد أن أتكلّم.
كل خلية في جسدي كانت تصرخ داخلي: “اصمت!”، “لا تتكلم!”، “لا تُحفّزها أكثر!”.
لكنني -رغم الخوف الذي يعصرني- لم أستطع البقاء ساكنًا إلى الأبد.
كان عليّ أن أعرف… أن أفهم… أن أشتري وقتًا على الأقل.
تنفست ببطء، بعمق، محاولًا أن أبدو ثابتًا، رغم أن كل نبضة في قلبي كانت تقول العكس. ثم همست في الهواء المظلم، موجّهًا كلماتي إلى المجهول:
“إ… إذاً، ما هي اللعبة التي تريديننا أن نلعبها معكِ؟”
ترددت كلماتي في الهواء، ضعيفة، باهتة، كأنها تائهة تبحث عن أذن تصغي إليها.
لكنها لم تَضِع…
سمعت الضحكة أولاً.
ضحكة خفيفة… تتصاعد تدريجيًا.
ضحكة لم تكن بريئة، بل كانت ممزوجة بجنون خالص، كمن يتلذذ بمدّ لحظة الرعب قبل الانقضاض.
ثم جاء صوتها… بنفس النبرة الملتوية:
“همم…ماذا نلعب؟ ماذا نلعب؟…”
كانت كأنها تفكر بصدق، كما لو كانت فتاة صغيرة تُقلب في صندوق ألعابها، تحاول أن تختار بين دميتها المفضلة أو قطارها الصغير.
لكنّها ليست فتاة.
تابعت، بصوتٍ مفعم بالسخرية والتهكم:
“هل نلعب لعبة التضحية؟”
توقفت أنفاسي لوهلة.
“التضحية؟!”
ما الذي تقصده؟ هل… هل هذه مجرد اسم؟ أم تقصد “تضحية” بالمعنى الحرفي؟!
لم أستطع كبح توتري، همستُ بخوفٍ حاولت إخفاءه، دون جدوى:
“ماذا؟ لعبة التضحية؟ ما الذي… تقصدينه؟”
لكنها تجاهلت سؤالي كما لو أن كلماتي غير مهمة، وأكملت، بنبرة مرحة مرعبة:
“أم نلعب لعبة الإختباء والعد؟… أم لعبة جرأة أو صراحة؟… هيـهيـهيـهي…”
أحسست أن جدران المستودع بدأت تضيق، وكأنها تقترب، تنغلق علينا كما تنغلق المصيدة على فرائسها.
لكنها لم تتوقف…
قالت بصوتٍ يحمل فرط الحماسة واللامبالاة:
“لا أعلم ماذا أختار…هناك الكثير من الألعاب التي أريد لعبها…ولكن…ياللخسارة…”
توقفت لوهلة، ثم تابعت بحسرة طفولية مشؤومة:
“لدي فقط شخصين لألعب معهما…”
ثم بنبرة حزينة، كأنها تتحسر على ضياع فرصة ممتعة:
“لو أنني انتظرت لوقت أطول…لربما جاء عدد أكبر من الناس!”
هنا… شعرت أن الدم جمد في عروقي.
ما الذي تقوله هذه المجنونة؟!
هل كانت تعرف أننا سنأتي؟!
هل كانت تنتظرنا فعلاً؟!
منذ متى؟ منذ دخولنا القصر؟ منذ تلك الليلة الأولى؟
هل كنا مجرد “قطع” تنتظر دورها على لوح شطرنجها الخاص؟!
نظرت نحو الظلام بعينين مذعورتين، رغم أنني لم أر شيئًا، لكنني شعرت… شعرت بأنها تنظر نحونا مباشرة.
لم أكن أراها، لكني كنت متأكدًا أنها ترانا بوضوح…
ربما كانت تبتسم الآن، تلك الابتسامة الملتوية التي رأيتها سابقًا… الابتسامة التي لا تحمل أي شعور بشري… لا رحمة، لا منطق… فقط لذة السيطرة.
فكرت…
هل هذه الدمية فقط تبحث عن التسلية؟
أم أن هناك وراء هذا الستار السميك من الجنون، سرًا أكبر بكثير…؟
هل كنا مجرد صدفة… أم هدفًا؟
هل كانت تنتظر ضحايا بعينها؟
بل… هل هي وحدها هنا؟ أم هناك المزيد مثلها؟!
كانت الأسئلة تمزّق ذهني، والعرق يتصبب كأن جسدي يحترق من الداخل، ولا سبيل لإطفائه.
لكن أسوأ ما في الأمر…
هو أنني لا أملك أي إجابة.
فقط… الظلام.
وصوت الدمية…
واللعبة التي على وشك أن تبدأ.
التعليقات لهذا الفصل " 67"