خرجت من المستودع بخطى متزنة ظاهريًا، لكن داخلي كان ينهار.
الدمية… تلك الابتسامة… النظرة الثاقبة… كل ذلك لا يزال عالقًا في رأسي كصدى صرخة لم تنطفئ بعد.
وما إن ابتعدت عن الباب وأصبحت خارج الغرفة، حتى انهار قناع الهدوء عن وجهي، وتحررت خطواتي من القيود.
بدأت أركض.
ركضت كمن يهرب من ظلّه، أو كمن رأى شبحًا يطارده.
صوت خطواتي على أرض الممرات الرخامية كان عالياً، يضرب الجدران الحجرية ويرتدّ إليّ كنبضات قلبي المتسارعة.
لم أكن أعلم أين أذهب بالضبط، ولكنني فقط أردت أن أجد أحداً… أيّ أحد.
وصلت إلى الطابق الأول، نظرت حولي بعينين تائهتين، أبحث عن بصيص أمل، عن وجه بشري وسط هذا الليل الطويل.
وفجأة، وسط الظلال والأنوار الخافتة، رأيت وهجًا صغيرًا يلوح في البعيد.
شعلة.
شخص يحمل شمعة.
أسرعت الخطى نحوه، متأملاً ألا يكون هذا وهماً جديدًا من أوهام خوفي.
اقتربت أكثر… حتى اتضحت ملامحه تحت نور الشمعة.
كايرو.
يا لَحُسن الحظ… أو ربما سوئه، إن لم يصدقني.
كان واقفًا كعادته، متماسكًا، واثقًا من نفسه، وعيناه المتعَبَتان تنظران إليّ بنفَسٍ طويل كأنه قد سبق وتوقع رؤيتي.
رفع حاجبه وقال بنبرة لا تخلو من السخرية، وبصوته المعتاد:
“ماذا الآن؟ أهي قطة أخرى؟”
كلماته لم تكن مؤذية، لكنني شعرت وكأنها صفعة على وجهي في هذا التوقيت المشحون.
كنت ألهث، أتنفس بعنف، وكأن رئتي لم تعتادا الركض بهذا الشكل من قبل.
“لـ… لا… هذه المرة… مختلفة…” قلتها متقطع الأنفاس، محاولًا لملمة جُملي التي تبعثرت كأنفاسي.
وضعت يدي على ركبتيّ، محاولًا أن ألتقط أنفاسي، ثم رفعت بصري إليه وقلت بجدية، وكأن قلبي هو من ينطق:
“هناك دمية… دمية متحركة… في المستودع.”
ساد الصمت.
صمت ثقيل، وكأن الزمان نفسه توقف ليتأكد مما سمع.
كايرو لم يتحرك، لم يرمش حتى.
نظر إليّ بعينين تحملان بين الحذر والشك، كمن يحاول أن يفرّق بين الحقيقة والهذيان.
ثم قال أخيرًا، ببطء وكأنه يحاول جسّ ما وراء كلماتي:
“هل تمزح معي الآن؟”
شعرت بانفجار داخلي، بمرارة مزجت بين الرعب والخذلان، فقلت له بصوتٍ حادّ:
“أيبدو لك وجهي أنه يمزح؟!”
أشرت إلى وجهي الذي يتصبب عرقًا، وإلى أنفاسي اللاهثة، إلى رعشة صوتي التي لم أتمكن من إخفائها.
إن لم يكن هذا وجه رجلٍ خائف… فما هو إذاً؟
كايرو تنهد، نَفَسه خرج ببطء كما لو كان يتراجع عن عناده، ثم رفع الشمعة قليلًا وقال بنبرةٍ أقل سخرية:
“حسنًا… لنصعد ونرى، ولكنني متأكد أنها قطة ثانية.”
هززت رأسي بيأس، وأنا أمشي إلى جانبه، دون أن أجيب.
لو كانت قطة… فأنا على استعدادٍ لتربيتها بنفسي.
لكنني أعرف ما رأيته.
والدمية… لم تكن قطة.
—
بدأنا نمشي معًا نحو المستودع.
كنت أراقب خطواتي وكأن كل واحدة منها تقترب بي من فم هاوية لا مرئية.
لم أرغب حقًا في العودة إلى هناك… إلى تلك الغرفة التي تشبه فخًا مفتوحًا، بابه مصنوع من الخشب القديم وأرضه مرصوفة بالغموض.
أردت أن أتجاهل الأمر كله، أن أقول “لا بأس، ربما كنت أتوهم”، أن أترك الدمية وراء ظهري وأنسى تلك الابتسامة المرعبة التي رأيتها قبل قليل.
لكنني لم أستطع.
أنا حارس الطابق الثاني.
ومن واجبي أن أحمي النبيل فاليس، مهما كان التهديد… حتى ولو كان دمية.
نظرت إلى كايرو الذي يمشي بجانبي حاملاً شمعة يتراقص ضوؤها على الجدران الباردة.
كان يسير بثقة، وبملامح مزيج بين الملل والازدراء، وكأنه واثق أن ما نحن مقبلون عليه ليس إلا مشهدًا جديدًا من مسرحيتي العبثية.
وصلنا إلى باب المستودع.
وقفت أمامه، حدّقت في المقبض للحظة وكأنني أستعدّ لفتح بوابةٍ نحو المجهول.
ترددتُ لجزءٍ من الثانية، لكنني في النهاية دفعت الباب ببطء.
صريره اخترق الصمت كالسكين، وتسلّل ضوء الشمعة إلى الداخل، يكشف عن أكوام الصناديق وأرفف الخشب المغبرة.
لكن…
الدمية لم تكن هناك.
تجمدت في مكاني، وشعرت بقطرات العرق تتجمع على جبيني في لحظة، كما لو أن جسدي كله أعلن حالة طوارئ داخلية.
أنا متأكد…
أنا متأكد تمامًا أنني وضعتها فوق ذلك الصندوق تحديدًا، بدقة، وحرص، كمن يضع قنبلة موقوتة في مكان محدد.
فأين ذهبت؟!
كنت غارقًا في دوامة التفكير، إلى أن قاطعني صوت كايرو:
“ما هذا؟ أنا لا أرى أي دمية—”
وقبل أن يُكمل، وبدون تفكير، مددت قدمي وضربت ساقه ضربة خفيفة.
“أوتش!” قال متألمًا، وهو يلتفت إليّ بعينين مستغربتين. “لِمَ فعلت ذلك؟!”
ضحكت بتوتر، وقلت بصوت مصطنع:
“هاها، آسف، خطأ مني…”
نظرت إليه نظرة كلها توتر، أتوسل إليه بصمتٍ أن يفهم، أن يشعر بما أشعر به، أن يستوعب أن شيئًا ما… يراقبنا الآن.
لكن كايرو لم يفهم.
بالطبع لم يفهم.
قال بنبرة شبه ساخرة:
“إذاً، أين الدمية—”
ضربته مجددًا، هذه المرة بقوة أكبر.
“أوتشش!! ما بك؟!! لماذا تفعل هذا؟!”
ضحكت مرة أخرى، ضحكة كانت أقرب للبكاء، وقلت:
“هاها، آسف مجددًا… أنا حقًا أحمق الليلة.”
اقتربت منه، وتأكدت من أن لا أحد يرانا، ثم همست له بصوت خافت:
“ا…الدمية اختفت.”
تجمّد للحظة، وأنا أكمل، ألهث بين كل جملة والأخرى:
“أنا متأكد أنني وضعتها فوق الصندوق قبل دقائق فقط… لابد أنها… تراقبنا الآن.”
رفعت بصري إلى الزوايا المظلمة في المستودع، أحاول أن أستكشف حركة… نظرة… همسة… أي شيء.
ثم همستُ مجددًا:
“علينا الرحيل بسرعة… ولكن إن فعلنا ذلك فجأة، فستدرك أننا أتينا لأجلها. من الواضح أنها ليست غبية.”
كايرو بقي صامتًا لثوانٍ، ثم همس وقد بدت على وجهه علامات التردد:
“هل أنت متأكد… أنك لم تكن تتوهم؟”
أغلقت عينيّ للحظة، وتنفست ببطء كي لا أصرخ، ثم فتحتها ونظرت إليه نظرة رجل وصل إلى حافة الجنون وقلت:
“أنا متأكد أنني لم أتوهم.”
قال بصوت منخفض بعد تنهيدة:
“حسنًا… حسنًا… وماذا تقترح أن نفعل الآن كي… نرحل؟”
—
اقتربت من كايرو أكثر، وهمست له بحذرٍ شديد، أحاول أن أبدو طبيعيًا رغم العرق البارد الذي بدأ يتصبب على جبيني:
“لنتظاهر أننا نبحث عن قلمي.”
نظر إليّ باستغراب، حاجباه ارتفعا قليلًا، وهمس:
“أنت تحتفظ بقلم معك؟ هل أنت غريب أطوار؟”
تمالكت أعصابي، ولم أسمح لغضبي بأن يظهر.
فاللحظة لا تحتمل جدالًا فارغًا، فقلت بنفس الهمس:
“نعم، أحتفظ بقلم معي، كأي شخص قد يحتفظ بشيء عزيز عليه… لا وقت الآن لهذا، فقط جِد طريقة لتبدو طبيعيًا.”
صمتنا لثوانٍ، بينما أعيننا تتحرك في أرجاء المستودع بتوترٍ خفي.
ثم، وبصوتٍ مصطنعٍ عالي النبرة، قال كايرو متظاهرًا:
“هل أنت متأكد أنك قد أضعت قلمك هنا؟”
أجبته بسرعة، مجاريًا تمثيليته:
“نعم، أنا متأكد.”
قال مستندًا على جملة مُهيأة بعناية:
“إذًا… أين تعتقد أنه قد يكون؟”
فتنهدت ببطء وقلت:
“لا أعلم، لهذا جلبتك معي.”
هز رأسه وكأنّه يصدق، ثم قال:
“حسنًا، لنبدأ البحث عن قلمك.”
وبدأنا “المهمة الوهمية”، أو على الأقل، هكذا أردنا أن تبدو لمن يراقب.
أنا أبحث في الزاوية اليمنى من الغرفة، وكايرو يمرر يده فوق أحد الصناديق في الجهة المقابلة.
كلانا في الحقيقة لا يبحث عن قلم، بل عن أثرٍ… أي أثر لتلك الدمية المخيفة.
كنت أزيح الأشياء بحذر، أراقب الظلال، وأتأكد من أن كل ركن قد نال حظًا من نظراتي.
لكن لا شيء.
لا حركة.
لا أثر.
لا حتى بقايا خيط قماشي يدل على أنها مرت من هنا.
الغرفة كانت نظيفة على نحو مريب، كأن شيئًا ما تعمّد أن يمحو كل دليل على وجوده.
مر الوقت، ولا شيء.
أطلق كايرو تنهيدة ثقيلة، ثم قال بنفاد صبر:
“آخخ، أين هذا القلم بحق…؟”
أكمل بلهجة ملولة، وكأنه يحاول إقناع من يراقب أننا لم نعد مهتمين:
“يبدو أنه ليس هنا… لنعد ونبحث عنه في مكان آخر. لا بد أنك أسقطته هنا أو هناك.”
أومأت برأسي، موافقًا، وقلت:
“يبدو أنك محق… لنعد الآن.”
بدأنا في السير بخطوات هادئة نحو الباب المفتوح.
شعور خفيف بالارتياح بدأ يتسلل إلى صدري، وكأننا نجحنا في الهروب من فم الوحش دون أن يلتفت إلينا.
لكن…
ما لم أكن أعلمه، أن كايرو قرر أن “يمازحني”.
وقبل أن نخرج من المستودع، ضربني ضربة خفيفة على ظهري، وهو يقول ضاحكًا:
“هيه، لا تقلق على قلمك كثيرًا، سنجده.”
لكن… ما لم يكن يعلمه كايرو، أن هذه الضربة ستكون نقطة الانهيار.
شعرت بها، لم تكن قوية، لكنها دفعتني إلى الأمام بخطوة غير محسوبة.
وفي اللحظة التالية…
“تكتكة!”
خرج القلم من جيبي.
ذلك القلم الذي كنت أزعم أنني أبحث عنه.
سقط على الأرض الحجرية، وارتد مرتين قبل أن يستقر، صوته ارتفع في صمت الغرفة كصرخة انكشاف.
جمُدت في مكاني.
كايرو تجمّد أيضًا.
نظرت إلى القلم على الأرض كأن الزمن توقف، وتسللت الرهبة إلى أعماقي كالماء البارد يتسرب إلى جرح مفتوح.
صوت القلم كان كطلق ناري وسط السكون.
كأن الغرفة بأكملها فهمت ما يعنيه هذا السقوط…
كأن من يراقبنا الآن… أدرك أننا كنا نكذب.
في تلك اللحظة، شعرت أن أنفاس الغرفة تغيرت.
شيء ما كان يقترب… شيء لم نكن نراه، لكنه كان يشعر بكل ما نفكر به.
التعليقات لهذا الفصل " 65"