تنفّست بعمق، محاولًا أن أثبّت قدميّ على الأرض رغم الرعشة التي تتصاعد في جسدي كتيار كهربائيّ منخفض لا يتوقف.
كان الظلام لا يزال سيّد المكان، يُخفي كل شيء، ويكشف لنا فقط ما نخشاه: أنفسنا، وخوفنا، وصوت الدمية.
همست بنبرة بالكاد خرجت من حنجرتي، نبرة حاولت أن أجعلها ثابتة، رغم أنّها لم تكن سوى ارتجافة خوف مقنّعة:
“إ… إذًا، هل ستتركيننا نرحل بعد أن نلعب معكِ؟”
سكتُّ بعدها، أنصتُّ للفراغ الذي أمامي، أنتظر ردّها كما ينتظر المحكوم بالسيف قرار العفو أو الإعدام.
مرّت ثوانٍ ثقيلة، قبل أن يأتينا صوتها من جديد، بنبرة فيها لمسة ساخرة، كأنّها تضحك على سذاجتنا:
“أترككم ترحلون؟… هممم، حسناً، لِمَ لا…”
صمتت للحظة.
كنا ننتظر نهاية الجملة، لكن الصمت وحده أجاب أولاً، وكان هذا الصمت وحده كافيًا ليجعل القلب يرتجف.
ثم أكملت بصوتٍ غريب، تتراقص فيه الضحكة المجنونة فوق جسر من التهديد:
“ولكن… إذا لم تجعلوني أستمتع…”
توقف صوتها فجأة.
لم يكن هذا التوقف راحةً، بل كان متعمّداً… كأنها تتلذّذ بإثارة خوفنا، وتستمتع بسكوتنا المرتقب لنهاية الجملة.
ثم أكملت، وهذه المرة بنبرة تقطر خبثًا وتهديدًا:
“سوف أعاقبكم… هيعيعيهي… هيـهيـهيـهيـهي!”
تجمّدت.
كأن الهواء نفسه توقف في رئتيّ.
كلمة “أُعاقبكم” علقت في أذني كصدى أبدي، وبدأت تدور في رأسي مثل تعويذة شريرة، لا أستطيع الهروب منها.
بلعت ريقي بصعوبة، وبدأت أفكاري تتخبّط في رأسي دون ترتيب:
تعاقبنا؟!
ما الذي تعنيه بالضبط؟!
هل هذا تهديد بالموت؟ أم شيء أسوأ؟! هل هذا العقاب هو ما أتخيله؟ تعذيب؟ تشويه؟
لا… لا، لا يجب أن أسمح للخوف أن يُشلّني.
استجمع شتات نفسك… تماسك.
لكنّ صوتها عاد، وكأنّه يلاحق كل محاولة مني للتركيز أو التفكير.
قالت بصوت أكثر وضوحًا، وهذه المرة بكلماتٍ تحمل قرارًا لا مفرّ منه:
“بما أننا سنلعب لعبة واحدة فقط…فسوف أترك لكما حرية إختيارها.”
توقف قلبي لوهلة، وأنا أحبس أنفاسي، غير مصدق ما سمعته.
لكنها لم تنهِ حديثها بعد:
“لديكم ثلاث دقائق فقط…لتقررا ما هي اللعبة التي سنلعبها.”
ثم أكملت بنبرة هادئة… لكنها كانت تحمل خلفها وحشًا يستعد للانقضاض:
“وإذا مرّت الدقائق الثلاث…دون قرار…”
ضحكة قصيرة، ثم همسة خبيثة:
“فأنا…من سأختار اللعبة.”
غمرتني قشعريرة بردٍ داخلي لا علاقة لها بحرارة الجو أو برودة المكان.
ثلاث دقائق؟!
فقط؟!
كيف يمكننا اتخاذ قرار كهذا ونحن لا نعرف حتى نوع هذه الألعاب التي تفكر بها؟!
نظرت في الظلام نحو كايرو.
ثلاث دقائق.
ثلاث دقائق نحدّد فيها مصيرنا.
إن أخطأنا في اختيار اللعبة… قد يكون العقاب انتظارًا آخر، أو رعبًا لا يُقارن.
وإن لم نختر شيئًا… فالدمية… ستختار.
ولك أن تتخيّل نوع اللعبة التي قد تختارها دمية مختلّة تنتظر من قرون في الظلام.
بدأت أنفاسي تتسارع مجددًا.
كان عليّ التفكير بسرعة… لكن الرعب بطبعه يجمّد التفكير.
الوقت بدأ يمرّ.
الدمية تراقب.
والخطر… يتنفس معنا في الغرفة.
بدأ العدّ التنازلي في رأسي، رغم أنني لا أملك ساعة.
لكن كل ثانية تمرّ… كانت تشعرني وكأنها قطعة من أعصابي تُنتَزع.
اللعبة… علينا أن نختارها.
الآن.
قبل فوات الأوان.
…
نظرت نحو الظلام بجانبي، حيث يفترض أن يكون كايرو واقفًا، وشعور الوحدة بدأ يخنقني، رغم علمي بوجوده بقربي.
مددت يدي في تردّد، أبحث عن أي شيء، حتى لامستُ بأطراف أصابعي قميصه.
قبضت عليه بشيء من الرجاء، وكأنني أتشبث بواقع بدأ ينهار.
همست، بصوت منخفض يكاد يذوب في العتمة:
“كايرو… يجب علينا أن نختار اللعبة بسرعة… هل لديك أي أفكار؟”
حبست أنفاسي.
لا إجابة.
مرّت بضع ثوانٍ بدت كأنها دهر… لا صوت، لا حركة، فقط الصمت يزداد ثقلاً، وكأن جدران الغرفة تقترب منّا أكثر فأكثر.
عدتُ أهمس، هذه المرة بشيء من القلق:
“كايرو؟… مرحبًا؟ هل تسمعني؟”
لكن الظلام ظلّ صامتًا… ووجه كايرو ظل مخفيًا عني، لا ينبس بكلمة، لا يُظهر أي علامة على الحياة.
هنا… تسلّل الخوف إلى قلبي بطريقة مختلفة.
ليس من الدمية هذه المرة، بل من كايرو نفسه.
هل جَمَده الرعب؟ هل توقّف عقله عن العمل؟ هل استسلم؟
فجأة شعرت بالوحدة، رغم أننا شخصان.
توترت، تسارعت دقات قلبي، وبدا لي أنني وحيد في هذه المواجهة.
ماذا إن لم يستفق؟ ماذا لو تُرك القرار لي وحدي؟ ماذا لو اخترت اللعبة الخاطئة؟!
توالت الأسئلة عليّ كالسياط:
هل سأقودنا إلى الهلاك؟
هل سوف نموت؟
هل هذه هي النهاية؟
هل جئنا إلى هذا المكان لنلعب… ونموت؟!
“سوف نموت… سوف نموت!” ــ هكذا صاح عقلي في الداخل، يرددها كصرخة طفل في ليلٍ بلا قمر.
لكنني رفضت أن أستسلم لهذا الصدى المرعب.
وفي لحظة من الغضب، من الرغبة في كسر الجمود… رفعت يدي وصفعت نفسي بقوة!
صفعة حقيقية.
لم تكن رمزية ولا مترددة… بل صفعة جعلت وجهي يشتعل ألمًا، وجفني يرتجف.
ولكنها أيقظتني.
آه، كان ذلك مؤلمًا… لكنه حقيقي… وأنا بحاجة إلى شيء حقيقي.
التقطت أنفاسي، ثم نظرت إلى الفراغ بجانبي مجددًا، وبلا تردد، رفعت يدي الأخرى، وصفعت خد كايرو بقوة مفاجئة.
سمعت أنينًا خافتًا، ثم صوتًا مبحوحًا، يحاول كتم الصراخ:
“أووووتش! لِمَ فعلت ذلك؟!”
شعرت براحة غريبة تغمرني.
لقد عاد.
همست بسرعة وأنا أزفر توترًا:
“استيقظت أخيرًا… لا وقت لدينا لهذا الآن! يجب أن نختار اللعبة بسرعة!”
كايرو بقي ساكنًا للحظات، ثم همس بصوتٍ متردد، وقلق واضح في نبرته:
“و… ولكن ماذا لو اخترنا اللعبة الخاطئة؟ ماذا لو كانت اللعبة التي نختارها… صعبة؟!”
همسته لم تكن خوفًا فقط، بل محاولة للتمسّك بأي احتمال يبرر عدم الاختيار… التردد حين يكون الخطر حقيقيًا.
لكنني نظرت إليه ــ أو إلى موضعه ــ وقلت بإصرار خافت:
“ولكننا لم نحاول بعد… لا نعلم ما ينتظرنا، ولكن يجب علينا المحاولة على الأقل.”
سكت.
أحسست بتردده كما لو أنني أراه رغم الظلام.
كان يفكر، يتصارع مع نفسه، يحاول أن يجد مخرجًا… أو شجاعة.
ثم، بعد صمت ثقيل، قال:
“ح… حسنًا… ليس وكأن لدينا اختيارات أفضل.”
كان صوته لا يزال مهزوزًا، لكن فيه بذرة قرار.
وبذرة القرار، في مواجهة دمية مجنونة، قد تكون كل ما نملك.
—
وبعد أن استعاد كايرو بعضًا من وعيه، ظلّ صامتًا لوهلة، يتنفس ببطء، وكأنه لا يزال يحاول الخروج من كهف الرعب الذي غرق فيه قبل لحظات.
بدا أنه يحاول أن يهدّئ دقات قلبه، أن يلملم بقايا أفكاره المبعثرة.
أما أنا، فكنت أقف هناك، متوترًا، أراقبه من خلال الظلام، رغم أنني لم أرَ ملامحه.
كنت أستشعره فحسب… أستشعر تردده، تلعثمه الداخلي، خوفه من أن يكون الخطأ القادم هو الأخير.
اقتربت منه أكثر، وهمست، بصوت حاولت أن أجعله هادئًا رغم رجفته الخفيفة:
“إ… إذاً، هل هناك لعبة سهلة… نستطيع لعبها؟”
صمت كايرو للحظة، وكأنه يقلب الأمر في عقله، ثم ردّ بصوت خافت، وكأن الكلام نفسه يُثقل عليه:
“أظن أنني أملك… فكرة للعبة سهلة.”
شعرت بوميض أمل صغير يضيء داخلي، تمسكت به على الفور، وقلت بسرعة وهمست:
“ما هي؟”
لكنه لم يجب مباشرة.
سمعت صوته يهبط مجددًا نحو الحذر والشك، وكأن حتى مجرد طرح الفكرة أصبح عبئًا:
“ولكن… لا أعلم إن كانت هذه اللعبة ستكون… لعبة جيدة.”
لم يكن هناك وقت لهذا التردد.
فهمست بإصرار، أقرب إليه مما مضى:
“فقط… قل لي ما هي اللعبة، الآن.”
تنهد كايرو ببطء، ثم قال، وهو يحاول أن يبدو عقلانيًا:
“اللعبة… هي لعبة الصمت لخمس دقائق. من يتحرك، يضحك، يهمس، أو يفعل أي شيء… يخسر.”
لعبة الصمت…
ترددت الفكرة في رأسي، وبدت بسيطة… بشكل مخيف.
نحن فقط… نبقى صامتين. لا حركة. لا صوت. لا نفس مرتفع. لا حتى همسة.
لكن كايرو لم ينتهِ.
تابع، بصوتٍ أكثر انخفاضًا، وكأن حتى تفكيره يخيفه:
“ولكن… هل تظن… أن الدمية ستعتبر… الرمش… خسارة؟”
توقفت أنفاسي للحظة.
تابع هو، محاولًا إقناعي، أو ربما إقناع نفسه:
“ربما قد تفعل… ولكننا عندما كنا صغارًا، الرمش كان شيئًا استثنائيًا. شيء لا إرادي… مثل نبض القلب… أو تدفق الدم… أليس كذلك؟”
لم أجب.
بقيت صامتًا.
لم أكن أعلم… بماذا أرد.
فكرته… كانت منطقية.
وفي ذات الوقت، لم تكن كذلك.
نعم، الرمش لا يمكن إيقافه بسهولة، إنه رد فعل طبيعي، جسدي، فطري.
لكننا لا نتعامل مع شخص طبيعي هنا… بل مع كيان لا يمكن التنبؤ بقوانينه، ولا بنظرته لـ”العدالة” أو “الخسارة”.
ربما تراها “غشًا”.
وربما تعتبره “كسرًا لقواعد اللعبة”.
وببساطة… قد تقرر أن تقتلنا.
ابتلعت ريقي بصعوبة، وأنا أشعر بأن قلبي عاد للنبض بسرعة غير مألوفة.
نظرت إلى الفراغ أمامي، إلى الظلام الذي يحتوينا جميعًا، وكأن الجدران نفسها تنتظر قرارنا.
أدركت فجأة أن البساطة في هذه اللعبة قد تكون خادعة.
قد نعتقد أننا سننجو بالصمت… لكن ماذا إن كان هذا الصمت نفسه هو الفخ؟
لم أكن أملك إجابة.
فقط… خوفي.
وخوف كايرو.
وفكرة… قد تكون خلاصنا.
أو نهايتنا.
التعليقات لهذا الفصل " 56"