صدر صوتٌ حادٌّ اخترق سكون الغرفة كأنّه سكين تُمزق به ستارة من الأمان الوهمي.
“كلاك!”
التفتنا أنا وكايرو فوراً نحو مصدر الصوت، قلوبنا تخفق في وقتٍ واحد، أعيننا تبحث عن تفسير لما سمعناه.
كان صوت الباب… الباب يُغلق.
لم يُغلق بهدوء، بل بإحكامٍ مريبٍ ومفاجئ، كما لو أن يدًا خفية جذبته بقوة، وأرادت أن تؤكد لنا أننا لم نعد أحرارًا.
ثم، ومن دون أي مقدمات، انطفأت الشمعة.
هكذا… ببساطة.
انطفأ ضوءها كأن أحدهم نفخها عمداً، وسقطت الغرفة في ظلامٍ دامس، كثيف، خانق… ظلام من ذلك النوع الذي لا يُرى من خلاله حتى الأصابع أمام الوجه.
سكنت كل الأصوات.
لم يعد هناك ضوء، ولا حركة، ولا حتى همسة هواء.
فقط… أنا، وكايرو… وربما شيءٌ آخر.
ذلك الشيء الذي جعل الباب يُغلق، والشمعة تنطفئ.
ربما هي… الدمية.
شعرت بتوترٍ يشتعل في صدري، وكأن كل حواسّي قد صارت نُذُر خطر، وقلت بصوتٍ هامسٍ متقطع:
“ك…كايرو؟ أين أنت؟”
استمعت في الظلام، بقلق لا يوصف، حتى جاءني صوته قريبًا، هامسًا متوترًا بدوره:
“أ…أنا بجانبك…”
كان صوته مرتعشًا قليلًا، ومشحونًا بالقلق، وهو أمر نادرٌ على كايرو، الذي لم أعتد منه إلا الثقة والهدوء.
هذا وحده كان كفيلاً بإخباري أن الموقف قد تخطّى المزاح والخوف العابر.
همستُ وأنا أقاوم ارتجاف صوتي:
“ي…يجب علينا الخروج من هنا… والآن.”
بدأت أتحرك ببطء، ألوّح بيدي أمامي في الظلام، كأنني أسبح في بحرٍ من العمى، أخشى الاصطدام بأي شيء… أو بأي كائن.
كانت الأرض باردة تحت قدمي، والجوّ ثقيل، مشبع بشيء غير مفهوم.
ليس الهواء فقط، بل كأن الغرفة كلها تنبض بشيء حيّ لا يُرى.
مددت يدي أتحسس الجدار، حتى وجدت الباب.
أمسكت مقبضه ببطء، تنفّست بعمق… وسحبته.
لكنه لم يتحرك.
شدّدت أكثر… لا شيء.
جربت أن أديره بقوة… بلا جدوى.
صمتّ، والعرق بدأ يتصبّب من جبيني، ليس بسبب الجهد، بل من الرعب الذي بدأ يلتهم أطرافي ببطء.
همستُ مجددًا لكايرو بصوت منخفض، أحاول السيطرة على نفسي:
“ا…أمم كايرو… أظن أننا وقعنا في مشكلة… مشكلة كبيرة.”
جاءني صوته أقرب هذه المرة، ونبرته لا تقل توترًا عني:
“م…ماذا؟ ما الذي تقصده؟”
ثم اقترب أكثر، وقال وهو يهمس:
“تنحَّ جانبًا… أنا سأفتح الباب.”
أحسست بيده تدفعني بخفة، خطوة واحدة للخلف، ثم استمعت لصوت المقبض وهو يديره.
مرة…
مرتين…
ثم صمت.
كأن كل شيء في العالم قد توقف، ولم يعد هناك سوى صوت أنفاسنا المتقطعة في العتمة.
لكن الباب لم يُفتح.
ظلّ مغلقًا.
وأنا أعرف، وكايرو يعرف، والجدران من حولنا تعرف…
أننا لسنا وحدنا.
…
أطبق الصمتُ على الغرفة ككفنٍ أسود، لا يُرى فيه ضوء ولا يُسمع فيه سوى أنفاس مرتجفة.
وفي تلك اللحظة المقيّدة بين الأمل والخوف، همس كايرو بصوت مرتجف وهو يحاول إدارة المقبض مجددًا:
“م…ما هذا؟ لماذا لا يفتح الباب؟”
كان صوته خليطًا من الدهشة والغضب والخوف، نبرة لم أسمعها منه من قبل… وكأن ثقته المعتادة قد تصدعت أمام هذا الموقف.
وفجأة… سمعت صوت شيء يُسحب ببطء.
صوت احتكاك الحديد بالجلد.
صوتٌ أعرفه جيدًا.
سيف.
سيف كايرو.
ثم تلاه صوتٌ حادٌّ… مرتجٌّ… كأن جدارًا من الفولاذ تلقّى الضربة مباشرة:
“كروووووم!”
اهتزّ الصدى في جدران المستودع، وتردّد في أذني كطرق طبولٍ مرعبة.
تشنّج جسدي.
قلتُ هامسًا، بتلعثم لا إرادي:
“ك…كايرو؟ ه…هل أنت بخير؟”
ساد صمتٌ قصير، ثقيل، كأن الزمن توقف ليتأكد من أنه لا يزال حيًا.
ثم، بصوتٍ منخفضٍ ومضطرب، جاءني رده:
“ل…لماذا هذا الباب لا يُفتح؟ ضربته بسيفي بكل قوتي… أي نوع من الأبواب هذا… لا يتأثر بسيف؟!”
هنا أدركت ما حدث.
الصوت الذي سمعته لم يكن من الخارج… بل من سيف كايرو وهو يحاول كسر الباب.
لكنّ السؤال الذي طعنني داخليًا لم يكن عن الباب…
بل عن كايرو.
ألم يفكر؟
ألم يتساءل عمّا سيحدث إن سمعَنا من بالداخل؟!
همستُ إليه بنبرةٍ خنقتها مشاعر الغضب والرعب معًا:
“أيها الأحمق… لماذا فعلت ذلك؟! قد تهجم علينا الدمية بسببك!”
سمعت صوت تنفسه المتسارع، ثم همسه يردّ بحنق مكبوت:
“وماذا تتوقع مني أن أفعل في هذه الحالة؟! نُحبس في مستودع مظلم مع دمية تتحرك وتختفي؟! أضرب الجدار أو أضرب نفسي؟!”
كنت على وشك الرد… لولا أن صوتًا ثالثًا قاطع همسنا.
صوتٌ ليس منّي… ولا من كايرو.
بل صوتٌ آخر.
صوتٌ أنثوي… طفولي…
لكنّه… مشوّه.
لا يشبه صوت فتاة بريئة، بل أقرب ما يكون لصوت دمية مكسورة تتحدث وهي تُخفي وراء أنفاسها الباردة نيةً خبيثة.
“هل أنهيتما حديثكما؟”
تجمّدت.
كأن عروق جسدي توقفت عن ضخ الدم، وكأن الهواء ذاته انسحب من الغرفة فجأة.
لم أتحرك.
لم أتنفس.
حتى كايرو، الذي طالما عرفت صلابته، صار تمثالًا للحيرة والرعب بجانبي.
الصوت لم يكن مرتفعًا… لكنه تسلل إلى أعمق نقطة في صدري، كخنجر بارد غُرس في قلب طفل نائم.
لم يأتِ من زاوية واضحة.
بل بدا كأنه ينبثق من كل مكان في الغرفة.
من الظلال…
من الأرض…
من خلف الصناديق…
من الجدران نفسها.
مرّت ثوانٍ معدودة، لكنها شعرت كدهرٍ كامل.
وبينما لم نزل واقفين، نحاول فهم ما سمعناه…
عاد الصوت.
هذه المرة أوضح.
وأقرب.
ومرعب أكثر… نبرة تقطر خبثًا وسخرية، كأنها تستمتع بشللنا:
“إذاً…بما أنكما انتهيتما من الحديث…”
ثم لحظة صمت قصيرة، تلتها همسة طويلة متموّجة بالجنون:
“هل نبدأ اللعبة الآن؟… هيـهيـهيـهيـهيـهيـهي…”
انقبض قلبي.
وأحسست بكل شعر في جسدي ينتصب دفعة واحدة.
كان الأمر حقيقيًا.
لا شك بعد الآن.
الدمية… تتحدث.
وتعي.
وتخطط.
وتنتظرنا لنلعب معها “اللعبة”.
في لحظةٍ خاطفة، مرّ شريط حياتي في ذهني، كأن الزمن داخلي تحوّل إلى آلة عرضٍ تسحب الصور بعشوائية… وجوه أحبائي… عائلتي… عالمي القديم… وحياتي التي لم أعد أعرف إن كنت سأعود إليها.
كايرو بجانبي لم يقل شيئًا.
ولم يحتج لأن يفعل.
فنظراتنا في الظلام، رغم أننا لم نكن نراها، التقت.
كنا متجمدَين… عاجزَين.
لكننا عرفنا ما يعنيه هذا الصوت.
عرفنا أن الدمية لم تكن تراقبنا فقط.
بل كانت تنتظر اللحظة المناسبة…
لتبدأ اللعبة.
التعليقات