6
أثناء استماعها إلى الحديث، احمرّت شحمة أذن آريا خجلًا.
أن تصل تقارير إلى أخيها حتى عن توقّف دورتها الشهريّة، مثل هذه المعلومة الشخصيّة، كان أمرًا مُهينًا للغاية.
وأن يعتبر بادڤا العقم، الذي قد يكون عيبًا قاتلًا بالنسبة للنساء النبيلات، ميزة لها، زاد الأمر إيلامًا وإهانة.
لقد كان يقصد أنّه، بما أنّ طفلًا من نسل آريا لن يُشكّل تهديدًا للعرش، فإنّها تصلح لتكون أداة مريحة لعقد زيجات المصالح.
هو لم يكن يعاملها كأختٍ يحبّها، بل لم يكن يعاملها حتّى كإنسانة.
لكن ما جاء بعد ذلك، من كلام والدتها، كان أشدّ قسوةً.
“إن كنا سنزوّجها، فماذا لو دعوناها للقاء الأمير إليسيا؟”
“تعنين لوسيان؟ صحيح أنّه أبدى اهتمامًا بها، ولكن…”
“أجل، وهناك اجتماع قريب، أليس كذلك؟ من المؤسف أن أضطرّ لرؤية وجهها مرّةً أخرى.”
“لكن، لو أرسلنا الأميرة إلى دولة أجنبيّة، فإنّ الاعتراضات في الداخل ستكون عنيفة. هذا عدا عن كون آريا مخطوبة بالفعل، أليس كذلك؟ فبعد غياب والدنا، أصبح دوق بندريكس هو الوحيد من فئة الـS في الإمبراطوريّة.”
“مدى قدرتي على السيطرة على الدوق، سيكون المقياس الحقيقيّ لكفاءتي. ولكي أروّضه كالكلب الذي لا يعضّ صاحبه، فلا بدّ أن تتزوّجه آريا. ستكون هي طوقه الذي يُبقيه تحت السيطرة.”
تذكّرت آريا ما قاله لها بادڤا في النهار، حين أتى يطلب دعمها ومساندتها. وقتها، كانت تُفكّر بصدق في كيف يمكنها مساعدته.
دون أن تدري أنّه كان يقصد استغلالها للسيطرة على “نوكتورن”.
“فهمتُ ما تقصده. لكن، راقبها جيّدًا ولا تسمح لها بالخروج من القصر كما تشاء.”
“هاها، انتِ تقلقين من لا شيء، يا أمي. لقد فقدت قواها، وأصبح القصر هو الملاذ الوحيد لها الآن. أتظنّين أنّها ستجرؤ على مغادرته بنفسها؟ بل ستتوسّل ألّا تُطرد منه.”
وأمام ضحكاته الساخرة، شعرت آريا أنّ وعيها يتلاشى.
هل هؤلاء فعلًا عائلتي التي أعرفها؟
بيدٍ ترتجف بشدّة، دفعت الباب محاولةً الخروج من المكان.
أرادت الفرار. الآن.
-دَرك
في اللحظة التي أُغلِق فيها الباب، رأت بادڤا يلتفت ناحيتها.
فاستدارت فورًا وركضت بكلّ ما أوتيت من قوّة، قاطعةً الرواق المقابل للمكتبة.
“هاه… آه…”
أمّي وأخي حاولا التخلّص منّي.
لقد تخلّت عنّي عائلتي.
لم يكن الألم هو ما شعرت به، ولا الغضب أو الحزن. كان شعورًا بالارتباك والذهول.
هل هذا واقع حقًّا؟
عائلةٌ كنت أظنّ أنّها ستحميني مهما حدث، تحاول دفني لمجرّد أنّني أصبحت عاجزة؟
شعور بأنّ كلّ ما كانت تؤمن به قد انهار. كأنّها ما زالت في غيبوبتها، وكلّ هذا ليس سوى كابوس.
لكنّ الألم في كاحلها، وضيق أنفاسها كلّما ركضت، كان واقعيًّا بشكل قاسٍ.
القصر الذي وُلدت فيه وكبرت، أصبح أشبه بزقاق غريب في دولةٍ لا تعرفها.
أرادت الهروب.
لكن… إلى أين؟
في لحظة انهيار، توقّفت آريا فجأة.
وحين وصلت إلى طريقٍ مسدود، لم يخطر في بالها سوى اسمٍ واحد.
‘نوك… تورن.’
خطيبها، الرجل الذي وعدته بالمستقبل.
حتى لو خانها الجميع، كانت تشعر أنّه وحده يمكنها الوثوق به.
سأطلب المساعدة من نوكتورن.
كانت متأكّدة أنّه في القصر. لقد سمعت صوته حين استخدمت قواها.
صحيح أنّها لم تستطع تحديد موقعه بدقّة، لكنّها سمعته.
في تلك اللحظة، لفت انتباهها شمعدان معلّق على الحائط.
وهمّت بصرف نظرها، لكنّ فكرةً طافت في ذهنها فجأة.
حين استخدمت قواي العقليّة… كنت أرى النار.
تردّدت للحظة، ثمّ اقتربت من الحائط. خطواتها كانت متعثّرة، كأنّها مخمورة. وحين لامس ضوء النار خدّها، بدأ العرق البارد يتجمّع على صدغها.
كانت هذه مجازفة.
شعرت كأنّها على وشك إيذاء نفسها بيدها.
لكن، عندما هبّت نسمة هواء فجعلت النار تشتدّ، تحوّلت ألسنة اللهب مجدّدًا إلى فراشاتٍ ناريّة طارت نحوها.
“هاه…”
تراجعت خطوةً وهي تسند يدها إلى الحائط، وقد فاجأها فيض الأصوات الذي تدفّق فجأة إلى رأسها. ركّزت وسط الضجيج لتلتقط صوتًا يتعلّق بـ “نوكترن”.
— “لماذا لا يأتي دوق بندريكس؟ لقد مضى شهر كامل، ألا يجدر به أن يُطلّ علينا مرّةً واحدة على الأقل؟”
— “ما عسانا نفعل؟ بعد ما حصل للأميرة، لا بدّ أنّ مشاعره خمدت لها.”
— ” هل رأيتِ أذنها اليسرى؟ لو كنتُ رجلًا، لما…”
توقّفت آريا عن التنفّس للحظة، وهي تستمع للشتائم اللاذعة من الخادمات.
حينها طيف صوت بادفا عاد يتردّد في ذهنها.
<لم يَبقَ سوى وحشٍ، جسده نصفُه ذائب.>
رغبت آريا في الحفاظ على هدوئها، فركّزت مجدّدًا.
— “يقولون إنّ سموّ الدوق بدأ يواعد فتاةً جديدة، أثناء غيبوبة الأميرة.”
— “هل خان صاحبة السمو؟ في الواقع سمعتهم يقولون إنّها آنسة مينيت، ابنة الماركيز.”
ماذا؟
خطيبي، الرجل الذي يحمل علامتي على جسده، يخونني؟
مع مينيت، أعزّ صديقاتي؟
كدتُ أضحك.
“هاه…”
لا شيء يُسلّي الخادمات كقصص القصر التافهة.
لكن لو كان الأمر مختلقًا، فليته كان أكثر معقولية.
مينيت ونوكتورن؟ خيالهم خصب… ولكن…
— “أنا مُرهق.”
ما إن سمعت صوته المألوف، حتّى فتحت عينيها فجأة.
لقد وجدتُه.
صوت “نوكتورن” كان يأتي من الجناح الجانبيّ. أمسكت الشمعدان، وتبعته.
نوكتورن، يا شريكي.
ربّما كان الخدم يجهلون طبيعة “الإيشافيه”، لذا اختلقوا الشائعات. لكنّ العلاقة بين الشريكين لا تُكسر بهذه السهولة.
وهذا ما جعل بادڤا يحاول استغلالها للسيطرة عليه.
الشريك، هو من وُلِدتَ وأنت تحمل علامته على جسدك.
تذكّرت الحلم الذي رأته هذا الصباح، لحظة لقائهما الأوّل.
رغم أنّ ضوء المصباح الذي أحضرته الخادمة حوّل الحلم إلى كابوس، إلّا أنّه في الحقيقة، كان ذكرى جميلة.
في عيد ميلادها الرابع، حين قرأت آريا قلوب الآلاف في وقتٍ واحد، أصبحت قصّتها أسطورة بين الناس. لكنّ تلك الحادثة تركت أثرًا نفسيًّا سيئًا فيها.
أمرها الإمبراطور والإمبراطورة ألّا تتطفّل على مشاعر الآخرين، لكنّها لم تستطع الكفّ عن ذلك.
كيف لطفلةٍ أن تُقاوم لذّة الشعور بأنّ العالم بأسره يحبّها؟
فأصبحت حبيسة غرفتها، لا تنام، تلتهم مشاعر الناس ليل نهار، حتّى فسد روتينها بالكامل.
حين عجزت الإمبراطورة عن تحمّل الوضع، اتّخذت قرارًا صارمًا، قيّدتها بخاتم كبحٍ لا يُستخدم إلّا على المجرمين، وأغلقت قدرتها قسرًا.
ولكن، ما إن حُجبت قوّتها، حتّى أصبحت عاجزة عن تحريك إصبعٍ واحد.
“آري، ما الذي يُزعجكِ؟”
“حين لا أسمع أصوات الناس… أشعر كأنّني تُركتُ وحدي في هذا الكون.”
حينها، أدرك الإمبراطور والإمبراطورة خطورة الموقف، فاستعانا بأشهر المستشارين النفسيّين لعلاجها والاعتناء بها.
ولذلك، حين دخلت الأكاديميّة، كانت قد أصبحت فتاةً ناضجة يعتمد عليها الجميع. لكنّها، في أعماق قلبها، كانت تشعر بفراغٍ لا تفسير له.
ولهذا، حين عرفت عن مفهوم “الشريك”، علّقت آمالًا كبيرة.
ربّما هذا الفراغ، سببه أنّني فقدت نصف روحي.
وحين عثرت أخيرًا على نوكتورن، بالغت في ردّ فعلها، وتصرّفت على غير عادتها.
“سأرفع الأمر إلى المدير. ستُعقد لجنة تأديبيّة، فاستعدّوا.”
“هـه؟ مـ-مجرّد أمرٍ كهذا، هل يستدعي إزعاج المدير؟”
“مجرّد أمر؟ كان نوكتورن في خطر! لن أمرّر هذا بسهولة. وسأراقبكم من الآن فصاعدًا. إن تجرّأ أحدكم عليه ثانيةً، فلن أحتاج لجنةً لأُعاقبه، سأفعلها بنفسي.”
هكذا حذّرت آريا الأولاد بصرامة بعد أن أنقذت نوكتورن من البحيرة.
أمّا الفتيان، فقد أُصيبوا بالحيرة بعد أن صرخت فيهم الأميرة التي طالما أعجبوا بها. فالتفتوا نحو نوكترن و صرخوا عليه.
“لماذا تقف سموّ الأميرة إلى صفّك بهذه الدرجة؟! صحيح أنّها كانت تهتمّ دائمًا بالضعفاء، لكنّها لم تُبدِ موقفًا حازمًا بهذا الشكل من قبل!”
“أجل! تكلّم، ما الذي بينك وبين سموّ الأميرة؟”
“وكيف لي أن أعرف؟ هذه أوّل مرّة أراها اليوم.”
بفضل قدراتها من الدرجة S في التأثير العقلي، وصلت المحادثة التي دارت عن بُعد إلى أذني آريا بوضوحٍ تام.
عندها استدارت نحو نوكتورن وصرخت.
“أنت قرّر!”
“…ماذا؟”
“ما نوع العلاقة التي تريدها بيننا؟”
حين تذكّرت نوكتورن في صغره، وهو يحدّق بها بوجهٍ مذهول وفمٍ مفتوح، احمرّ خداها قليلًا.
ترى، لماذا تصرّف بذلك الشكل حينها…؟
لكن في الوقت ذاته، شعرت بسعادةٍ غامرة.
وكأنّها في تلك اللحظة قد عثرت على نصفها الآخر الذي كانت تبحث عنه طيلة حياتها، وكأنّها قد وجدت القطعة الأخيرة الناقصة من ذاتها.
فمثلما يستطيع نوكتورن التحكّم في النار بحريّة، كان محاربو “إيشافيه” من النوع القتاليّ يملكون قوى هائلة.
غير أنّهم يعانون من عيبٍ قاتل. كلّما استخدموا قواهم، تراكم الجنون داخلهم، وإذا تجاوز مستوىً معيّنًا، يفقدون السيطرة على أنفسهم.
وكانت هناك فئة واحدة فقط تستطيع كبح هذا الجنون، وهم أفراد “إيشافيه” من النوع العقليّ.
لكنّ السيطرة على ذلك الجنون تتطلّب قدرًا عاليًا من المودّة والثقة المتبادلة. وحتى بين الأزواج، من المستحيل الوصول إلى نسبة توافق قدرها 100%.
وحدهم “الرفقاء أو الشركاء” يمكنهم تحقيق تلك النسبة الكاملة دون الحاجة إلى بناء علاقة تدريجيّة.
إنّه النصف الآخر من الروح، المقرّر منذ الولادة، ذاك الذي لا يخون، مهما حصل.
‘شخصي الذي يبقى إلى جانبي، حتى إن تخلّى عنّي العالم بأسره.’
ما إن دخلت آريا إلى المبنى الجانبيّ، حتى أسرع الفرسان لاستقبالها في هلع.
“سموّ الأميرة… ما الذي أتى بكِ إلى هنا…؟”
“هل نوكتورن هنا؟”
وبما أنّهم لم يجيبوا فورًا وبدَت عليهم علامات الارتباك، تخطّتهم آريا بخطًى واثقة ودخلت إلى الداخل.
وما إن مرّت بالممرّ تاركة الحرس في فوضى خلفها، حتى ظهرت خادمات المبنى بوجوه مذعورة وركضن نحوها.
“سموكِ، لا ينبغي أن تكوني هنا! إنّهم يبحثون عنكِ في الجناح الغربيّ!”
“أنا من تُقرّر أين أكون. هل نوكتورن هنا؟”
“…لا يمكنني الإجابة. أرجوكِ، عودي إلى الجناح الغربيّ حالًا.”
لا بأس… لا حاجة لأن تجيبوا. فأنا أعلم.
“سموكِ!”
حين توجّهت آريا دون تردّد نحو الغرفة التي كان فيها نوكتورن، هرعت الخادمات خلفها في فوضى ودهشة.
بدا أنهم يفكرون، ‘كيف عرفت مكانه؟’
وما إن دفعت آريا الباب بيدها، حتّى توقّف الفرسان والخادمات الذين كانوا يلاحقونها في اللحظة ذاتها.
كانت الغرفة المخصّصة للضيوف فسيحة. تضمّ صالةً وعدّة غرف، وكان باب غرفة النوم المقابلة مفتوحًا، ما أتاح رؤية ما في الداخل بوضوح.
وكما توقّعت، كان هناك محبوبها الجميل نوكتورن.
…وكان يجلس على ركبتيه شخصٌ آخر.
صديقتها الأقرب، مينيت.
“…….”
ظنّت آريا في البداية أنّها تتوهّم، فبدأت ترمش مرارًا لتتأكّد.
لكنّ المشهد ازداد وضوحًا أمام عينيها.
كانت الغرفة فوضويّة.
على طاولة الجلوس تناثرت زجاجات خمر فارغة وبعض المأكولات التي لم تُنهَ.
أما مينيت، فكانت تبدو وكأنّها خرجت لتوّها من الحمّام، إذ بدت خصلات شعرها الفضّيّ المموّج نصف مبلّلة.
كانت ترتدي قميص نوم شفافًا، لا يخفي شيئًا من تقاسيم جسدها المثيرة.
وبتلك الهيئة الجريئة، جلست على ركبتي الشابّ الوسيم.
نوكتورن، الذي كانت مينيت تجلس فوق ركبتيه، بدا مرتاحًا في لباسٍ منزليّ، يكتفي بقميص وسروال بسيط.
كان قد فكّ أزرار قميصه من الأعلى، وبدت بشرته متوهّجة قليلًا، ربّما بسبب تأثير الكحول.
ومظهره المتراخي زاد من جاذبيّته وقوّته الظاهرة، التي صقلتها سنوات التدريب القاسي.
كان الشابّان، الجميلان واليافعان، متلاصقين على نحوٍ يُشعر من يراهما بالإحراج.
ولو كانا غيرهما، لانسحب أيّ دخيل بهدوء احترامًا لخصوصيّتهما.
لو لم يكن ذلك الرجل هو نوكتورن بندريكس، خطيب آريادن.
وفي لحظةٍ من الذهول، راحت يد آريا المرتجفة تنغلق ببطء على شكل قبضة.
ما هذا…؟ ما هذا الذي أراه…؟
“ما هذا الذي أراه؟!”
تلك العبارة التي تردّدت في ذهن آريا، خرجت في اللحظة نفسها من فم نوكتورن.
ثمّ عبس وجهه في انزعاج، ودفع مينيت عنه ببرودٍ شديد.
“آه!”
تعثّرت مينيت، التي كان وجهها قد احمرّ من الكحول، ولم تستطع حفظ توازنها، فسقطت على الأرض فوق مؤخّرتها.
في اللحظة التي ظنّت فيها آريا أنّها كشفت خيانةً بشعة، رأت نوكتورن وهو يطرد مينيت دون تردّد، فاستسلمت للدهشة وراحت ترمش بعينيها، مرتبكة.
‘آه… هل كنت مخطئة؟’
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 6"