5
تجاوزت آريا مينيت التي حاولت منعها، وتقدّمت نحو البحيرة. أزاحت الأولاد المرتبكين عن طريقها، ثمّ قفزت في الماء دون أدنى تردُّد.
لم تكن البحيرة كبيرة، لكنّها كانت عميقة بما يكفي لغمر طفلٍ صغير.
مدّت يدها نحو الصبي الذي كان يضطرب في أعماق المياه القاتمة، فأمسك بها بكلّ ما أوتي من قوّة.
كان جسد الصبيّ هزيلًا، غير أنّ ثقل الملابس المشبعة بالماء جعله يبدو كأنّه يجذب آريا إلى الأسفل.
ولحسن الحظّ، كانت آريا ماهرة في السباحة. دفعت الماء بحركاتٍ سلسة حتّى تمكّنت أخيرًا من سحب نوكتورن إلى اليابسة.
“فوووه! أنتَ، هل أنتَ بخير…؟”
وبينما كانت تلهث محاولةً استجماع أنفاسها، لمحتْ على صدره المفتوح نقشًا مألوفًا.
كان الكور -الرمز- نفسه الذي طُبع على كاحلها الأيسر.
‘الشريك.’
وفي اللحظة التي داهمها فيها هذا الإدراك، بدأ رمز الصبيّ يتوهّج بضوءٍ أزرق.
ولم تكد آريا تحرّك ساكنًا، حتّى انتشرت ألسنة النّار من الكور إلى كامل جسد الصبيّ.
انطلقت صافراتُ إنذارٍ غريزيّة داخل عقلها، لكنّ جسدها لم يُطِعها.
وعندما استعادت وعيها، كانت النّيران قد التهمت المكان بأسره.
حرائق الجحيم ابتلعتها حيّة. احترق جلدها الأبيض وتلطّخ بالحُمرة، وتمدّدت الحروق بسرعة خاطفة على جسدها.
راحت آريا تتلوّى في عذابٍ لا يُطاق.
“لا…!”
“صاحبة السمو!”
صرخت آريا وهي تنتفض، ثمّ فتحت عينيها. أدارت نظراتها ببطء لتتبيّن ما حولها.
كانت هذه غرفة نومها في الجناح الغربي.
كانت ممدّدة على سريرها، وملابسها مبتلّة بالعرق، وكلّ ما رأته لم يكن سوى حلم.
والصوت الذي سمِعَتْه قبل قليل كان صوت خادمتها…
وحين وقعت عيناها على الخادمة، فهمت سبب هذا الكابوس. كانت الخادمة تحمل مصباحًا.
“النّار…”
أرادت آريا أن تطلب منها إطفاء المصباح، ولكن ما إن نظرت إلى اللهيب المتراقص خلف زجاج المصباح المكسوّ بالفقاعات، حتّى اختنق صوتها ولم تستطع الكلام.
منذ الحادثة، صار الأمر يتكرّر دومًا.
لم تكن تتذكّر بوضوح لحظة سقوطها في ألسنة اللهب، لكنّ جسدها – على ما يبدو – لم ينسَ. صار يظهر عليه اضطراب غريب كلّما رأت النّار.
“ما الذي قلتِه، صاحبة السمو؟”
لعلّ صوت آريا كان خافتًا جدًّا، إذ بدلًا من أن تطفئ الخادمة النّار، اقتربت منها أكثر.
رغم أنّها أوصت كبير الخدم مرارًا بألّا يُدخَل إلى غرفة نومها أيّ نار، يبدو أنّه لم ينقل الأمر كما ينبغي.
كتمت آريا لعناتها ورفعت رأسها.
في تلك اللحظة، رفرفت شرارة من لهب المصباح نحوهما بقوّة.
فراشة مشتعلة التصقت بها. انحنت رقبة آريا، واتّسعت حدقتا عينيها إلى أقصى حدّ.
“صاحبة السمو! هل أنتِ بخير؟! صاحبة السمو…!”
لم تكن تسمع شيئًا من صوت الوصيفة الذي يصرخ على بُعد أنفاس.
بل على العكس، بدأت كلّ الحركات والأصوات من حولها تتدفّق إلى ذهنها.
─ ما بال صاحبة الجلالة على هذا النّحو؟
─ لا بدّ من إنهاء أعمال الترميم هذا الشهر.
─ أفتقدكِ.
─ لا! لا! لا أريد!
مشاعر الناس، أفكارهم، أصواتهم… كلّها ملأت عقلها.
أمورٌ اعتادتْ أن تُحِسَّ بها طوال حياتها، لكنّها لم تشعر بها في الآونة الأخيرة.
الآن فقط بدأت تتشكّل خريطة من الأحاسيس داخل وعيها.
─ عليّ أن أتحدّث مع ڤادبا بجدّيّة هذا اليوم.
─ لِمَ يظلّ اللورد بندريكس حبيس غرفته؟
صخبٌ اجتاح عقلها في لحظة، كما اختفى في اللحظة ذاتها.
“هاه… أزيلي النّار!”
لهثت آريا وهي تتحسّس صدرها المرتجف.
هرعت الوصيفة تُخرج المصباح خارج الغرفة. وما إن خيّم الظلام، حتّى بدأت أنفاسها تعود إلى طبيعتها.
ثمّ جاء صوتٌ حذر من خلف الباب.
“صاحبة السمو، هل أنتِ بخير؟ هل أستدعي الطبيب الملكي؟”
“لا، لا بأس… سأرتاح قليلًا فقط…”
هدّأت الخادمة التي كانت على وشك الجري لاستدعاء الطبيب.
‘لقد استعدتُ القدرة على التّخاطر الذهني.’
كنتُ أظنّ أنّها اختفت كليًّا.
ولكن الآن، بدأت بادرة أملٍ تلوحُ في الأفق.
شهقت آريا وكأنّها انتُشِلت من قاع المحيط بعد غرقٍ طويل، وراح شبح ابتسامةٍ يتسلّل إلى شفتيها المتصلّبتين.
‘نوكتورن… لقد جاء إلى القصر الإمبراطوري.’
استشعرت وجوده من جهة الملحق.
تُرى، هل جاء لرؤيتها؟ ولكن لماذا لم يزر غرفتها وهو هنا؟
‘آه، ربّما لأنّني كنتُ نائمة طوال الوقت.’
جسدها الذي ما يزال في طور الشفاء كان يتعب بسرعة.
يكفي أنّها تحدّثت قليلًا مع أخيها في النهار حتّى غطّت في نومٍ عميق بعدها.
‘لقد سمعتُ صوت أمي أيضًا من مكانٍ قريب…’
على الأغلب، كانت تتحدّث مع أخيها في الجناح الغربي.
نادت آريا على الخادمة الواقفة خارج الباب.
“أيمكنكِ أن تسندي جسدي قليلًا؟”
بما أنّ الحال وصلت إلى هذا الحدّ، فقد قرّرت أن تذهب بنفسها لتبلّغ بالأمر.
‘حين تسمع والدتي أنّ قدراتي بدأت تعود، فلا شكّ أنّها ستفرح.’
صحيحٌ أنّها كانت باردة جدًّا في الفترة الأخيرة، لكنّ والدتها كانت في الأصل امرأةً تكنّ عاطفةً عميقة تجاه عائلتها.
وربّما كان ما بدر منها من قسوةٍ في ذلك اليوم، مجرّد محاولةٍ لإخفاء حزنها.
‘إنّها لا تُجيد التعبير عن مشاعرها. لذا، بعد أن أُخبر أمّي وأخي، سأذهب للقاء نوكتورن.’
ومع هذا القرار، خرجت آريا إلى الرواق مُسنَدةً على الخادمة.
الخادمة التي رأت سيّدتها تسير للمرّة الأولى بدت مذهولة، لا تكفّ عن السؤال إن كانت بخير.
طمأنتها آريا برفق، وتوجّهت ببطء نحو مصدر الصوت الذي كانت قد سمعته.
‘هل كان هناك غرفةٌ في هذا الاتجاه؟’
عادةً ما تُجرى الأحاديث في المكتب أو غرفة الضيافة، لكن الصوت كان صادرًا من مكانٍ بين غرفة النوم والمكتبة، وكان النور داخله قد انطفأ.
راودها شعورٌ غريب.
فأمرت الخادمة بالعودة، ودخلت المكتبة وحدها.
“…ڤادبا…!”
عندها، التقطت أذنُها صوتًا خافتًا لأمّها، يخرج من الحائط.
حدّقت آريا بدهشة إلى الجدار، ولاحظت فجوةً صغيرةً خلف رفّ الكتب.
‘هل يُعقل؟’
دفعت الرفّ بقوّة، فانزلق جانبًا بسلاسة.
وحين وضعت يدها على الجدار خلفه، انفتح قليلًا.
‘إنّه ليس جدارًا… بل بابٌ سرّي!’
تذكّرت أنّها رأت أخاها يومًا يتحسّس هذا المكان وهو طفل،
وها هي الآن تكتشف وجود غرفةٍ سريّة هناك.
رغبت في معرفة ما بداخلها، لكنّها فكّرت أنّ الأفضل العودة لاحقًا.
وما إن همّت بإغلاق الباب، حتّى خرج صوتٌ واضح من الداخل.
“…إن انكشف أمرُ التسميم، فلن تنجو أنتَ أيضًا!”
تجمّدت في مكانها عند سماع ذلك اللفظ الخَطِر.
‘تسميم؟!’
هل سمعتُ جيّدًا؟
الشخص الذي كان يتحدّث مع أمّي هو بالتأكيد…
“لقد فعلتُ ذلك فقط لأمنح أختي راحةً أبديّة.”
كان ڤادبا.
لكن آريا، رغم أنّها تعرّفت على صوته، لم تُصدّق.
أخوها الذي عرفته دائمًا كان يملك صوتًا دافئًا، وحديثًا لطيفًا.
ذاك الذي كان يتحدّث عن قتل أخته… لم يكن هو.
‘أأراد أخي…تسميمي؟!’
ما إن وردت كلمة ‘السُّمّ’ حتّى استعاد ذهنُها مشهدًا مريبًا.
الطفح الذي ظهر على جلدها لم يكن نتيجة حروق، بل بدا أقرب إلى أعراض التسمّم.
وحين ذكرت الأمر للطبيب، قال إنّه مجرّد أثرٍ جانبيّ لعُشبةٍ ما، فاستبدل العلاج، وظنّت أنّ الأمر قد انتهى.
‘لكن… الطبيب ذاك، كان قد أُرسِل من قِبَل أخي.’
“أن تمضي حياتها بجسدٍ مدمرٍ لا يتحرّك… أليس من الأفضل أن تُرتاح إلى الأبد؟! وأمّي أيضًا، كانت تتمنّى في سرّها حدوث ذلك، ولهذا سَكَتَت!”
“لكنّها استيقظت في النهاية، أليس كذلك؟
لو كنتَ ستفعلها، كان عليكَ أن تنهي الأمر دون أن تترك أثرًا!”
وضعت آريا يدها المرتجفة على فمها، تخشى أن تُصدر صوتًا.
‘ما الذي أسمعه؟
هؤلاء الوحوش… هم عائلتي؟
لعلّني ما زلتُ في غرفة نومي، أُعاني كابوسًا مخيفًا.’
“ألا تذكرين اليوم الذي قرّر فيه والدي منح آريادن ولاية العهد!”
لكن صوت ڤادبا الجليّ قطعَ عليها أوهامها، مؤكّدًا أنّها ليست تحلم.
ارتجف كتفها وهي تُحدّق عبر الشقّ في الباب.
رأت والدتها جالسةً على الأريكة، شاحبة الوجه،
وأخوها واقفًا وظهرُه إليها، يتحدّث بحماسٍ غاضب.
بدت المشهديّة كلّها كمشهدٍ مسرحيّ… لا شيءَ واقعيّ.
“لا تتخيّلي كم كان ذلك مُذلًّا.
لكنّني لم أُظهر شيئًا. بل باركتُ لها من قلبي.”
“ڤادبا…”
“لأنّها كانت أذكى منّي، وأجمل منّي.”
وأشار بسبابته إلى الأمام.
ارتعبت آريا ظنًّا أنّه كشف وجودها،
لكنّه لم يلتفت ناحيتها، بل تابع صياحه.
“حاولتُ أن أفتخر بأختي الرائعة، الجميلة والعبقريّة!
لكنّ تلك الأخت المثاليّة… لم تَعُد موجودة.”
“لم يَبقَ سوى وحشٍ، جسده نصفُه ذائب.”
لم تستطع آريا أن تتنفّس.
أتُراه واقعًا؟ هل هذا حقيقيّ؟
أأخي هو مَن نعتني… بالوحش؟!
راحت تتحسّس خدّها الأيسر المرتجف بيدٍ مرتعشة. فلامست أطرافُ أصابعها جلدًا خشنًا غير مستوٍ.
‘لا يمكن… ألهذه الندبة سبّب…؟’
“ڤادبا، أنتَ…”
“أجل. كان خطئي أنّني لم أنهِ الأمر كما يجب. أعلم أنّكِ لن ترضي عنّي، لكن لا مفرّ الآن. لم يَعُد أمام والدتي خيارٌ آخر لتعيين وريثٍ سواي.”
“لا، لا تقل لا مفرّ… لماذا تتحدّث على هذا النحو؟ مهما اخترتَ، أنتَ ابني الذي أحبّه.”
هاج الغثيان في معدة آريا.
ڤادبا وصفها بالوحش… ووالدتها لم تكترث سوى لمشاعر ابنها!
“كلّ ما في الأمر أنّني قلقة أن تعيق طريقك. لمَ لا تتخلّص منها فحسب؟ مثل هذا المسخ القبيح، لا نفع فيه.”
تسرّبت كلمات أمّها عبر الجدار كأنّها سكاكين قطّعت آريا إربًا.
‘قبيحة… قالت عنّي قبيحة؟’
مرّت في ذهنها ذكريات الطفولة، حين كانت تركض باجتهادٍ لتنال رضا أمّها الكماليّة.
كانت تدرك أنّها بوضعها الحاليّ لا تلبّي مقاييس والدتها الصارمة.
لكنّها ما زالت ابنتها. وقد حاولت، بكلّ ما أوتيت، أن تكون ابنةً صالحة لها.
‘أتراني بعد أن فقدتُ قدراتي، لم أعد أُرى سوى كخردةٍ فاسدة وجب التخلّص منها؟’
انهارت قواها، وامتلأ صدرها بغصّةٍ كادت تُسقطها.
وحين أسندت يدها على رفّ المكتبة محاولةً الثبات، عاد الصوت يتسلّل إلى أذنها.
“ومع ذلك، لا ينبغي التخلّي عنها بهذه السهولة. صحيحٌ أنّها فقدت قدرتها كإيشافي، لكنّها ما زالت تصلح كأنثى.”
“لكنّ وجهها بات مشوّهًا بتلك البشاعة…”
“يمكن علاج ذلك بالتدريج. أمّا بشأن توقّف دورتها الشهريّة كما ذكر طبيبها، فقد يُعَدّ ذلك ميزةً في بعض الحالات لي.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان! شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة. سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 5"