“سأعود لاحقًا، ارتاحي الآن.”
قالها بادڤا وألقى كلمته على عجل، ثمّ أسرع في اللحاق بوالدته.
“…….”
ما إن غادر الاثنان، حتّى ساد الهدوء أرجاء الغرفة.
جلست آريا تحدّق بصمت في يدها، كأنّها فقدت روحها،
أمّا الخدم فكانوا يراقبونها في حذر، يقرأون مزاجها من بعيد.
كما يُتوقّع من شخصٍ كان في غيبوبة لمدّة نصف عام بسبب حادثٍ كبير، فقد بدا واضحًا أنّ آريا أضعف بكثير من ذي قبل.
أطراف ملفوفة بالضمادات، وآثار الحروق الظاهرة من بين الطبقات، جسدٌ نحيل يوشك على الانهيار من قلّة التغذية،
جسمٌ يبدو أنّ مجرّد لمسة خفيفة قد تكسره.
ومع ذلك، تعاملت معها والدتها بجفاءٍ لا يُطاق.
اليد التي ضُربت احمرّت وارتجفت بأسى، كما لو كانت تستنجد بأحد.
حتى مينيت، التي كانت في حالة سكر، بدا عليها التوتّر والحرج.
لكن آريا، التي ظنّ الجميع أنّها ستبكي، التفتت إلى صديقتها بابتسامة دافئة.
“أخبريني عن أخبارك، يا مينيت. كيف كانت حياتكِ خلال هذه الفترة؟”
“…آه؟”
“لابدّ أنّك مررتِ بالكثير، أنتِ أيضًا.”
كلماتها الهادئة التي تقلق على غيرها جعلت مينيت تضحك بخفة.
“لا شيء مقارنةً بكِ. ماذا؟ هل أعود لاحقًا؟ يبدو عليكِ الإرهاق.”
“لا بأس، لكن… نوكتورن…”
“آه، تقصدين السيّد بندريكس؟”
في تلك اللحظة، لمع بريق غريب في عيني مينيت، لكن آريا لم تلاحظه.
“ما يزال يتعافى. لقد كان الحادث خطيرًا.”
“…هل أُصيب بجراح بالغة؟”
“لا أظنّ أنّ ذلك يخصّكِ.”
“ما الذي تقولينه؟ إن لم أقلق عليه أنا، خطيبته، فمن سيفعل؟”
“أهكذا تظنّين؟”
ردٌّ غامض يثير التساؤلات.
أهكذا تظنّين؟ لكن خطوبتهما أمرٌ مؤكّد لا شكّ فيه.
أم تُراها تقصد أنّ نوكتورن قد نسي أمر الخطبة؟
قرأت مينيت حيرتها، وابتسمت بمكرٍ.
“كنتُ أتساءلُ… هل السيّد بندريكس ما يزال يعتبركِ خطيبته؟”
“ما الذي تعنينه؟”
“هو من طلب يدَ تلك الأميرة الجميلة التي كانت إيشافيه، و كانت تشاركه المهامّ دومًا.
لكنّكِ الآن… لستِ إيشافيه، ثمّ…”
أخذت تحدّق في جسد آريا بوضوح،
بنظرةٍ لم تُخفِ السخرية.
تجمّد وجه آريا من شدّة الغضب.
“حتى وإن كنتُ جريحة، ما زلتُ أنا.”
“أنتِ ترين ذلك، لكنّ السيّد بندريكس يملك مستقبلًا مشرقًا أمامه. سيكون من الأفضل له أن يجد شريكة أخرى. مثلًا…”
“مينيت!”
رغم أنّها حاولت تحمّل كلماتها بدافع أنّها قلقة عليها،
لكنّها شعرت أنّها على وشك الانهيار من جديد إن واصلت الاستماع.
“سأعتبر كلّ ما قلته الآن مجرّد هذيان من سكرانة، ولن أحاسِبك عليه. تعالي إليّ لاحقًا عندما تكونين في وعيكِ الكامل.”
“قسوتِ عليّ! كنتُ فقط أقدّم لكِ نصيحة واقعيّة…”
في تلك اللحظة، بدأت آريا تشعر أنّ الخادمات يتصرّفن بغرابة.
حتى لو كانت مينيت في حالة سُكر، أليس عليهنّ التدخّل لإيقافها؟
فاضطُرّت لإصدار أمر مباشر.
“لماذا تنظرن بصمت؟ خذن الآنسة إلى غرفتها حالًا!”
“يا إلهي… حسنًا، فهمت.”
أخيرًا، نهضت مينيت بتثاقل.
“آري، صديقتي العزيزة… لا تعلمين كم أنا سعيدة لأنّكِ استيقظتِ. سأبقى في المبنى الجانبي لبعض الوقت، لذا ناديني متى احتجتِ إلى شيء، حسنًا؟”
“…حسنًا. شكرًا لكِ.”
ردّت آريا بصوت أكثر هدوءًا.
فطبعت مينيت قبلة على جبهتها، وعيناها المحمرّتان من السُكر تلمعان بخفّة.
“شكرًا على ماذا؟ نحن صديقتان، أليس كذلك؟”
***
مرّ شهر منذ أن استيقظت آريا.
لكن عبارة “استيقظت” لم تكن دقيقة تمامًا، إذ بدت وكأنّها تنام عشرين ساعة يوميًّا.
وفي ساعات يقظتها، كانت الآلام الحادّة والحرارة الشديدة تجعل من المستحيل عليها التحرّك دون مسكّنات.
لحسن الحظ، بدأت حالتها تتحسّن شيئًا فشيئًا مع مرور الشهر.
وبفضل ذلك، استطاعت أن تسمع أخبار والدها من بادڤا.
“لقد دخل والدي في سباتٍ عميق.”
“إذاً، حدث ذلك في النهاية…”
كان الإمبراطور يُعاني من اضطرابات عصبيّة مجهولة السبب.
و كان سبب استعجاله في نقل العرش إلى آريا هو تدهور حالته.
وأثناء غيبوبة آريا، ساءت حالته إلى حدّ لم يعُد هناك علاجٌ ممكن.
فقامت الإمبراطورة بنفسها بإدخاله في حالة تجميد،
لتُبقي جسده حيًّا إلى أن يُكتشف علاجٌ فعّال.
“لقد عانيتما كثيرًا… أمّي، وأنتَ أيضًا يا أخي.”
في غياب الإمبراطور والوريثة، تولّت الإمبراطورة والأمير شؤون الدولة.
وأقنعت نفسها أنّ تغيّرهما في المعاملة مجرّد نتيجة للإجهاد والضغط.
وفي ظلّ هذا الواقع، كانت ولاية العهد ستنتقل بطبيعة الحال إلى بادڤا.
ولم تشعر آريا بأيّ أسف حيال فقدانها الفرصة لاعتلاء العرش،
ولا بالحسد تجاه شقيقها.
فهو أيضًا… لم يحقد يومًا.
عندما استدعاها الإمبراطور إلى القصر كوليّة عهد،
هلّلت القوى الداعمة لها فرحًا،
حتى أنّهم استهانوا بالأمير وحلفه في المناسبات العامّة.
<لقد أراحني حقًّا أنّنا لقّنّا فصيل الأمير درسًا قاسيًا!>
<أنا أشعر ببعض الخيبة فقط…
فلو كنّا في الماضي، لكان كلّ المعارضين قد أُعدموا بمجرد ميل كفّة السلطة!>
<أجل، على سموّ الأميرة أن تسحقهم الآن تمامًا.
أليس من العار احترام أميرٍ لا يملك كفاءة؟>
<أوافقكم، وذاك الساحر الذي يلازمه يثير القلق أيضًا…
سيجلب المتاعب إن تُرك دون رقابة!>
كانت آريا قد خرجت لتستنشق الهواء، حين صادف أن سمعت تلك الهمسات خلف قاعة الاحتفال.
وقتها، ورغم فرحها بثقة والدها، إلّا أنّها كانت تخشى أن يؤثّر ذلك في علاقتها بأخيها.
وحين سمعت تلك الأحاديث، شعرت بالغضب الشديد.
وكانت على وشك التدخّل لإيقافهم،
لكنّ بادڤا ظهر فجأة وأمسك بها.
<لا تهتمّي. ثمّة ما هو أهمّ من العرش عندي.
إنّه انتِ… أُختي.>
في ذلك اليوم، أدرك كلاهما أنّ مشاعرهما متبادلة،
فأجهشت آريا بالبكاء بين ذراعي أخيها.
لذلك… لم يكن من الصعب عليها أن تُبارك له إن ورث العرش.
صحيحٌ أنّه لو كانت قد خسرت مكانتها بسبب إصابة وهي تحارب أعداء الإمبراطوريّة،
لكان من الطبيعي أن تنهار نفسيًّا من الإحساس بالظلم والخيانة،
لكنّها لم تفقد قوّتها العقليّة، رغم خسارتها لقوّتها العقليّة الخارقة. (قصدها انها فقدت قوتها الخارقة بس ما صارت مجنونة انما ب فقدت قوتها)
وربّما السبب هو الحبّ الكبير الذي نالته.
وفوق ذلك، لم تكن تكره هذا “الفراغ” المفروض عليها قسرًا.
‘كنتُ أظنّ أنّني سأكتئب إن بقيتُ عاجزة لا أتحرّك،
لكنّني مرتاحة أكثر ممّا توقّعت.’
حتّى إنّها بدأت تُفكّر أنّ حياة التمدّد والتكاسل،
بينما أخوها يغرق في العمل، ليست سيئة تمامًا.
لكن فجأة، مدّ بادڤا يده نحوها.
“آري، تعافي بسرعة وساعديني.
لا أستطيع تحمّل العبء وحدي.”
“…أنا؟”
“نعم. إن ساعدتِني، سأشعر بالقوّة.”
ظنّت آريا أنّه سيُبعدها عن السياسة.
فهو على عكسها، يملك طموحًا سلطويًّا قويًّا.
وحيث إنّها كانت لا تزال تفتقر إلى قاعدة داعمة،
فمشاركتها في الحكم قد تُعدّ تهديدًا له.
لكنّ طلبه هذا يعني أنّه يثق بها.
وربّما يرى أنّها لم تعد تشكّل خطرًا، وهذا أيضًا مقبول.
الأهمّ أنّها شعرت بالامتنان لتلك الثقة.
كانت قد ألقت كلمة في حفل افتتاح مركز إعادة التأهيل بعد الحرب، قالت فيها: “أنتم ما زلتم أقوياء، ويمكنكم فعل أيّ شيء.”
لكنّها تساءلت وقتها إن كانت تملك الحقّ في قول ذلك،
وهي التي لم تعِش يومًا نقصًا حقيقيًّا.
لعلّ هذه فرصتها لإثبات تلك الكلمات.
‘ما الشيء الذي يمكنني فعله؟’
وبعد أن غادر بادڤا، بدأت تفكّر مليًّا في دورها المحتمل.
لكنّها لم تصل إلى إجابة واضحة.
‘كان كلّ شيءٍ سهلًا من قبل.’
تلك القدرة العقليّة التي مكّنتها من التحكّم بالبشر مجرّد تفكير…
لقد وُلدت قوية جدًّا، وقضت حياتها تتعلّم كيف تُخفي قوّتها لتبدو “عاديّة”.
لكن فجأة، فقدت كلّ شيء… وصارت من الضعفاء.
وكأنّها بدأت حياتها من جديد،
كلّ شيءٍ غريب، كلّ شيءٍ مربك.
‘ليت نوكتورن كان هنا الآن…’
خطيبها، الذي من المفترض أن يشاركها الحياة بعد الزواج،
لم يظهر له أثر منذ استيقاظها.
‘لا أريد أن أتأثّر بكلام مينيت السخيف…لكن…”
زفرت آريا تنهيدة عميقة، تخنقها الحيرة.
***
‘ما الذي يشغله إلى هذا الحدّ حتّى لا يأتي بعد؟ يا له من أحمق.’
قالت ذلك وهي تمرّر أطراف أصابعها على كاحل قدمها اليسرى، كما اعتادت دائمًا.
هناك، كانت تلك العلامة الناريّة المرسومة على جلدها، التي تشبه نوكتورن، منقوشة منذ لحظة ولادتها.
***
بينما كانت المُربية تمسح كاحل آريا بلُطف، قالت لها: “هل ترين هذه العلامة؟ إنّها رمز يُظهر مَن هو شريككِ الروحيّ.”
“وما معنى الشريك الروحيّ؟”
“هو نصف روحكِ الآخر. كانت الروح في الأصل واحدة، ولكن انقسمت إلى نصفين. ولكي يتمكّن النصفان من التعرّف إلى بعضهما، نُقِشت هذه العلامة على جسديهما.”
أضاءت عينا آريا وهي تنصت لحديث المُربية.
“نصف الروح الآخر…”
يا له من تعبيرٍ شاعريّ، أن يكون هناك نصف آخر لروحك.
منذ ذلك اليوم، بدأت آريا تعدّ الأيّام انتظارًا للّحظة التي تلتقي فيها بشريكها الروحيّ.
ثمّ، في أحد الأيّام، وجدت مينيت تختبئ بين الأدغال خلف حديقة الأكاديميّة.
“مينيت، ماذا تفعلين في مكانٍ كهذا؟”
“همم؟ آه… لا شيء، أبدًا.”
“هل هناك ما يُضايقك؟ وجهكِ لا يبدو على ما يُرام.”
وبينما كانت آريا تكلّمها، لفت انتباهها مشهدٌ غريب عند البحيرة.
مجموعة من الطلّاب كانوا يدفعون صبيًّا إلى داخل الماء.
“ما الذي يفعلونه؟!”
وقبل أن تتقدّم، أمسكت مينيت بمعصمها.
“ما بكِ؟ ألم تكوني تراقبين ما يحدث لأنّه أزعجكِ أيضًا؟”
تردّدت مينيت قليلًا،
“من الأفضل ألّا تتورّطي مع ذلك الفتى.”
“ماذا تعنين؟ مَن هو؟”
خفضت مينيت صوتها وهمست في أذنها.
“إنّه نوكتورن بندريكس… الوحش الذي أحرق قصر دوق بندريكس.”
رمشت آريا بعينيها، ثم هبطت نظراتها لا إراديًّا إلى كاحلها الأيسر.
“نارٌ، إذًا…”
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات