3
الفصل 3
ما خطرَ في بالِ آريا كان سطرًا شهيرًا من مأساةٍ معروفة.
“إن أردتَ أن تُغرقَ أحدهم في اليأس، فامنحه الترفَ في طفولته. عظّم له الإنجازَ القليل، وامنحه عليه مكافآتٍ مبالغًا فيها. ثمّ، حين يعتاد على اعتبار كلّ شيء حقًّا مكتسبًا… اسحب منه كلّ شيء.”
– لاكان، من رواية “الملك الشحّاذ”
في الماضي، لم تكن ترى في هذا القول إلّا دعوةً للامتنان، لكنّ كلّ كلمة فيه صارت الآن تمسّ قلبها.
‘أجل، الأمر يبعثُ حقًّا على اليأس.’
إذا سقطتَ في لهبٍ مشتعل، فمن الطبيعيّ أن تحترق. كانت تدركُ بعقلها أنّ مجرّد نجاتها معجزة. لكنّ المشكلة أنّها كانت محظوظةً للغاية حتّى الآن.
فالطائر الذي يُحلّق عاليًا، يكون ارتطامه أقسى حين يسقط.
‘لو كنتُ أعلم، لكان من الأفضل أن…’
-طنين!
استدارت عند سماع صوتٍ حادّ، فرأت الخادمة تقف مذهولةً كما لو رأت شبحًا. كان على الأرض صينيّة، ووعاء ماء، ومنشفة متناثرة، لكنّها لم تفكّر حتّى في التقاطها، بل صرخت:
“صاحبةُ السموّ! لقد استيقظتِ!”
1. لم تكن هناك عودةٌ بالزمن.
قبل ثلاثة قرون، هطلت الوحوش السحريّة على رؤوس البشر، فشهدَ العالم تحوّلًا جذريًّا.
تسبّبت هذه الكائنات ذات القوى الخارقة في انهيارِ كلّ حكومات الأرض. وفي أقلّ من قرن، اختفى أكثر من 90% من سكّان الكوكب، وسارت البشريّة نحو حافّة الفناء.
وفي لحظةِ يأسٍ كاملة، ظهر من بين الناس من يمتلكون قوى قادرة على الوقوف في وجه الوحوش.
جيلٌ جديدٌ من البشر، وُلد فجأة بين العاديّين، يحملون قدراتٍ لا تفسير لها.
أطلقَ الناس على هؤلاء اسم “إيشافيه (Échappée)”، (وهو مصطلح موسيقيّ يدلّ على الهروب أو الانفلات)، واعتبروهم أبطالًا.
وقد انقسم الإيشافيه إلى أقسام: قسمٌ ذهنيّ(عقليّ)، وقسمٌ قتاليّ، وأقسامٌ خاصّة متعدّدة.
ورغم أنّ أعداد الإيشافيه كانت في ازدياد، فإنّ ذوي التصنيف العالي في القسم الذهنيّ كانوا نادرين جدًّا. لم يظهر أيّ مصنّف من الدرجة S، وكانت الدرجة A نفسها لا تتعدّى عدد الأصابع.
الأميرة آريادن كانت أول إيشافيه من النوع الذهنيّ في التاريخ الحاصل على تصنيف S.
نالت بذلك حبّ الجميع وتوقّعاتهم.
نعم… إلى أن حدث الحادث.
‘لكنّ نُقلي إلى القصر الغربيّ لا يعني سوى أنّني عُزلتُ من ولاية العهد.’
“صاحبة السموّ…”
“آه…!”
فوجئت آريا عندما سمعت صوتًا فجائيًّا.
كانت دائمًا تستخدم قوّتها العقليّة لاستشعار وجود الآخرين من حولها، ولم تكن تعرف كيف تعتمد على الحواس الخمس في ذلك.
وبينما كانت ترتعدُ من المفاجأة، اعتذرت الخادمة مرتبكة.
“جلالة الإمبراطورة وصاحب السموّ الأمير في طريقهما إلى هنا. لقد ألغيا جدول أعمالهما فور سماعهما بخبر استيقاظ سموّكِ.”
“أمّي… وأخي؟”
تذكّرت آريا الومضات الأخيرة التي رأتها قبيل الموت.
وجهي أمّها وأخيها اللذين مرّا في ذهنها كلوحةٍ بانوراميّة.
كانت محاطةً بحبّهما دائمًا في تلك الذكريات.
ومع هذا، فكّرت في أنّه كان من الأفضل لو ماتت فقط. دون أن تفكّر في ألم من يحبّونها.
‘لو متُّ في ذلك الحين، لكان نوكتورن هو آخر من رأى أنفاسي.’
لا يليق أن تترك لحبيبها ذكرى بهذا القدر من القسوة.
رغم فقدانها لقوّتها، وتعرّضها للإعاقة، أرادت أن تتقبّل الواقع بإيجابيّة.
لم ترغب أن يُقلق من يحبّها بسبب سوداويّتها.
راحت تفكّر بسرعة في طريقة لتحسين مزاجها قبل أن يصلوا.
ثمّ خطر لها فجأةً.
‘الآن، يمكنني إقامة حفل الزفاف.’
“نوكتورن بندريكس”، الذي يُجيد كلّ شيءٍ بجسده، لكنّه نشازٌ تمامًا في الموسيقى، قد عزف لها على البيانو بنفسه حين تقدّم لخطبتها.
‘وكانت نيّتي أن أُهدر كلّ ذلك؟ كدتُ أرتكب جرمًا بحقّ قلبه…’
ذاك الحبيب الذي تمنّى في آخر لحظة أن يرحلا سويًّا.
كم سيشعر بالارتياح عندما يعلم أنّها استيقظت.
وفكّرت، أخيرًا، أنّها سعيدة بعودتها إلى الحياة.
دفعت نفسها بقوّة ونهضت من السرير.
وقفت أمام المرآة لتفقد مظهرها، وطلبت من الخادمة إعادة لفّ الضمادات بحيث لا تبدو كمريضة.
“كم من الوقت نمتُ؟”
“لقد استيقظتِ بعد نصف عام، سموّك.”
“نصف عام؟!”
في البلاط الملكيّ، بل في الإمبراطوريّة بأسرها، كانت آريا تؤدّي دور المُصلِحة.
تخيّلت حجم الفوضى التي خلّفها غيابها، فشعرت بالثقل في صدرها.
لا بدّ أن تُظهر الصلابة من أجل عائلتها التي قلقت لأجلها.
وما إن عقدت العزم، حتّى فُتح الباب.
“لقد استيقظتِ.”
دخلت امرأة ذات ملامح ملكيّة صارخة. بشعرٍ أشقر لامع، وعينين زمرديّتين، كانت الإمبراطورة، أمّ آريا.
وفور رؤيتها، غمرتها مشاعر جياشة كادت تُبكيها.
< هل انتِ ملزمةٌ حقًّا بالرحيل؟>
في اليوم الذي غادرت فيه لمواجهة الحرب ضدّ “كامبياتا”، حاولت أمّها منعها.
<هؤلاء لا عقل لهم. في مثل هذا الوضع، قد يرتكبون أيّ شيء!>
<أنتِ تعرفين أنّ هذا واجبي.>
رغم نبرة صوتها الهادئة وكلماتها العقلانيّة، شعرت آريا بالارتباك والحيرة.
فقد كانت أمّها، التي لقّنتها دومًا واجب النسب الملكيّ، تمنعها الآن. الخطر وحده لا يكفي مبرّرًا للعصيان.
<أشعر بالندم. لقد ضغطتُ عليكِ كثيرًا في تربيتك… في طفولتك، كنتُ أخشى أن تنحرفي. لم أكن أعرفكِ حقًّا…>
لأوّل مرة ترى أمّها المثاليّة، التي تطلب الكمال حدّ الوسواس، بهذه الحالة المضطربة. لم تستطع سوى أن تعدها بالعودة بسلام، لكنّها ها هي تعود بهذا الشكل المُحطَّم.
بدت وجه أمّها أكثر نحولًا ممّا تتذكّره.
بلعت آريا ريقها وقالت بصوتٍ متردّد:
“أمّي، أنا…”
“ماذا عن النواة؟”
صوتٌ بارد قطع كلامها.
“هل قوّتكِ العقليّة… ما تزال سليمة؟”
“آه…”
لم تكن هناك كلمات ترحيب، ولا عتاب على عودتها بهذا الشكل، رغم وعدها بالنجاة.
ظنّت أنّها ستسمع مشاعر الفرح أو القلق أو الحنان أولًا، لكنّ أوّل سؤال كان عن حال قواها.
لكنّ آريا كانت تعلم أنّ أمّها، رغم أسلوبها، تكنّ لها حبًّا عميقًا. فردّت من غير تردّد:
“حسب تشخيص الطبيب الملكيّ، النواة قد تضرّرت بشدّة. ولن أستطيع استخدام قواي بعد الآن.”
هي تعرف أنّ أمّها كانت تأمل أن تصبح يومًا حاكمةً عظيمة. فلا شكّ أنّ خيبة أملها ستكون كبيرة. ومع أنّها كانت تعلم أنّ هذا سيُعلَن عاجلًا أم آجلًا، لم تستطع أن تنظر في عينيها.
“أنا آسفة، أمّي…”
“…إذًا، ما قاله ‘بادڤا’ كان صحيحًا.”
لكنّ ردّها لم يكن كما توقّعت. بدا صوتها باهتًا، ممّا حيّر آريا.
‘هل أخي بادڤا كان يعلم بالفعل أنني فقدتُ قواي؟’
قبل أن تغوص في الشكوك، فُتِح الباب فجأة.
“آري!”
دخلت فتاةٌ ذات شعرٍ فضّيّ وعينين باللون نفسه، ترتدي ثيابًا زاهية، وصوتها مليء بالحيويّة. وبمجرّد أن رأتها آريا، ارتسمت ابتسامة فرحٍ على وجهها.
“مينيت!”
قيل لها إنّ مينيت كانت تزورها كثيرًا في القصر خلال غيبوبتها.
وقد شعرت آريا بتأثّرٍ كبير حين سمعت ذلك. فمينيت كانت صديقتها الأقدم.
“كنتُ واثقةً من أنّك ستستيقظين!”
اقتربت منها وهي تبكي، وعانقتها بقوّة. لكنّ رائحةَ خمرٍ قوية انبعثت منها.
‘لا عجب أن لباسها يبدو لافتًا. تُراها قادمة من حفلة؟’
قبل أن تسأل، ضغطت مينيت على أذنها اليسرى.
حينها فُتحت جراحها التي لم تلتئم بعد، وسرى فيها ألمٌ حادّ.
“آه!”
“ما بكِ فجأة؟”
“لحظة، يدكِ…!”
قبل أن تمنعها، كانت مينيت قد رفعت شعرها. لينكشف خدّها المُغطّى بندوب الحروق، وأذنها التي ذابت نصفها.
“يا إلهي… آري، لم تفقَدي قوّتكِ فقط، بل…”
همست بدهشة، فاحمرّ وجه آريا.
“أنا آسفة، آري. لم أكن أعلم…”
“لا بأس، فقط اتركيني.”
“حسنًا.”
راود آريا شعورٌ غريب، بأنّ تصرّف مينيت معها قد تغيّر.
مينيت لم تكن إنسانة حسّاسة. صراحتها الزائدة جعلت البعض يراها فظّة. لكنّها لم تكن تتجاوز الحدّ مع آريا أبدًا.
بل إنّ آريا سألتها ذات مرّة إن كانت تجد صعوبةً في التعامل معها، فأجابت وهي تلوّح بيديها نفيًا بأنّها فقط تصبح حذرة أكثر كلّما زاد قربها من أحد.
لكنّها الآن كانت تتصرّف بعفويّة مفرطة.
‘لعلّها كانت تشتاق إليّ كثيرًا.’
أرادت آريا أن تفهم صديقتها، فحاولت أن تبتسم لها رغم ما تشعر به.
لكن مينيت لم تطل الاعتذار، وسرعان ما بدّلت الموضوع.
“يبدو أنّ سموّ الأمير قادم إلى هنا أيضًا. آه، ها هو!”
بدأت الأصوات تزداد خارج الباب، ثمّ ما لبث أن فُتح، وسمعت صوتًا مألوفًا.
“أُختي!”
رجل يملك عينَين زمرديّتَين وشعرًا ذهبيًّا كأمهما، شقيق آريا الأكبر، بادڤا.
اقترب بخطوات سريعة إلى جانب السرير، وبدأ يُمعن النظر فيها.
شفاه متشقّقة، شعر قُصّ بعشوائيّة، وآثار الحروق التي لم تُخفِها الضمادات تمامًا.
تحت وطأة نظرته التي تنقّبتها بعناية، شعرت آريا بشيء من الخجل.
‘كيف أبدو في عينيه؟ مشوّهة؟ مثيرة للشفقة؟ مخيّبة للآمال؟’
نظرت إليه كما لو كانت تنتظر حكمًا، تترقّب ردّ فعله.
لكنّ المفاجأة كانت أنّ وجه بادڤا أشرق بابتسامة دافئة كنور الشمس.
“شكرًا لكِ… شكرًا من أعماق قلبي، يا آري.”
“…أخي؟”
“كنتُ واثقًا أنّكِ ستعودين.”
وحين أغمض عينيه، انسابت بضع قطرات من الدموع.
“بفضلكِ، انتهت الحرب الرهيبة بالكامل.
إمبراطوريّتنا لم تَعُد مضطرّة للخوف من هجمات مفاجئة،
ولا من اختطاف أحدنا لاستخدامه كفأر تجارب.
وها أنتِ… رجعتِ إلينا سالمة…”
مسح وجهها برفق، ثمّ أمسك بيديها بكلتا يديه،
“شكرًا لكِ… شكرًا لأنّكِ عُدتِ.”
لم يكن شقيقها من النوع الذي يُظهر عاطفته بسهولة.
ولم ترَه يومًا بهذا القدر من الفرح.
‘هل كنتُ حقًّا بهذا القدر من الأهميّة بالنسبة له؟’
شعرتْ عيناها تدمعان بدورها.
في تلك اللحظة، نهضت الإمبراطورة من مكانها، ترمق الاثنين بنظرة باردة.
“أمّي؟”
“حان وقت الراحة.
وأنتِ أيضًا، يجب أن ترتاحي.”
نظرت آريا إلى والدتها وهي تنهض مغادرة، وقد بدت عليها الحيرة.
أرادت أن تسألها عن نوكتورن، لماذا لم يأتِ معها والدها، وعن أوضاع البلاد.
أرادت أن تتحدّث معها، أن تزيل ما بينهما من جفاء.
فمدّت يدها نحوها بحذرٍ.
“أنا بخير الآن… ألا نبقى قليلًا ونتحدّث؟”
-صفعة!
شعرت بألمٍ حادّ ينتشر في ظهر يدها.
نظرت إلى والدتها، ثمّ إلى يدها، وأدركت أخيرًا أنّ أمّها… قد صفعَتها.
“…استريحي.”
“أمي!”
قفز بادڤا من مكانه، يُحدّق بظهر والدته المنصرف بقلق،
ثمّ التفت إلى آريا، وهو يبتسم بتوتّر.
“حسنًا… تعلمين كم أنّها حسّاسة تجاه النظافة.
لِمَ أمسكتِ يدها فجأة؟”
…هل السببُ هو أنا؟
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 3"