2
“آه، آخ…….”
أردتُ أن أقول أيّ شيء لنوكتورن، لكنّ كلّ ما خرج من فمي لم يكن سوى رمادٍ يابس.
هل تنفستُ الكثير من الدخان يا تُرى؟
“هل استعدتِ وعيكِ؟ اصبري قليلًا، سيأتي الناس عما قريب.”
بدلًا من تحريك رأسي الذي لم أعد أستطيع السيطرة عليه، حرّكتُ عيني فقط ونظرتُ خلف ظهر نوكتورن.
لهيبٌ هائل يمدّ لسانًا أحمرَ يلتهم معقل العدوّ بشراهة.
قائد كامبياتا، لا بدّ أنّه الآن قد تحوّل إلى رمادٍ في ذلك الجحيم الملتهب.
كان خصمًا مريرًا يعترض طريق الإمبراطوريّة في كلّ لحظة، وشعرتُ بارتياحٍ عميقٍ في أعماقي حين فكّرتُ أنّ كامبياتا قد أُبيدَت من الجذور.
…رغم أنّ مصيري لن يختلف كثيرًا.
“لا تُغمضي عينيكِ، آريادن!”
ما إن تراخت جفوني حتى صاح نوكتورن.
كان صوته رقيقًا إلى حدٍّ جعلني أشعر وكأنّه مفعمٌ بالفرح.
“لم تنسي، صحيح؟ اتفقنا أن نتزوّج بعد انتهاء هذه المهمّة… سأُقيم حفلَ زفافٍ ضخمًا، يليق بوريثة العرش القادمة.
أنا مستعدّ حتى لبيع دوقيّتي لأجل ذلك.”
ما الذي يقوله هذا الرجل؟
قلعة بندريكس، دوقيّته، هي كنزٌ وطنيٌّ للإمبراطوريّة، ذات تاريخٍ عريق.
كيف له أن يقترح بيعَها من أجل مناسبةٍ واحدة؟
فتحتُ عيني من شدّة الذهول.
ثمّ رأيتُ مشهدًا صادمًا.
“…آه.”
نوكتورن كان يبكي.
عيناه الزرقاوان المعتمتان، الممتلئتان بالدموع، تلمعان كموج البحر في الليل.
منذ أن أصبح بالغًا، لم أرَ وجه نوكتورن وهو يبكي.
وقد لا يكون الوقت مناسبًا للتفكير بهذا، لكنّ رموشه المبلّلة وحوافّ عينيه المحمرّتين، كانا حزينين وجميلين في آنٍ معًا.
ربّما لم أُراعِ ذاك الطفل اليتيم المنبوذ بدافع الطيبة فقط.
رداؤه القتاليّ قد تفتّت هنا وهناك، فانكشفت كتفه العارية وساقه، ودموعه تنهمر على خديه.
كان مشهدًا كلوحةٍ فنيّة،
لكنّ المبنى ينهار ويحترق من خلفه،
وأنا كنتُ أتمنّى منه أن يبتعد عنّي ويهرب في الحال.
“أحبّكِ، آري…….”
لكنه لم يُبدِ أيّ نيّةٍ للنهوض.
‘لا يكون يفكّر بتلك الفكرة الغبيّة… أن يموت معي؟’
“لا تقلقي، سأبقى معكِ حتى اللحظة الأخيرة من أنفاسكِ.”
…نعم، لقد أصبتُ. إنّه ذلك الأحمق.
أردتُ استخدام قواي العقليّة لأدفعه بعيدًا،
لكن للأسف، لم أستطع.
قلتُ منذ قليل إنّني لا أشعر بشيءٍ أسفل عنقي.
هل تدمّرت نواة قوتي أيضًا؟
بينما كنتُ أحاول دفعه عنّي بأيّ شكل،
هبط فوق رأسي صوته الخافت.
“إن لم تكوني موجودة، فلا سبب لي لأعيش…….”
أعلم.
لذلك كنتُ دائمًا قلقةً عليكَ.
رفعتُ نظري نحوه.
في الحقيقة، لم أكن بحاجة إلى قوًى عقليّة لأُحرّك قلبَ حبيبي الطيّب.
ارتسم على وجهي شيءٌ كابتسامة، ثمّ حرّكتُ شفتيّ.
‘فلتأثر لي.’
لم يخرج صوتي.
لكنّ نوكتورن سيفهم كلماتي من حركة شفتَي.
‘تابِع مشواري…….’
سواءٌ انتقمتَ لي، أو واصلتَ دربي، لم يكن ذلك مهمًّا أمام شفير الموت.
لكنّ هذه وصيّتي، وستكون مهمّة لك.
أتمنّى أن تُصبح، بأيّ شكل، سببًا آخر لتعيش.
يا نوكتورن، أنتَ شعلةٌ ستظلّ مشتعلة من أجلي إلى الأبد.
لو أُتيح لي مزيدٌ من الوقت، لفعلتُ ذلك عن طيب خاطر معكَ و كنتُ سأظلُ بجانبكَ.
نظرتُ إلى السماء من فوق كتف نوكتورن.
رغم تصاعد الدخان الأسود كالسُحب من جرّاء الانفجارات والحرائق،
إلا أنّ السماء بقيت زرقاءَ بشكلٍ لاذع، كأنّها تجهل كلّ ما يحدث في الأرض.
أتمنّى أن تكون مثلها.
أتمنّى ألّا تُظلّل حياتك بعد موتي أيُّ غمامةٍ من الألم أو المصاعب.
أن تواصل طريقك بثبات.
نوكتورن، يقولون إنّ في الجنّة لا يوجد عذاب.
لكن هل هذا أمرٌ جيّدٌ تمامًا؟
أظنّها ستكون مملّة جدًّا بدونكَ.
أنا التي ماتت في الثالثة والعشرين، لا أملك سوى ذكرياتٍ تمتدّ ثلاثة وعشرين عامًا فقط.
أخشى أن تنفد أحاديثي و أنا وحدي.
لذا، أنتَ عليك أن تجلب الكثير منها.
ذكرياتٍ مبهجة، لحظاتٍ أحببتَ فيها.
لا أطلب منك أن تجلب الذكريات المؤلمة.
لا بأس إن أحببتَ امرأةً غيري، فقط لا تتألّم كثيرًا.
ربّما هذه طريقتي في الحبّ.
وحين نلتقي مجدّدًا، أخبرني أثناء ارتشاف كأسٍ من الشراب
كم تألّقتَ في شبابك، وكم كانت شيخوختك هادئة.
وكم أصبحتَ حكيمًا.
سأنتظركَ، دومًا……
بدأ وجه نوكتورن يبهت قليلًا فشيئًا،
وفي النهاية، انقطعت رؤيتي تمامًا.
كأنّه قال شيئًا لي، لكنّي لم أعد أسمع.
وكلّ ما شعرتُ به هو دمعةٌ دافئة سقطت على وجهي.
آسفة…
لأنّ آخر ما رأيتُه كان وجهك، وقد أسعدني ذلك.
***
‘كنتُ أرغب أن أصبح الأميرة المثاليّة التي يتمناها الجميع.’
ربّما لأنّ هذا كان الحلم الذي راودني في صغري.
رغم أنّ موتي كأميرةٍ قُبيل تتويجي يبعث في النفس شيئًا من الأسى،
إلا أنّ شعوري بأنّ حياتي كانت مباركة، لم يتغيّر.
لقد نلتُ ما يكفي، ورأيتُ أكثر ممّا ينبغي.
حتى خصمي اللدود قُضيَ عليه،
ولذا فإنّ مستقبل الإمبراطوريّة سيكون مشرقًا.
لا حسرة في قلبي.
آخر ما أتمنّاه، ألّا يتألّم أحبّتي كثيرًا بسبب موتي.
أن يكون الجميع سعداء.
مع دعاءٍ خالصٍ من قلبي،
اختتمتُ حياتي الكاملة.
***
“هاه…!”
فتحت آريادن عينيها.
ثمّ ارتبكت من تلك الحقيقة.
‘هل… وصلتُ إلى الجنّة؟’
راحت تتفحّص ما حولها بتروٍ. ثريّا معلّقة في سقفٍ عالٍ، مزهريّةٌ من الكريستال على الطاولة الجانبيّة قرب السرير، وغطاءٌ وشرشفٌ مصنوعان من خامةٍ فاخرة تلامس أصابعها بنعومة.
‘القصر الإمبراطوري؟’
المكان الذي دُفعت إليه على يد الإرهابيّين كان مرتفعًا بشكلٍ مرعب، وأسفله كان أشبه بجحيمٍ تندلع منه ألسنةُ اللهب.
لقد شعرتُ فعلًا بيد الموت وهي تحيط بي بين ذراعيّ نوكتورن. فكيف لي أن أكون هنا؟
“كح، كح!”
رغبت بمتابعة التفكير، لكن حلقها كان جافًّا للغاية.
لا بدّ من استدعاء إحدى الوصيفات لمعرفة ما يجري.
وبينما كانت تنظر حولها بحثًا عن شيءٍ لذلك، عبست آري.
‘أين جرس الاستدعاء؟ ولماذا الغرفة ضيّقةٌ هكذا… أين أنا؟’
يُقسَّم القصر الإمبراطوري إلى جناح الإمبراطور في الشمال، وجناح الإمبراطورة، والقصر المركزي حيث تُقام المناسبات الرسميّة، وقصر وليّ العهد، وعددٍ من الأجنحة الغربيّة التي يقيم فيها الأمراء والأميرات الأطفال.
عادةً ما يقيم الجميع في الأجنحة الغربيّة دون تمييزٍ حتى يبلغ الابن الأكبر سنًّا مناسبًا، فيُعيَّن وليًّا للعهد وينتقل إلى قصره الخاصّ.
لكنّ الإمبراطور لم يعيّن وليًّا رغم تقدّم الابن الأكبر في السنّ، بل على العكس، استدعى آري لتقيم في قصر وليّ العهد.
وقد أثار هذا القرار ضجّةً كبيرة، لأنّ هناك الكثير من الداعمين للابن الأكبر، الذي وإن لم يكن قد استيقظت قواه بعد، إلا أنّه لطالما ورث العرش بحكم التقاليد.
وبالتالي، فإن إدخال آري إلى قصر وليّ العهد، كان بمثابة أول إعلانٍ رسميّ من الإمبراطور عن نيّته في توريث العرش للأميرة.
‘وقد حدث ذلك قبل تسع سنوات كاملة.’
وكما يليق بمقرّ وليّ العهد، كان القصر أكبر حجمًا وأكثر فخامة من الأجنحة الغربيّة. لكنّ الغرفة التي تراها الآن كانت متواضعةً بل وخالية تقريبًا.
نهضت آري بشيءٍ من الضيق. لم يظهر جرس الاستدعاء، ولا يمكنها رفع صوتها، لذا قرّرت الخروج بنفسها والبحث عن أحد الخدم.
غير أنّها ما إن وضعت قدمها خارج السرير، حتّى اجتاحها ألمٌ فظيع امتدّ من باطن قدمها صعودًا.
“آهخ…!”
وبينما تتهاوى بصخبٍ على الأرض، راحت الرؤية تدور ثمّ تثبّتت في النهاية على وجهها المنعكس.
شعرٌ أشقر فاخر، وعينان ورديّتان. بشرةٌ بيضاء خالية من أيّ شائبة، وشفاهٌ منحنية بلطف، تشي بأنّ هذه الفتاة قد نالت الكثير من الحبّ.
وتحت الترقوة، يتلألأ جوهرٌ على شكل فراشة، يشير إلى امتلاكها قوًى قويّة من نوع إشافيه، ويتناغم مع لون عينيها.
أما الفستان الفاخر والحليّ المتألّقة، فكلّها علاماتٌ على مكانتها النبيلة.
وتحت هذا البورتريه المثاليّ، كان الاسم منقوشًا:
أميرة الإمبراطوريّة الرامساريّة، آريادنا لافون داياروجيه.
نعم، هذه كانت أنا… كما كنتُ أعرف نفسي.
لكن ما إن وصلت نظراتها إلى المرآة أسفل البورتريه، حتّى شهقت وغطّت فمها بصدمة.
فالوجه الذي ظهر فيها كان مختلفًا تمامًا عمّا في الصورة.
“آه…”
شعرها الأشقر قد احترق وتحوّل إلى رماد، ولم يتبقَّ منه سوى خصلٍ قصيرة تتدلّى من بين الضمادات.
أما وجهها الجميل، فقد تشوّه بسبب الحروق التي غطّت نصفه، والأذن اليسرى فقدت شكلها بالكامل تقريبًا.
وعندما سحبت الفستان المرتفع بأصابعٍ مرتعشة، وجدت الجوهر الذي كان يومًا ما متلألئًا، قد تكسّر واسودّ بعد أن مات.
وعندها تنهدت آريا تنهيدةً يملؤها اليأس.
‘…لقد نجوتُ من جحيم النار، إذًا.’
نجوتُ، لكن بجسدٍ محطّم.
ولهذا أُقصيت إلى هنا، إلى أحد الأجنحة الغربيّة.
وظلّ انعكاسها الثابت في المرآة يحدّق بها كما لو كان يسخر منها.
كأنّه يقول لها هذه هي الحقيقة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"