الفصل السادس
كانت سنابل القمح تتمايل برفقٍ مع الريح.
— “والحديث مع العشب أمرٌ لا يفعله سوى المهرّجين.”
قال بليك الصغير بفظاظة، كما في الذكرى.
وفي تلك اللحظة، استدارت فتاة صغيرة، لا يبدو أنّها تجاوزت الرابعة…….
تطاير شعرها بين سنابل القمح.
لكن ملامحها لم تتّضح في ذاكرته. بل حتّى لون شعرها كان غامضًا.
هل كانت تضحك؟
أم أنّها أجابت سؤاله بودّ؟
“……!”
كان بليك غارقًا في التفكير، ثم انتبه فجأة.
كانت ليلي تمسك بمشطٍ معلّق على الجدار.
قرّبت أسنان المشط المدهونة بالزيت بعناية من عرف دومينيك.
كانت فضوليّة تجاه كلّ ما في الإسطبل، فهو عالمٌ جديد عليها.
أراد بليك أن يمنعها.
فكما قال، دومينيك فرسٌ شجاعة، خاضت مع سيّدها معارك لا تُحصى، وكانت شرسة بقدر قوّتها.
وربّما—وربّما—تمزّق ذراع ليلي إربًا.
لكن قبل أن ينطق بكلمة، لمست يد ليلي عرف دومينيك.
وفي تلك اللحظة……!
“يا إلهي، ما أهدأكِ وأدبكِ.”
أغلقت دومينيك جفنيها الطويلين المميّزين للخيول، ثم دفعت بجسدها نحو ليلي.
كانت الحيوانات والوحوش تميل بطبيعتها إلى الشعور بالألفة تجاه السحرة.
وفوق ذلك، بدا أنّ دومينيك أخطأت فحسب، وظنّت ليلي طفلةً صغيرة…… فكانت لطيفة معها على نحوٍ خاص.
أمّا بليك، الذي لم يكن يعلم الخلفيّة، فقد شعر بخيانةٍ صريحة.
لوى شفتيه المتصلّبتين، وكتم زفرةً حادّة.
بعد أن حملت، صارت دومينيك حسّاسة لدرجة أنّها لم تعد تتدلّل عليه حتّى!
نسي بليك هدفه الأصليّ تمامًا.
وبدلًا من مراقبة إن كانت ليلي تسيء التصرّف مع فرسه، راح يراقب مقدار ‘خيانة’ دومينيك له.
وفي عينيه الحادّتين، امتزج الذهول بالامتعاض.
“مظهركِ يشبه بليك تمامًا، لكنّ داخلكِ مختلف تمامًا. أنتِ بريئة…… ودودة…….”
صرّ بليك على أسنانه بقوّة.
إنّها فرس حرب! في الأصل هي باردة وحازمة!
ومع ذلك، واصلت دومينيك إظهار طاعةٍ وديعة.
“آه، على ذكر ذلك، أدركتُ فجأة أنّني لا أعرف اسمكِ. دعيني أخمّن… لعلّه كوكو؟”
كوكو؟
اسمٌ يشبه اسم قطّة مدلّلة.
أغمض بليك عينيه بإحكام.
بصراحة، مظهر دومينيك الآن يناسب اسم كوكو أكثر.
كان عليه أن يعترف.
شعر بحرقةٍ في صدره.
أشدّ من تلك التي شعر بها حين جاب الجبال الثلجيّة ثلاثة أيّام متواصلة لمطاردة قطعان الدريك.
قرّر حينها أنّه يجب أن يُعيد ليلي هيدويك من حيث أتت.
فتح فمه أخيرًا بعزمٍ واضح.
“اسمعي، يا سيّدة.”
لكنّ التوقيت كان سيّئًا.
كانت ليلي قد أنهت تمشيط العرف، وتنزل عن كومة القشّ.
وحين دوّى صوت بليك العميق فجأة، اختلّ توازنها.
“آه!”
“هيدويك!!”
حين جلست فجأة، اندفع بليك عبر الإسطبل.
“يا إلهي! هل أنتِ بخير؟”
“أوه، سيّد بليك…… هل تمسك بيدي من فضلك؟”
“هل التويتِ كاحلكِ؟ إن كان الأمر كذلك، فلا تحاولي الوقوف. من الأفضل فحص الموضع أوّلًا.”
لم يدرك بليك حتّى أنّ قلبه كان يخفق بعنف.
صدره الذي لا يهتزّ عادةً.
وفي اللحظة التي همّ فيها برفع ليلي……
“فررر……!”
حرّكت دومينيك رأسها بعدائيّة تجاه بليك.
بدا أنّها لم يعجبها إخافته لليلي.
“دومينيك، هل أنتِ…… غاضبة منّي الآن؟”
كانت تلك أوّل مرّة تغضب فيها منه.
كم كان ذلك مجحفًا!
انهارت في لحظةٍ كلّ الذكريات والولاء اللذَين بُنيا في معارك لا تُحصى.
وشعر بليك بالظلم.
لقد حاول عمدًا ألّا يتصرّف بخشونة.
خرج من الظلّ بهدوء، وخفّض صوته حتّى لا تفزع هذه السيّدة الصغيرة.
ربّما كان ذلك مفرطًا بعض الشيء.
لكن على أيّ حال، وقوف دومينيك في صفّ ليلي كان مستفزًّا.
“قضيتِ معها دقائق معدودة فقط، ومع ذلك تقفين إلى جانبها!”
تذمّر بليك بصدق.
ثم، وتحت مراقبة دومينيك، رفع ليلي بيدٍ بارزة العروق.
كان رفعًا لطيفًا للغاية.
“لننظر إلى ساقكِ أوّلًا. تحرّكي بحذر كي لا أُتّهم ظلمًا. لا أريد أن تلقي بي دومينيك من فوق السرج لاحقًا.”
انفجرت ليلي بضحكةٍ صغيرة.
وجدت أسلوبه مسلّيًا.
لم يكن نبلاء الإمبراطوريّة يسخرون بهذه الصراحة أبدًا.
ومع كلّ ضحكةٍ رنّانة، ارتجف خصرها بخفّة بين يديه.
“ما الذي يضحككِ إلى هذا الحد؟”
حاول بليك جاهدًا أن يصرف نظره عن وجهها المبتسم. هم، هم.
ولحسن الحظّ، لم تلحظ ليلي ارتباكه.
وضعها على رفّ خشبيّ.
ثم نزع حذاءها، وأمسك بكاحلها النحيل.
كان من الواضح أنّه سيورم.
“من الأفضل أن نربط الموضع لتقليل تدفّق الدم. إذًا، نحتاج إلى قطعة قماش…….”
كان ينزع معطفه ليشقّه، حين سارعت ليلي بمنعه.
“أقدّر لطفك، لكن سأستخدم ثيابي. سيكون من المؤسف أن تتضرّر ملابسك بسبب إصابتي.”
عاد طبعها القديم.
عدم قدرتها على تلقّي شيء من رجل.
ثم نظرت إلى نفسها.
لحظة.
في الواقع، لم يكن هناك ما يمكن أن تُسمّيه ‘ثيابها’.
كلّ ما ترتديه كان مُعارًا من الخادمات كي لا تبرد.
القطعة الوحيدة التي تخصّها حقًّا هي قميص النوم.
هل تشقّ قميص النوم؟
لكن ذلك يتطلّب خلع بقيّة الملابس……
تردّدت قليلًا بسبب ما تبقّى من كرامة الطبقة العليا.
ثم فكّرت:
ما الذي تفعله هذه الكرامة السخيفة هنا؟
لقد هربت من النبلاء أصلًا.
يجب أن تغيّر طريقة تفكيرها.
“همم، انتظر قليلًا. سأنزع هذا وأمزّقه حالًا.”
أرادت ليلي أن تشبه أهل الدوقيّة.
أن تتحرّر من القيود السخيفة، وتتصرف بحريّة مثلهم.
وقميص النوم، في النهاية، لباسٌ داخليّ يُمكن ارتداؤه داخل القلعة.
ما المشكلة؟
نزعت القبّعة، والوشاح، ثم العباءة الشتويّة واحدًا تلو الآخر.
فتح بليك عينيه السوداوين على وسعهما.
حدّق بها غير مصدّق.
ذلك العطر اللعين—رائحة الخوخ—عاد ليعذّبه من جديد.
“…….”
حرّك شفتيه.
شعر بالندم.
لماذا اقترب منها مرّةً أخرى؟
لقد فقد عقله للحظة بسبب فرسه.
تبًّا، دومينيك.
…تبًّا، ليلي هيدويك!
“ألا تملكين أيّ وعي؟ تجاه رجلٍ غريبٍ و……!”
كان صوته مشحونًا بالغضب، والأنين، والألم الناتج عن كبح غريزةٍ بدائيّة.
“سيّد بليك؟”
جاء دور ليلي لتشعر بالظلم.
لم تكن تقصد سوى أن تتصرّف بحريّة لأوّل مرّة في حياتها.
كانت تكره والديها.
والدها عضو في مجلس الشيوخ، رجلٌ متشدّد، يقدّس المظاهر.
كانت تحرّكاتها وخروجها دائمًا تحت الرقابة.
لكن الدوقيّة التي جاءت إليها بلا أملٍ تُذكر، بدت مكانًا رائعًا.
ولهذا، أرادت أن تشبه أهلها.
تذكّرت المشهد الذي رأته في طريقها إلى القلعة.
كان عمّال الإقليم يقطعون الحطب وهم يغنّون.
يشربون جعةً مخمّرة منذ الظهيرة، ويضحكون بصوتٍ عالٍ بدل أن يتذمّروا من البرد.
كانت ثيابهم ملوّثة بالغبار الأسود، كأنّهم عادوا لتوّهم من مناجم الذهب أو موارد السحر.
“لا تناديني باسمي هكذا. هل تعرفين كيف يبدو صوتكِ وأنتِ تفعلين ذلك؟”
لم يكن بليك قادرًا على التصرّف بهدوء وهو يرى قميص نومها.
ليلي لم تكن تعلم بذلك.
وكان عجزه عن الشرح مشكلةً أخرى.
فهو يفضّل أن يعضّ لسانه ويموت على أن يشرح هذا.
“أنا حقًّا لا أفهم لماذا تغضب إلى هذا الحد. أقصد، سيّد بليك، أنتَ—”
“ها أنتِ تعيدين الاسم!”
كان بليك ممزّقًا بين عقله الذي يطالبه بالابتعاد عنها، وغريزته التي تأمره بالعكس.
وفي تلك اللحظة، رفعت ليلي طرف قميص النوم لتشقّه.
أدار بليك وجهه بسرعةٍ خاطفة.
كانت حركةً سريعة كحركة وحش.
لكن عينَيه السوداوين—الملعونتين—كانتا قد رأتا كلّ شيء.
جدار الإسطبل البنيّ.
ليلي الصغيرة الموضوعة على الرفّ بمستوى صدره.
وبياض فخذيها.
والندوب الصغيرة المتناثرة عليهما…….
لحظة.
ندوب؟
“…….”
لم يُصدّق بليك عينيه، فرفع نظره إليها من جديد.
كان متيقّنًا.
هذه آثار فعل زوجها السابق اللعين.
رغم أنّ الإسطبل مُدفّأ، إلّا أنّ الفجر البارد جعله قارسًا.
ولأنّها لم تعد ترتدي سوى قميص النوم، شعرت ليلي بقليلٍ من البرد.
لكنّها لم تدرك أنّ فخذيها مكشوفتان.
ثم لاحظت نظرة بليك الغريبة.
“وماذا الآن؟ بأيّ كلامٍ غريب ستغضب؟ أقول لك إنّ الكاحل ليس خطيرًا.”
لم تكن ليلي قادرة على شفاء جروح الآخرين الخطيرة، لكن إصابةً خفيفةً تخصّها كانت في متناولها.
لم تكن تنوي استخدام السحر الآن.
لكن كلامها العابر أُسيء فهمه تمامًا.
فبليك لم يكن يعلم بعد أنّها ساحرة.
كان قلبه ينبض ألمًا.
كيف يمكنها أن تبتسم وهي مصابة؟
نبيلةٌ عاديّة كانت لتبكي فورًا.
……لا بدّ أنّها اعتادت الألم بسبب زوجها السابق!
أساء الفهم تمامًا، وجرّ الحديث إلى ذلك الرجل.
صرخ بغضب:
“كان عليكِ أن تقتليه!”
اتّسعت عينا ليلي الزرقاوان بدهشة.
حدّق فيها بليك بقوّة.
كان يتذكّر حديث الليلة الماضية.
“أن يضربكِ كلّ ليلة، ثم يقول إنّه خطأ بسبب السُكر؟ هراء! لو كان كذلك لما عذّبكِ بهذه الطريقة الحقيرة! لم أكن أعلم أنّ الأمر بلغ هذا الحدّ، لأنّكِ بدوتِ طبيعيّة!”
“آه، يبدو أنّك رأيت جروحًا أخرى غير الكاحل.”
قالت ليلي بخجلٍ طفيف، وأصلحت ملابسها.
وفي تلك اللحظة، شدّ بليك على حافة الرفّ بقوّة.
برزت عروق يده.
“كيف يمكنه أن يدّعي أنّ ترك الندوب في أماكن لا تُرى مجرّد خطأ؟ هذا تعذيبٌ متعمّد! لماذا سكتِّ؟ لو كنتُ مكانكِ، لو كنتُ أنا……!”
لم يستطع تحريك شفتيه كما ينبغي.
كان صوته متجمّدًا، مليئًا بالغضب والحرارة.
فهمت ليلي أنّه أدرك كلّ شيء.
أن زواجها كان جحيمًا.
ولو كان هو مكانها، لكان الأمر مختلفًا.
تخيّلت بليك وهو يُذلّ زوجها السابق حتّى يبكي.
فشعرت ببعض الارتياح.
“بالطبع. أنتَ جريء، سيّد بليك. لو رفع يده عليكَ، لأمسكتَ فورًا بالشمعدان القريب، وبقوّة تلك الحسم…… لطعنتَ بطنه كما يُشوَى لحم الخنزير على سيخ.”
“هل تظنّين أنّني أمزح الآن؟”
قاطعها بليك، ما زال يتنفّس بغضب.
—
المترجمة:«Яєяє✨»
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"