الفصل الرابع
كانت ليلي تشعر بعدم الارتياح كلّما تلقت شيئًا من رجلٍ نبيل.
كانوا يقدّمون لها الهدايا، ويقولون بأفواههم:
“إنّما نقدّمها من باب الودّ فقط، فلا تشعري بأيّ عبء.”
وإن حاولت الرفض، أجبروها على الإمساك بها عنوةً.
وإن أُرسلت الهدايا إلى قصر والديها، لم يكن لديها خيارٌ أصلًا.
ثم، ما إن ترقص مع نبيلٍ آخر، حتّى ينهالوا عليها باتهامات الخيانة.
‘بعد كلّ ما فعلتُه لأجلك، كيف تعطين الرقصة الأولى لغيري؟’
وفي يومٍ ما، تشاجر ثلاثة رجالٍ يدّعون حبّ ليلي في حفلٍ خارجيّ أقامته إحدى الماركيزات.
“ليلي هيدويك لي!”
“وقاحة! هل تعرف كم ماسة قدّمتُ لها؟ كيف تجرؤ على منافستي وأنتَ من بيتٍ لا يستطيع تقديم مثل هذا؟”
كانوا يتجادلون حول ملكيّتها، ويقارنون كم أنفق كلٌّ منهم.
وحين فشلوا في التوصّل إلى تسوية، انتهى الأمر بسفك دماء.
منذ ذلك الحين، باتت ليلي تنفر من أيّ هدية تُمنح لها من طرفٍ واحد.
وبهذا المعنى، كان بقاؤها في قلعة بليك بلا مقابلٍ أمرًا مزعجًا.
مع أنّها هي من طلبت ذلك بنفسها.
لقد قالت بوضوحٍ عند دخولها القلعة إنّها ترغب في عملٍ ما، لكن لم يأتِها أيّ ردّ.
وبالطبع، لم تظنّ أنّ لهذا الدوق الغريب نيّةً خفيّة.
‘هو لا يتحلّى باللباقة، ولسانه فظّ… لكنّه أفضل بكثير من النبلاء الذين يخفون قذارتهم خلف أقنعة مهذّبة.’
ومع ذلك، أليس من الأفضل أن تردّ الجميل؟
يكفي ألّا تلتقي به كما أراد.
استلقت ليلي قليلًا في الغرفة التي خُصّصت لها، ثم رفعت جسدها ببطء.
“……”
كان الفجر.
لم تمضِ سوى ساعات قليلة منذ وصولها إلى القلعة ليلًا.
استحمّت بماءٍ دافئ، لكنّ جسدها كان متعبًا.
ومع ذلك، لم يأتِها النوم.
‘يبدو أنّ عليّ أن أبدأ بمساعدة القلعة فورًا… عندها فقط سأشعر بالراحة.’
“حتى إن حصلتُ على غرفةٍ كهذه، لا بدّ أن أفعل شيئًا.”
تمتمت ليلي وهي تنظر حولها من جديد.
كانت تلك الغرفة المتّصلة بالحمّام الذي حملها بليك إليه.
تقع في الطابق العلويّ من القلعة، وتطلّ مباشرةً على الجبال الثلجيّة المتراكمة.
لم يكن المكان شبيهًا ببيوت العاصمة الأنيقة.
لا لوحاتٍ فنيّة لفنّانين راحلين، ولا زينة من ورودٍ مجفّفة باهظة.
ومع ذلك، بدا أنّها غرفة نبيلة بُذل فيها جهدٌ صادق، وسط قلعةٍ شتويّة معزولة في عمق الجبال.
كانت هنا وهناك أدواتٌ سحريّة تُعدّ في العاصمة رمزًا للبذخ.
‘يبدو أنّ معظم موارد السحر تُستخرج فعلًا من الدوقيّة. لو أنّ بليك أسند إليّ عملًا يتعلّق بالسحر… لكن يبدو أنّه لا يحتاجني.’
كانت ليلي تجيد استخدام السحر.
ليس بالقوّة الكافية للمعارك، لكن بقدرٍ يكفي للحياة اليوميّة.
ومع ذلك، لم تذكر الأمر صراحةً.
بليك بدا منزعجًا منها أصلًا.
وقد شاع في المجتمع أنّ زهرة الصالونات تجيد السحر أيضًا، ومع ذلك لم ينبس بكلمة.
كان ذلك بمثابة رفضٍ صامت.
لكن في الحقيقة، كان هناك سوء فهم.
بليك كان يرمي نشرات القصر الإمبراطوريّ إلى القمامة دون أن يقرأها أصلًا.
وكان ذلك طريقته في تفريغ غضبه.
“قمامة، قمامة، هذه أيضًا قمامة… وهذه واحدة إضافيّة.”
“هل نرميها كلّها في المدفأة؟ آه، هذا الورقة قد تكون حطبًا جيّدًا.”
“إن لم تتقيّأ المدفأة، فيجب أن نكون شاكرين.”
ولهذا، لم يعرف بليك سرّ ليلي الشهير إلّا لاحقًا… في التوقيت المناسب تمامًا.
‘لا يعقل أن بليك لا يعرف. لقد أخبرته أنّني استعنت بالسحر في الطريق إلى هنا.’
لا، هو لا يعرف.
‘ولا يبدو أنّه أساء الفهم أيضًا.’
في الواقع، أساء الفهم تمامًا.
على أيّ حال، خرجت ليلي إلى الممرّ، عازمةً على إيجاد عملٍ ما.
كان وجه القلعة الحقيقيّ في الخارج قاسيًا وباردًا.
وفي تلك اللحظة، وصل إلى أذنيها صوت حركةٍ من جهة المطبخ.
صوت اصطدام المعدن أثناء غسل الصحون.
غليان طعامٍ في قدور.
نكاتٌ خشنة، لكنها ممتعة.
مالت ليلي برأسها قليلًا نحو الداخل.
“جيانا؟”
نادَت اسم الخادمة التي خُصّصت لها.
اندفع بخارٌ دافئ من القدور، ولمس خدّها.
في الخارج، كان المكان قاسيًا وباردًا…
لكن هنا، تحوّل فجأةً إلى مساحةٍ صاخبة، دافئة، تنبض بالحياة.
“هاهاها! هذا مضحك فعلًا!”
رفعت امرأةٌ حمراء الشعر، كانت تضحك بصوتٍ عالٍ، رأسها.
“يا إلهي، السيّدة ليلي؟ ما الذي جاء بكِ في هذا الوقت؟”
ألقت جيانا نظرةً من نافذة المطبخ.
كان الثلج قد توقّف، وظهر القمر بدرًا فوق الجبال.
“إنّه فجرٌ فعلًا!”
كان معظم خدم القلعة طوال القامة.
فأهل الدوقيّة جميعًا كانوا كذلك.
كانوا في الأصل من قبيلة أوفوس، ولا يزال ذلك جزءًا من هويّتهم.
كان الإمبراطوريّون يطلقون على أنفسهم “الدم الخالص”، وينظرون إلى أهل أوفوس بازدراء.
كانت جيانا أوفوسيّة خالصة.
قويّة البنية، ذات بشرةٍ بلون النحاس الفاتح، جميلة على طريقتها.
وعندما وقفت أمام ليلي بعد أن مسحت يديها بالمنشفة، بدا فرق الطول شاسعًا.
فكّرت ليلي أنّ هؤلاء الخادمات أقرب إلى صيّادين منها إلى خدمٍ تقليديّين.
“هل أنتِ جائعة؟ رغم أنّكِ وصلتِ فجرًا، إلّا أنّ الأكل قبل النوم أفضل.”
“لا، قلتُ إنّني سأنتظر الإفطار، ويجب أن أفي بوعدي. لكن… ماذا تفعلن جميعًا؟”
نظرت ليلي خلف كتفي جيانا.
كانت الخادمات مجتمعات حول طاولة، يقطّعن اللحم المجفّف.
لم يكن المشهد مألوفًا لها، بل بدا ممتعًا.
إحدى الخادمات انحنت بخجل وابتسمت ابتسامةً متصلّبة.
“هـ-هاه… صباح الخير.”
كان وجود ليلي مربكًا لهنّ.
لم يكن سوى اثنتين قد ساعدتاها في الاستحمام، وهما غير موجودتين الآن.
تبادلت الخادمات النظرات.
‘هل الإمبراطوريّات حقًّا بهذا البياض والنحافة؟’
‘لا نعرف. قلّما يأتين إلى هنا.’
‘إيل ديكستر من العاصمة ومع ذلك ضخم. هذه حقًّا نبيلة.’
كان الشعور أشبه بدخول كتكوتٍ إلى عرين ذئاب.
وقد تعلّمن جميعًا العيش في البرّيّة القاسية، فخشين أن تُصاب هذه الكتكوتة بأذى إن لمسنها خطأً.
لكن جيانا، التي كانت قد تعرّفت قليلًا على ليلي سابقًا، شعرت براحةٍ أكبر.
وحاولت أن تضبط لسانها الخشن وهي تشرح:
“كنّا… مع الخادمات… نصنع طعامًا محفوظًا. في هذا الوقت من السنة، تضرب عواصف ثلجيّة تقطع الطرق تمامًا.”
“هذا رائع. هل يمكنني المساعدة بشيء؟”
أرادت ليلي حقًّا أن تضع يدها في العمل.
أيّ عمل!
تبادلت الخادمات النظرات بحيرة.
هل تستطيع تلك الذراعان النحيلتان المساعدة فعلًا؟
ثم تردّدن.
فهل يليق تكليف نبيلةٍ من العاصمة بالعمل؟
لقد سمعن عن ترف الطبقة العليا، وعن احتقارهم للعمّال.
خشي بعضهنّ أن تغضب فجأةً.
“……هل تودّين تذوّق هذا أوّلًا؟”
قدّمت خادمةٌ كثيرة النمش قطعة لحمٍ مجفّف.
جلست ليلي القرفصاء بينهم، وأخذت القطعة دون تردّد.
“أوه!”
لم يكن صلبًا كما توقّعت.
لم يكن ذا رائحةٍ كريهة، وسهل المضغ.
“ليس مالحًا كما ظننت.”
بل شعرَت بطعمٍ مألوف.
كأنّها ذاقت شيئًا مشابهًا في طفولتها.
شيئًا احتفظ به طفلٌ صغير في رحلةٍ طويلة وشاركه.
طعم ذكرى لا تعرفها.
ارتخت وجوه الخادمات اللواتي كنّ يراقبنها بتوتّر.
لم تصرخ، ولم تشتكِ.
وكانت ليلي، وهي تمضغ بخدّيها الصغيرين، لطيفة على نحوٍ لا يُقاوَم.
“نعم، فترة العواصف لا تطول، لذا لا نُكثر من التمليح.”
“جرّبي هذه القطعة أيضًا. من قرب الفخذ الخلفيّ، أنعم.”
كانت معدة ليلي فارغة.
فأخذت تأكل ما يُقدَّم لها، وتبتسم.
تحمّست الخادمات، وبدأن يقدّمن لها أفضل ما صنعن.
ثم تساءلت ليلي، بعد أن امتلأت معدتها:
“هل هذا حقًّا يُعدّ مساعدة؟”
كانت في الحقيقة تُطعَم أكثر ممّا تعمل.
لكن حماسهنّ جعلها تساير الجوّ.
“هاها! بالطبع!”
ضحكت أكثر الخادمات ارتباكًا في البداية بأعلى صوت.
والآن، انشغلن بإطعام ليلي فقط.
شعرت ليلي بأنّ هذا لن يجدي، فبحثت عن عملٍ آخر.
رأت برميلًا خشبيًّا قرب المغسلة.
“لماذا هذا هنا؟”
أجابت جيانا:
“فرسٌ على وشك الولادة. السيّد يعتني بها كثيرًا، فنبدّل لها الماء الدافئ كلّ ساعة ونراقب حالتها.”
“كنتِ ستذهبين الآن؟”
“نعم، بعد إنهاء اللحم المجفّف.”
“إذًا سأذهب أنا. أحمل الماء الدافئ إلى الإسطبل، أليس كذلك؟”
نهضت ليلي فورًا، واحتضنت البرميل الخشبيّ بفرح.
أخيرًا، وجدت عملًا حقيقيًّا.
المترجمة:«Яєяє✨»
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"