الفصل الثاني
كان إيل ديكستر هو المساعد الذي أبلغ بليك قبل قليل بقدوم زائرةٍ غريبة.
شابٌّ ذو شعرٍ بنيّ ونظّارات، ومن القلائل في القلعة الذين يحملون دمًا إمبراطوريًّا خالصًا، لا دم البرابرة.
ابتسم إيل بابتسامةٍ محرجة وهو يسأل مرّةً أخرى:
“أم… مولاي. أعتذر، لكن دعني أتأكّد مرّةً أخرى. هل قلتَ إنّك ستقوم بـ‘غسل’ هذه السيّدة بنفسك؟”
“يبدو أنّ أذنيك لم تفقدا السمع بعد. نعم، أنا.”
“كنتُ لأفضّل سماع مزحةٍ عن انسداد طريق ترقيتي.”
“وذلك صحيح أيضًا.”
“تبًّا… هل أترك استقالتي في غرفة العمل إذًا؟”
بالطبع، لم يكن بليك يقصد أنّه سيفعل شيئًا بليلي.
لكن وجهه، وهو يرمق مساعده بنظرةٍ ساخرة، بدا وقحًا على نحوٍ مستفزّ.
أليس حملها بنفسه إلى غرفة الاستحمام نوعًا من ‘الغسل’ على أيّ حال؟
كان السبب الحقيقيّ لاستخدامه هذا التعبير الملتبس أنّه أراد أن يرى ليلي مرتبكةً ولو مرّة.
غير أنّ ليلي، التي ما زالت متدلّيةً من جانبه، ردّت بكلّ برود:
“قلتُ لك إنّني لستُ آنسة.”
شعر بليك برغبةٍ في الإمساك بمؤخرة عنقه فور سماعه الردّ.
مملّةٌ حقًّا.
“أهذا كلّ ما لديكِ لتقوليه؟ ثمّ إنّ المطلّقة تُعدّ آنسة من جديد.”
تخلّى عن شعوره الغريب بأنّه كان قريبًا منها في زمنٍ ما.
فهي، على ما يبدو، لا تعرفه إطلاقًا.
إذًا، لا بدّ أنّ ذلك الإحساس لم يكن سوى وهمٍ من طرفه.
“وأُحذّركِ مسبقًا، من الأفضل ألّا تتحدّي برابريًّا. ألم تقرئي قصص الأطفال؟”
“تقصد القصص التي تقول إنّ أهل الدوقيّة يأكلون البشر؟”
رغم أنّهم ينتمون إلى الإمبراطوريّة نفسها، فإنّ طرق التمييز لم تكن قليلة.
وبفضل ذلك، ترسّخت صورة أهل الدوقيّة كقومٍ ‘همجيّين’، سواء أكانت صحيحة أم لا.
سألت ليلي بلهجةٍ جانبيّة:
“هل لديكَ ميلٌ من هذا النوع؟ أعني… ذائقة جماليّة تجاه لحم البشر؟”
“أبدًا.”
“ممتاز. هكذا نكون قد حللنا سبب الإحراج بيننا.”
“……أيمكنكِ الخروج ليومٍ واحد ثم العودة؟ سأستغلّ الوقت للتفكير مليًّا إن كان أكل البشر قد يصبح من ذائقتي.”
على نحوٍ غريب، شعر بليك برغبةٍ في استفزازها.
كان شعورًا عجيبًا تجاه امرأة لا يعرفها.
‘ما هذه المرأة الغريبة؟’
كان أكثر ما يكرهه بليك هم نبلاء الإمبراطوريّة: مسرفون، لا يجيدون سوى النميمة.
‘هم الأشدّ همجيّة، ومع ذلك يرموننا نحن بتهمة الهمجيّة. مثير للسخرية.’
وليلي هيدويك هي أكثر امرأة تحظى بإعجاب أولئك النبلاء.
إذًا، من الطبيعيّ أن يرغب في مضايقتها.
وذلك الانجذاب الذي شعر به لا بدّ أنّه مجرّد وهمٍ نابع من رغبته في السخرية.
…هكذا أقنع بليك نفسه.
—
في الوقت نفسه، كانت ليلي تتأمّل الحمّام بلا أيّ اهتمامٍ بأفكار بليك.
كان ما يزال يحملها، ويده الكبيرة قابضة على خصرها.
كان خصرها النحيل يكاد يُغطّى بكفّه، وحتّى من خلال طبقات الملابس الشتويّة، شعرت بصلابة جانبه.
لكن ذلك لم يشغل ليلي كثيرًا، فركّزت نظرها على أرضيّة الحمّام المصنوعة من بلاطٍ أبيض خشن.
“كنتُ فضوليّة بشأن قلعةٍ في الجبال، والطراز القوطيّ يعجبني. قد يبدو قاسيًا ووحشيًّا مقارنةً بالقصور العاديّة، لكن هذا ما يجعله مميّزًا.”
“همم. القادمون من العاصمة كانوا يكرهون المكان، يقولون إنّه قاسٍ… يبدو أنّ الأذواق تختلف.”
“يا للخسارة. يبدو أنّ من زاروه لا يملكون ذائقةً جيّدة.”
“أحيانًا يزورنا موظّفون من القصر الإمبراطوريّ. محقّقون مثلًا. يبدون دائمًا منزعجين، كأنّهم جاءوا مكرهين.”
قال بليك بنبرةٍ ساخرة.
“لكن ماذا نفعل؟ هذه طريقتنا في العيش. نعلّق اللحم في المطبخ، ونضع براميل خشبيّة في الممرّات كي لا يتجمّد الماء. ومن دون الستائر الجداريّة، أحيانًا لا يجدي ذلك نفعًا.”
امتلأ الحمّام ببخارٍ دافئ.
بينما كان الماء الساخن ينساب إلى الحوض الأبيض، حملت بعض الخادمات دلاء الماء وسكبنه فيه.
قال إيل ديكستر:
“تمّ تجهيز الحمّام، مولاي. إذًا الآن…؟”
كان السؤال يحمل شكًّا واضحًا: هل سيفعلها حقًّا؟
لحسن الحظّ، سلّم بليك ليلي للخادمات بهدوء. تلقّينها بحذر، كما لو كانت قطعةً هشّة.
“استحمي، ثم نكمل الحديث.”
ابتسمت ليلي وحيّته بابتسامةٍ وادعة:
“أتمنّى لكَ مساءً سعيدًا، سيّد بليك.”
“آسف، لكنّه ليل. الوقت المناسب لدخول الغرباء دون دعوة.”
“لكنّي كنتُ قد اتّفقتُ مع والدك.”
“ألستِ عنيدةً بعض الشيء؟”
لم تكن ليلي تقصد الجدال، وكانت على وشك الاعتذار، لكن بليك خشي أن تقول شيئًا أكثر إحراجًا، فانصرف قبل أن تسمعها.
“إلى اللقاء.”
غادر الحمّام بخفّةٍ لا تليق بجسده الضخم.
ضحك إيل بارتباك، وأومأ برأسه لليلي، ثم أسرع خلف بليك.
“مولاي! لا تتركني وحدي!”
كان صراخه يتلاشى.
الخادمات المتبقّيات اقتربن من ليلي بتردّد.
لم يعتدن خدمة النساء.
أهل أوفوس كانوا يُنظر إليهم كبرابرة.
رجالًا ونساءً، كانوا أقوياء البنية.
وبالتالي، كان التعامل مع ليلي النحيلة محرجًا.
‘تمهّلن، لا نريد ان نكسرها دون قصد.’
‘انتبهوا.’
تبادلن النظرات.
نزعت ليلي عباءة الفرو بنفسها وقالت بهدوء:
“لا داعي لخدمتي في الاستحمام. أنا ضيفة غير مدعوّة أصلًا.”
ثم تثاءبت.
المسير لساعتين وسط العاصفة الثلجيّة أنهكها.
نسيت أن تحذّرهن.
أنّ مظهرها قد يكون خادعًا.
“……!”
توقّفت الخادمات فجأة، وقد اتّسعت أعينهن.
كانت أنظارهنّ مثبتةً على الندوب المنتشرة على جسدها النحيل.
—
لم تكن رحلة ليلي من العاصمة سهلة.
الدوقيّة مغلقة بطبيعتها.
وندر أن يرغب إمبراطوريّ خالص في القدوم إليها.
بعد النزول من القطار، استقلّت عدّة عربات، ثم مشت في الثلج حتّى وصلت إلى القلعة المختبئة في عمق الجبال.
كانت أوفوس يومًا مملكةً لقبيلةٍ رحّالة.
ورغم مرور قرون، بقي التبادل البشريّ محدودًا.
مدّت ليلي جسدها بتنهيدةٍ مريحة:
“آه.”
لم تُظهر ذلك، لكنّ التعب ذاب بعد الحمّام الساخن.
اقتادتها إحدى الخادمات إلى بابٍ ثقيل.
“سيّد القلعة بانتظاركِ هنا.”
كان على الباب شعار ذئبٍ محفور.
‘غرفة عمل بليك، على ما يبدو.’
من الداخل، سُمِع صوت كتابة.
دخلت ليلي.
كانت الغرفة واسعة، قاسية.
ساعة حائط ضخمة تدقّ بانتظام.
الأثاث قليل.
مكانٌ يشبه صاحبه.
صوت المدفأة وحده بثّ الدفء.
كان بليك يقرأ أوراقًا.
“همم.”
رفع رأسه، وعيناه حمراوان.
“استغرق الأمر وقتًا. نساء العاصمة بطيئات بطبعهنّ؟”
كان قد غيّر ملابسه.
قميصٌ أبيض مربوط عند العنق، يترك فجوةً صغيرة تكشف صدره المتين.
وسروالٌ مريح.
تجاهلت ليلي الاستفزاز.
“الخادمات كنّ لطيفات. أعطينني ملابس جديدة، كانت ناعمة ومريحة. كنتُ قد هربتُ دون تبديل.”
لم يكن بليك يكرهها شخصيًّا.
كان يدرك ظلم الإمبراطوريّة لأهل أوفوس.
ومع الوقت، قد يفهمان بعضهما.
أُغلِق الباب.
بقيا وحدهما.
“هل الملابس غير الضيّقة على الخصر من عاداتكم؟”
توقّفت عينا بليك دون وعي عند جسدها.
“كما قلتُ، الحياة أولًا…”
ثم صمت.
الملابس كانت أكبر منها بكثير.
فستان منزليّ بلون المشمش.
بدا كأنّها ترتدي ثياب زوجها.
حاول بليك التفكير في أيّ شيءٍ آخر.
‘كيف انتهى بها الحال هكذا؟’
السبب بسيط.
الخادمات اخترن أفضل ثوبٍ متوفّر.
كان ثوبًا اشتراه كبير الخدم ألفريدو لابنته.
لكن ابنته، كأغلب نساء أوفوس، كانت قويّة البنية.
كان ينبغي إعطاؤها ثوب طفل.
ركّز بليك نظره على الستارة الجدارية خلفها.
عليه أن يطلب شراء ملابس مناسبة لها.
“على أيّ حال، احكي قصّتكِ.”
أشار إلى الكرسي المقابل.
“ماذا تريد أن تعرف؟”
اقتربت ليلي.
وانحنت لتسحب الكرسي—
فانزلقت الثياب عن كتفها قليلًا.
“……”
نهض بليك فجأة.
“أُنبّهكِ مسبقًا، هذا ليس خطئي.”
—
المترجمة:«Яєяє✨»
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 2"