الفصل الثاني عشر
“سيّد بليك؟”
كان صوت ليلي هيدويك النحيل يتردّد قرب الباب الخلفي للقلعة الشتوية.
لكنّ المكان كان ساكنًا، كما يليق ببابٍ نادر الاستخدام.
“سيّد بليك، اسمعني…… هل أنت هنا؟”
فتحت الباب.
لسعت رقائق الثلج الباردة بشرتها بحدّة.
كانت العاصفة شديدة إلى حدّ أنّها لم تكن ترى ما يبعد عنها بضعة أمتار فقط، لكنّ ليلي لمحَت آثارًا واضحة على الثلج.
‘إنّها آثار أقدام. أكبر بكثير من قدميّ… لا بدّ أنّها آثار بليك.’
لم تكن تملك عيني صقر مثل خدم القلعة، ومع ذلك بدت آثار الأقدام، شبه المدفونة في الثلج، واضحة على نحوٍ غريب.
تذكّرت كلام جيانا.
— “تذكّري، سيّدتي، لا يجوز الخروج أثناء الرعد. الارتفاع هنا عالٍ جدًّا، والصاعقة قد تصيبكِ بسهولة. ستصيرين دجاجةً مشويّة…… لا، محترقة.”
ومع ذلك، كان بليك في الخارج، يرتجف تحت وطأة عُصاب الحرب.
كانت ليلي تعرف هذا الخوف جيّدًا.
الساعة السادسة وخمسون دقيقة مساءً.
الوقت الذي يعود فيه زوجها إلى البيت بعد سهرةٍ مع أبناء طبقته.
كانت تختبئ في الطابق الثاني، تحبس أنفاسها وتحدّق من النافذة.
— ‘هل هو ثمل اليوم أيضًا؟ هل سيرفع يده عليّ؟’
إن بدا زوجها مخمورًا عند عودته، كانت يداها ترتجفان رعبًا.
ومع كلّ خطوة يصعدها على السلّم، كان قلبها يخفق.
طَبَق… خَطو… خَفْق.
“سيّد بليك……!”
دخلت ليلي دون تردّد في قلب العاصفة، تبحث عنه.
لكن بعد عشرات الثواني، ابتلعت الثلوج آثار قدميه تمامًا.
وفي لمح البصر، وجدت نفسها محاصرة في عاصفة لا ترى فيها شيئًا.
لم ترَ طريق العودة، لكنّها أجبرت نفسها على الهدوء.
‘لا يزال لديّ بضع دقائق قبل أن تختفي آثار قدميّ. لم أبتعد كثيرًا، لن أضيع. اهدئي، ليلي هيدويك.’
على الأقل… كان هذا أقلّ رعبًا من الجلوس على مائدة عشاء بين أعضاء مجلس الشيوخ.
تابعت السير ببطء.
وحين بدأت تشعر بألمٍ لاذع في وجنتيها من شدّة البرد، ظهر أمامها بيتٌ صغير.
كان ملجأً مؤقّتًا للصيّادين…… وبدا أنّ فيه ضوءًا خافتًا.
“أيّها الموجود بالداخل.”
طرقت الباب.
وكان بليك هناك فعلًا.
“……آنسة؟”
كان متكوّرًا في الزاوية، كذئبٍ جريح.
شعره الأسود، الذي اعتاد أن يبدو مرتبًا، كان فوضويًّا، وبعض الخصلات وخزت عينيه.
وبصوتٍ قاتم، تمتم بليك، وقد بدا بعيدًا عن وعيه:
“هذا جنون. الخروج في هذا الطقس انتحار. عودي فورًا قبل أن تزداد العاصفة.”
“لا أستطيع تركك هنا. هل أنت بخير؟”
كذب بليك:
“ما الذي تقولينه؟ أنا هنا لقضاء شأنٍ ما فقط.”
والحقيقة أنّه كان قد لجأ إلى هنا بعد أن باغته الرعد أثناء مروره بالإسطبل.
“كُفّي عن التدخّل، واهتمّي بنفسك…….”
وفي تلك اللحظة، دوّى الرعد قريبًا.
تجمّد بليك، وعاد إلى ذاكرته صوت إطلاق النار في ساحة المعركة.
رغم مرور سنوات على خروجه من الحرب، كان روحه ما تزال تقاتل.
شعر وكأنّه لا بدّ أن يمزّق أحدًا يرتدي زيّ العدو كي يزول هذا الرعب.
“سأدخل، سيّد بليك.”
مدّت ليلي يدها بثبات نحو مقبض الباب.
أراد بليك منعها، لكنّه لم يكن يملك القوّة حتّى للنهوض.
لم يكن الباب مُغلقًا بإحكام.
‘تبًّا… لا أريد رؤية أحد الآن.’
لمست ليلي المزلاج.
طَق.
أغمض بليك عينيه بقوّة، لكنّ المفاجأة أنّها لم تستطع فتح الباب.
“هاه؟ لماذا لا يفتح؟”
كان المقبض معقّدًا، مختلفًا تمامًا عمّا اعتادته في العاصمة.
وفوق ذلك، لم تكن معتادة على فتح الأبواب بنفسها.
وبعد عدّة محاولات فاشلة، شعر بليك فجأة بالفراغ.
‘سخيف… الخوف تبخّر بهذه السهولة.’
عاد إليه بعض الاتّزان، فنهض وفتح الباب بنفسه.
“شكرًا لك…… يبدو أنّ المقبض معطّل.”
“المقبض بحالة ممتازة. المعطّل هو من يحاول فتحه.”
تجاهلت ليلي مزاحه القاسي، ونظرت حولها.
كان المكان صغيرًا جدًّا، بالكاد يتّسع لشخصين.
مصباح زيت ضعيف، وفراش قديم لا غير.
“الدخول إلى الداخل لا يجعله أكثر دفئًا، أليس كذلك؟”
“هذا ملجأ للاستراحة المؤقّتة عند سوء الطقس. لا يوجد نظام تدفئة. فلماذا أتيتِ أصلًا؟”
“ضللتُ الطريق.”
كانت كذبةً بيضاء. بدل أن تقول: جئت لأنّني كنت خائفة عليك.
“همف.”
ضحك بليك بسخرية؛ كان قد فهم الحقيقة.
وعزم أن يكلّف أحد الخدم بالأعمال الشاقّة بسبب إفشاء سره.
“ارتاحي قليلًا ثم عودي.”
ألقى عليها بطّانية مهترئة، وجلس هو في الزاوية.
ظلّ الرعد يدور حولهما.
وبعد أن هدأ قليلًا، عاد بليك إلى الصمت، يلهث بصعوبة.
قلقت ليلي.
“سيّد بليك؟”
“……ماذا.”
كان يتحدّث بالكاد.
“هل أنت بخير؟ أعلم أنّك ستقول إنّك بخير رغم أنّك لا تبدو كذلك، لكنّي سألت على أيّ حال.”
“متنبّئة.”
“تعال إلى هنا، أيّها المستبد.”
رفعت ليلي بطّانيتها ولفّتها حول رأس بليك، واحتوته.
صار في وضعٍ نصف مستلقٍ، ولم يستطع المقاومة.
“لستُ رضيعًا…….”
كانا قريبين بما يكفي ليستشعرا أنفاس بعضهما.
رائحة ليلي الحلوة كالخوخ، ورائحة بليك الثقيلة.
اختلطت روائح لا يُعرف لمن تعود، لكنها كانت فاتنة.
لم تركّز ليلي إلّا على تهدئته، وحين لاحظت تحسّن حالته، شعرت بالرضا.
“أليس أفضل الآن؟ عناق البشر أدفأ من الأشياء الجامدة. سماع نبض قلبٍ هادئ يطمئن المرء.”
أراد بليك أن يسخر قائلًا: تتحدّثين وكأنّكِ جرّبتِ هذا من قبل.
لكنّه لم يستطع.
كان كلّ وعيه مركّزًا عليها.
مكانٌ ضيّق، شخصان فقط، هذا القرب……
‘سأجنّ.’
كان يسمع دقّات قلبها، بل ونبض عروقها.
وشعر بشعرها يلامس خدّه.
ضحك بسخرية من نفسه.
لو علمت ليلي بما يدور في رأسه، لهربت فورًا.
احتقر نفسه.
كيف يجرؤ على الشعور بهذا تجاه امرأةٍ هربت من زوجٍ عنيف؟
‘هذا بسبب ارتباك ذكريات الطفولة فقط. لا أكثر.’
ثم سألت ليلي:
“كيف انتهى بك الأمر في الحرب؟”
كان سؤالًا حسّاسًا، لكنّه رحّب به.
احتاج إلى تشتيت ذهنه.
“أردتُ الهروب من القلعة. بعد وفاة والدي قبل خمس سنوات، لم أعد أثق بأحد. تبًّا له… كيف يموت مسمومًا في وسط البيت؟”
“إذًا القاتل…….”
“نعم. ظننتُ أنّه أحد الخدم. كان شعور الخيانة قاتلًا.”
كان يتحدّث، لكنّ لمساتها اللطيفة شتّتته.
كانت مختلفة تمامًا عن يديه الخشنتين.
لو وضعها في فمه، لكانت كقطعة سكّر ملوّن.
استعاد وعيه وأكمل:
“……ربّما لا تعلمين، لكنّ روابط أهل الدوقيّة قويّة. لسنا كأبناء العاصمة الذين يبيعون أصدقاءهم ببضع عملات.”
“لا تشتم.”
“كحّ… كنّا نؤمن أنّنا درع بعضنا. ثم قُتل والدي على يد خادم. أردتُ الهروب من القلعة… من الدوقيّة… فذهبتُ إلى الحرب. قتلتُ القراصنة، ودافعتُ عن الحدود.”
دوّى الرعد مجدّدًا.
شعر بليك أنّ ابتعاده عن عناقها رحمة.
“مع الوقت، صفا ذهني. لم يكن خطأ أحدٍ منّا. لا بدّ أنّ جهةً خارجيّة، قذرة وسريّة، كانت وراء الأمر. ما إن أدركتُ ذلك، عدتُ إلى القلعة.”
“إذًا، أنتَ ما زلتَ تثق بالخدم.”
“ليس ثقةً عمياء. استخدمتُ وسائل أخرى. تحرّيت عن الجميع بدقّة.”
ابتسم بليك ابتسامةً غريبة، نصفها مزاح ونصفها جدّ.
“رغم براءتهم، بقي قلبي مثقلًا. لذلك أتجنّب تناول الطعام في قاعة الطعام. يذكّرني بوالدي.”
من النافذة الصغيرة، بدا أنّ الثلج يخفّ.
وتوقّف الرعد.
“لنعد إلى القلعة.”
“ربّما.”
وحين همّت ليلي بالوقوف—
أمسك بليك بذراعها.
تلاقى نظرهما.
“……”
“……”
شعرت ليلي أنّ الهواء بينهما صار ساخنًا فجأة.
أنفاس… أم شيء آخر؟
حاولت الابتعاد، لكنّها لم تستطع.
كان بليك قد لفّ ذراعه حول خصرها النحيل تحت البطّانية.
“أنتِ شجاعة.”
صوته المنخفض جعل جسدها يرتجف.
“قلتُ إنّ المطلّقة تُعدّ آنسة، أليس كذلك؟”
اقترب جلده البرونزي من وجهها الأبيض.
ابتسم بليك ابتسامةً تشبه ابتسامة خارجٍ عن القانون.
—
المترجمة:«Яєяє✨»
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 12"