الفصل الحادي عشر
كانت ليلي والمساعد إيل يسيران على الطريق المؤدّي إلى خارج القلعة الشتوية، يتبادلان الحديث.
وكان هناك رجلٌ يراقبهما.
بليك.
“……”
كان يبدو هادئًا، لكنّ نظراته كانت تتّقد.
لم تعجبه الحالة، فوضع ذقنه على كفّه الكبيرة، بينما مالت شفتاه بانزعاج.
لم يُرِد الاعتراف، لكنّه كان يغار بوضوح.
‘ليلي هيدويك، هذا غير مقبول. كيف تتبادلين الأحاديث الخفيفة مع رجلٍ آخر أمامي؟ هذا مثير للسخرية.’
وما إن خطرت الفكرة، حتّى تبعها سؤال.
‘لحظة… لماذا؟’
لأنّ… لأنّ…….
— لأنّها وعدت.
لم يكن الصوت صوته.
بل صوت بليك الصغير، يقف في ركنٍ من الذاكرة بوجهٍ عابس.
— هي وعدتني.
‘أيّ وعد؟’
— قالت إنّها ستتزوّجني. عقدنا الخنصرين، وغنّينا أغنية الأطفال أيضًا.
اختفى الطفل فجأة، كما لو كان طيفًا، وبقي الرجل وحده، محبوسًا في صدمةٍ صامتة.
‘ماذا؟’
هل هو وهم… أم حقيقة؟
وفيما كان عاجزًا عن التمييز—
كانت ليلي وإيل، دون أن يدرِيا، يمشيان بودّ على طريق الجبال الثلجية.
“سيّد إيل؟ هل تمتمتَ بشيءٍ للتوّ؟”
“لا شيء.”
بدلًا من أن يقول: الخادمات لن يقبلن غيابكِ عن المأدبة، اكتفى إيل بهزّ كتفيه وفتح موضوعًا آخر.
“هل تعلمين أنّ عدد من يعيشون حاليًّا في القلعة لا يبلغ عُشر العدد الكليّ؟ معظمهم يعملون خارجها.”
“يا إلهي، كنتُ أظنّها صغيرة، فإذا بها تخفي سرًّا كهذا.”
واصلوا الحديث.
عن أنّ القلعة ستصبح أكثر صخبًا كلّما اقترب موعد المأدبة.
وعن أنّ الفرسان نادرًا ما يمكثون في القلعة.
“ولِمَ يقيم الفرسان أسفل الجبال؟”
“لأنّ الوحوش تبحث عن المناطق التي يتوافر فيها الأكسجين. كما أنّ القتال هناك أسهل… يمكن استخدام البنادق.”
“وهل لا تُستعمل البنادق هنا؟ الآن وقد ذكرتَ ذلك، لم أرَ واحدة في القلعة.”
كان إيل يقلّد حركة التصويب، ثم توقّف فجأة.
بدا مرتبكًا، كأنّه قال ما لا ينبغي قوله.
“آه… أم… كما تعلمين، البنادق أدوات صعبة الاستخدام. لم تُطوَّر منذ زمنٍ طويل، وهي ثقيلة، وسهلة الكسر. الفأس أفضل بكثير.”
“لكنّكم تستخدمونها أسفل الجبل.”
“فقط في مناطق محدّدة يمكن فيها فحص السلاح باستمرار…… أرجوكِ لا تسألي أكثر. يجب أن أذهب الآن!”
تركها إيل على عجل، واتّجه نحو أسفل الجبل.
‘هل هناك سببٌ خاص يمنع استخدام البنادق داخل القلعة؟’
كانت ليلي عائدة وحدها حين رأت بليك يخرج قرب البوّابة.
“مرحبًا. مرّ وقت طويل، أليس كذلك؟ ساعة كاملة منذ التقينا في قاعة الطابق الأوّل هذا الصباح، بعد أن غضبتَ.”
كان بليك يقطّب حاجبيه كلّما التقاها في الأيّام الماضية.
داعبته ليلي قليلًا، ثم دخلت في صلب الموضوع:
“هل لديكَ مشوارٌ خارج القلعة أيضًا؟”
“……يمكن قول ذلك.”
لم يفهم بليك نفسه.
لماذا خرج من غرفة عمله أصلًا؟
هل وعدته ليلي هيدويك فعلًا بالزواج؟
كان منبوذًا بوصفه برابريًّا، فكيف يعقَل ذلك؟
وحتّى لو التقيا في الطفولة، فلا بدّ أنّه كان لقاءً عابرًا.
كان يزور العاصمة مرّاتٍ معدودة في السنة لا تُحصى على أصابع اليد.
“متى وعدتِ زوجكِ بالزواج؟”
خرج السؤال فجأة من فم بليك.
“همم… جرى الحديث، ثم أُقيم الزفاف فورًا، فلا أظنّه كان طويلًا. استغرق وقتًا أطول من تحضير الشاي.”
“وقبل ذلك؟ لم يكن هناك أيّ وعدٍ آخر بالزواج؟”
“بالطبع لا. فسخ الخطوبة، أو ما يشبهه، يُعدّ أمرًا سيّئًا لنساء المجتمع الراقي.”
“أعني… وعدًا شفهيًّا في الطفولة مثلًا… تبًّا، لا شيء.”
فقد بليك طاقته فجأة.
كانت الفتاة في الذكرى أصغر من خمس سنوات.
والذين يتذكّرون مثل تلك الأمور قلّة، وحتّى لو كان صحيحًا، فلا معنى له الآن.
“هل نزلتَ من القلعة فقط لتسأل هذا؟ أظنّه أكثر سؤالٍ سخيف سمعته اليوم.”
“……في الحقيقة، نزلتُ لأتفقد إن كانت دومينيك ستلد اليوم.”
“أوه! كوكو اللطيفة؟ لنذهب معًا.”
كان اسمها دومينيك، لا كوكو.
دارت عشرات الجُمل على طرف لسانه، لكنّه في النهاية لم يقل سوى:
“قلتُ إنّنا إن التقينا سنستدير ونغادر.”
كان كلامًا عابرًا.
فهو يعلم أنّه نزل لرؤيتها.
سارا معًا نحو الإسطبل.
“سمعتُ أنّ هناك مأدبة دوريّة.”
“حدثٌ سنويّ يزعجني. سأحرص على إسكات كلّ الضيوف، فلن يتسرّب خبركِ.”
ذكّرها ذلك بزوجها.
لا بدّ أنّه يرسل الرسائل في كلّ مكان بحثًا عنها، محرجًا حدّ الموت.
ومع ذلك، لم يجرؤ على إرسال أحدٍ إلى الدوقيّة.
“شكرًا لاهتمامك. لكن لا داعي لإزعاج الضيوف. سأبقى في غرفتي أثناء المأدبة.”
“……لن تحضري؟”
تذكّر بليك الخادمات.
كنّ يبحثن بجدّ عن فستانٍ جميل بين الملابس القاتمة الثقيلة.
وهمس قلبه: قد أرغب قليلًا في رؤيتها بتلك الملابس.
فأجبرها بفظاظة:
“احضري.”
“ماذا؟”
“نحن نعيش هنا طوال حياتنا. الضيوف جميعهم من أهل القلعة. لا أحد لينشر الشائعات. احضري.”
“ليس من الضروري أن—”
“لا آخذ رأي من هو أقلّ سلطةً منّي. هيا إلى دومينيك.”
تقدّم بخطواتٍ سريعة.
“لا أحد يردعك سوى الأسرة الإمبراطوريّة.”
لم تكن ليلي تمانع رؤية مأدبة الدوقيّة.
تنهدت وقالت بتردّد:
“سأفكّر في الأمر.”
ثم عاد الحديث إلى الفرس الحامل.
كانت ليلي مقتنعة تمامًا بأنّ اسم كوكو ألطف.
“لو وُلد كوكو الثاني قبل المأدبة، لكان جميلًا. نحمله ونُريه المكان.”
“دومينيك الثاني سيكون حصان حرب. لا تُدلّليه.”
“يبدو أنّ فلسفتنا في التربية مختلفة. حسنًا أنّنا غرباء.”
تجمّد بليك عند كلماتها.
“أجل… حسنًا فعلًا—”
ثم سألت ليلي بلا تفكير:
“لماذا تُحظَر البنادق هنا، أيّها المستبد؟”
كانت مزحة.
لكن ردّ فعله كان عنيفًا.
كأنّها اتّهمته بقتل والديه.
“أين سمعتِ هذا؟”
كان صوته منخفضًا أصلًا، والآن صار قاتلًا.
“لو ذكرتُ اسمًا، أشعر أنّك ستقتل صاحبه فورًا.”
“إيل ديكستر.”
“إلى أين تذهب؟ لا! ماذا لو لامني؟!”
“لا بأس. الموتى لا يتكلّمون.”
لم يكن يمزح.
رفعت ليلي كتفيها وهي تراقبه يلاحق إيل.
“وقعتُ في ورطة.”
—
في النهاية، لم يحدث شيء.
سوى أنّ إيل أمسك بليلي باكيًا تقريبًا وهو يسألها لماذا سألت ذلك.
وسوى أنّ بليك صار يتجنّبها بوضوح أكبر.
“صباح الخير، سيّد بليك.”
“……”
“حسنًا. صباح سيّئ، سيّد بليك. كنتَ تحاول الهرب من الباب الخلفي، أليس كذلك؟ لأنّك تعرف أنّني أقضي وقتي قرب المدخل. لطيف.”
لكنّه رحل دون كلمة.
“أشعر كأنّني صرتُ غير مرئيّة.”
اشتكت ليلي لجيانا.
ضحكت جيانا بصوتٍ عالٍ.
“يبدو أنّ سيّدنا أصبح غريب الأطوار. اطمئني، سيعود لطبيعته خلال أيّام.”
“لماذا أصبحت كلمة ‘بندقيّة’ محرّمة في القلعة؟”
“لا أعرف! لا أسمع شيئًا!”
حتّى جيانا، التي كادت تُشعل ثورةً لأجلها، كانت هكذا.
زاد فضول ليلي.
ثم وقع الحدث الذي كشف كلّ شيء.
“هكذا يبدو الرعد في الجبال.”
نظرت ليلي إلى السماء السوداء من النافذة.
“عاصفة ثلجيّة مع رعد… لها سحرها، أليس كذلك؟ يا جيانا؟ ……جيانا؟”
اختفت الخادمة.
نزلت ليلي إلى القاعة.
كان الخدم يتحرّكون بقلق.
“لم يجد أحد السيّد؟ هل خرج لتفقد الخيول؟”
“لا آثار عند البوّابة الأماميّة. لكن إن استمرّ الثلج، ستُمحى قريبًا.”
“هذا خطير.”
تدخّلت ليلي:
“هل أصاب بليك شيء؟”
“يا إلهي، سيّدتي ليلي.”
أصرّت بنظراتها.
وفي النهاية، اعترفوا:
“خسر سيّدنا والده الوحيد قبل خمس سنوات.”
“أعلم. ورث اللقب حينها.”
“كانت جريمة قتلٍ بلا فاعل. وبعدها، تاه سيّدنا في ساحات القتال حتّى أصيب بعُصاب الحرب.”
اليوم يُسمّى ذلك إضطراب ما بعد الصدمة.
لكن في هذا الزمن، كان يُدعى عُصاب الحرب.
“لا يحتمل الأصوات العالية.”
وفهمت ليلي أخيرًا.
“مثل الرعد… أو طلقات البنادق.”
“بالضبط. رجاءً لا تخبريه. يريد إخفاء الأمر. في العاصمة يسخرون من هذه الأعراض ويعدّونها ضعفًا. ونحن لا نحتمل إهانتهم.”
اندفعت ليلي فورًا إلى الباب الخلفي.
كانت تعرف.
بليك صار يستخدمه سرًّا مؤخرًا.
المترجمة:«Яєяє✨»
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 11"