الفصل الأوّل
“مولاي. هناك امرأة تتحدّث بلهجة النبلاء، وتقول إنّها يجب أن تراك، وهي تطرق الباب.”
“هذا غير ممكن.”
وبصوتٍ منخفض، وبّخ الرجلُ مخاطِبه.
كانت القلعة قائمةً في قلب سلسلة جبالٍ متراكبة، وسط قممٍ ثلجية لا تذوب أبدًا.
وكان داخلها مظلمًا بألوانٍ كئيبة.
وأيّ غريبٍ أراد الوصول إلى هذا المكان، كان عليه أن يحجز موعدًا قبل شهرٍ كامل، ويستعدّ استعدادًا تامًّا.
وفي الأزمنة الماضية، حتّى من فعل ذلك… مات نصف الزوّار متجمّدين في الطريق.
“لا يوجد أيّ موعد.”
“وهذا ما حيّرني أيضًا… لكنّها ذكرت اسمك صراحة. قالت إنّها جاءت لمقابلة دوق بليك أوفوس.”
أعاد بليك النظر إلى التقويم الصغير الموضوع على مكتبه المصنوع من خشب الماهوغاني. لم يكن هناك أيّ زائرٍ متوقَّع.
“سأخرج بنفسي.”
وأخيرًا، نهض من مقعده في غرفة العمل. جسده، الذي يفوق متوسّط الطول بكثير، شقّ الممرّ القاحل بخطواتٍ ثابتة.
ليلٌ مظلم.
على المرآة التي تشغل جدارًا كاملًا، انعكس خطّ فكّه العريض، وعنقه المليء بعروقٍ بارزة.
بشرته الداكنة، وكلّ ملامحه، كانت ذكوريّةً فطريّة.
ومع ذلك، كان الناس يتجنّبون بليك.
فبليك أوفوس هو سليل البرابرة.
وكانت الدوقيّة بأكملها، في الماضي، مملكةً لقبائل البرابرة.
ولهذا، فإنّ عدد الغرباء الذين يزورون قلعة أوفوس كان ضئيلًا للغاية.
‘أيّ نبيلٍ مجنون هذا الذي جاء إلى هنا؟ الاحتمال الأكبر أنّه شبح.’
وبينما يسخر في داخله، وصل أخيرًا إلى البوّابة الرئيسيّة.
رغم أنّه اجتاز القلعة الضخمة كاملةً، لم يلهث حتّى.
تجاوز الخدم، وفتح الباب بنفسه بيده الغليظة.
صرخ المعدن المتجمّد من شدّة البرودة.
وخلف الباب… وعلى امتداد السهل المغطّى بالثلج في ظلام الليل—
“……من أنتِ؟”
اضطرّ بليك للاعتراف بحقيقةٍ لم يكن يتوقّعها.
كانت امرأة تقف هناك.
امرأة وحيدة، تحمل مصباحًا، في هذا الارتفاع الثلجي الشاهق.
كان شعرها بلونٍ قريب من الأبيض، بلاتينيًّا، لكن قبّعة الفرو الكثيفة أخفته جزئيًّا.
وشاحها غطّى نصف وجهها الصغير.
العينان الظاهرتان كانتا زرقاوين.
ولم يكن فيهما أيّ خوفٍ أو تردّد تجاهه.
كان لونهما أشبه بأمواج جزيرةٍ مهجورة.
لا يمتّ هذا اللون بأيّ صلة لهذه الجبال الثلجية.
أمرٌ مضحك.
‘لكن… لماذا أشعر أنّ هذه المرأة مألوفة؟’
شعورٌ غريب بالألفة تسلّل إليه.
لا يُعقل أن تكون نبيلةٌ متصنّعة قريبةً من شخصٍ مثله، هو الذي يُعدّ برابريًّا في نظر الإمبراطوريّة.
“ما الذي جاء بكِ؟”
سألها بلهجةٍ جافّة.
“لديّ أمرٌ أقصده.”
لكن لهجتها—
كانت لهجة الطبقة العليا.
نقيضةً تمامًا لطبيعته الخشنة، وكأنّها تربّت على التعليم الراقي منذ ولادتها.
مسافةٌ اجتماعيّة لم يكن من المفترض أن تلتقي أبدًا.
ومع ذلك… كلّ شيءٍ فيها بدا مألوفًا له على نحوٍ مريب.
من تكون؟
“……على كلّ حال، لا بدّ أنّكِ لم تطرقي باب قلعة شخصٍ غريب دون سبب. خاصّةً بعد تسلّق جبلٍ ثلجيّ.”
واضحٌ أنّها كانت تعلم أنّ هذه الأرض شتاءٌ دائم.
فقد بدا أنّها ترتدي طبقاتٍ عدّة من التنّورات.
وأشار بليك بلهجةٍ غير لطيفة إطلاقًا:
“هذا اللباس غير مناسبٍ لتسلّق الجبال الثلجية. بعد النزول من العربة، عليكِ المشي ثلاثين دقيقة إضافيّة. كم استغرقكِ الوصول؟”
تنفّست المرأة بعمق.
“كما توقّعتُ. هذا التنّور اللعين تجمّد، فكانت قدماي تتعثّران باستمرار. استعنتُ بالسحر، ومع ذلك استغرق الأمر ساعتين.”
ثم أنزلت وشاحها.
وانكشف وجهٌ لا يُنسى.
وجهٌ لو رآه أحد مرّة، لما استطاع نسيانه.
شعر بلاتينيّ، عينان زرقاوان، وملامح ناعمة تشبه جروًا بريئًا.
وجهٌ صغير، متناسق على نحوٍ مذهل.
قطّب بليك حاجبيه.
كان شيءٌ ما على وشك أن يتذكّره.
“ما اسمكِ؟”
“ليلي هيدويك.”
كان الاسم مشهورًا.
زهرة المجتمع الراقي.
يُقال إنّ أيّ رجلٍ سيكون مستعدًّا للتضحية بذراعٍ واحدة فقط ليُتاح له مواعدتها.
‘لو كانت امرأةٌ بهذه الشهرة على صلةٍ بي، لما نسيتُ ذلك أبدًا.’
فكّر بليك.
“هل سبق أن التقينا؟”
“لا أعلم إن كنتَ تتذكّر. قبل خمس سنوات. في الحفل الخيري الذي نظمته الآنسة روز جيفري لأجل أيتام الحرب. كنّا من الحضور، فلا بدّ أنّنا التقينا.”
لا.
لم يكن شعوره بالألفة بسبب حادثٍ تافه كهذا.
بل… لعلّه أقدم بكثير.
“غير ذلك؟”
“لا… أظنّ؟”
مالت ليلي برأسها، بينما تساقط الثلج خلفها.
بالنسبة لها، كان بليك مجرّد غريب.
“على أيّ حال، في ذلك الحفل. والدك سكب نبيذًا عمره خمسون عامًا على فستاني.”
“لا بدّ أنّ ذلك جذب الأنظار.”
برابريّ وقح يحرج نبيلة جميلة—من الطبيعي أن يصبح حديث الجميع.
“اعتذر والدك بشدّة.”
“ثم؟”
“ثم وعدني. أقسم باسم العائلة أنّه سيُلبّي لي طلبًا واحدًا، أيًّا كان.”
تذكّرت ليلي تلك الليلة.
رجلٌ في منتصف العمر، ذو بشرةٍ نحاسيّة، أراق النبيذ وتصرّف بطيش.
لكن ليلي لم تهتمّ كثيرًا بكونه يُعامل كبرابريّ.
وعندما تجاوزت الأمر ببساطة، أظهر والد بليك ودًّا كبيرًا.
ضحك بصوتٍ عالٍ وقال:
— لا يمكن أن أترك هذا يمرّ! باسم العائلة، سألبّي طلبكِ أيًّا كان! قد لا نملك الشرف، لكن لدينا المال!
واليوم، بعد خمس سنوات، جاءت ليلي لتطالب بذلك الوعد.
“كنتَ حاضرًا آنذاك، أليس كذلك يا سيّد بليك؟ أرجوك نفّذ وعد العائلة. اسمح لي بالبقاء في هذا القصر. وإن أمكن… لفترةٍ طويلة.”
أصاب بليك صداع.
كانت مألوفة… نعم.
لكنّه في الحقيقة لا يعرفها.
“لا. أرفض.”
“حتّى لو لم يكن وعدك الشخصيّ، فقد كان وعد والدك باسم العائلة. وليس طلبًا صعبًا، أليس كذلك؟”
شعر بليك برغبةٍ في تلقين هذه الفتاة الوقحة درسًا.
“هذه قلعة يحكمها رجلٌ واحد. إن بقيتِ هنا، ستبدأ الشائعات. سيُقال إنّني برابريّ خطر. أليس من الأفضل أن تقلقي على سمعتكِ أنتِ؟”
لكن ليلي لم تتردّد.
نزعت قفّازها المصنوع من جلد الفقمة.
احمرّ إصبعها البنصر تدريجيًّا من شدّة البرد.
“……ماذا تفعلين؟”
“انظر إلى البنصر. أثر خاتم الزواج واضح، أليس كذلك؟ تزوّجتُ العام الماضي.”
“إذًا تعترضين على كلمة آنسة؟ كنتُ أقلق على سمعتكِ.”
“لا تقلق. أنا مطلّقة. وهربتُ ولم أترك سوى وثيقة الطلاق. السمعة ليست أهمّ من الحياة. أحتاج مكانًا نائيًا لا يعثر عليّ فيه طليقي.”
وهنا فقط فهم بليك.
لم يكن هناك مكانٌ أفضل من هذه القلعة.
كره فهمه للأمر.
“……هاه.”
“حسنًا.”
استسلم.
“ادخلي. لكن لا تشتكي من قسوة المكان. هنا، قواعد البقاء أهمّ من آداب السلوك.”
ابتسمت ليلي بامتنان.
“وإن احتجتَ يدًا عاملة، يمكنني المساعدة. بل هذا ما أتمناه.”
وعندما تنحّى بليك، دخلت ليلي مسرعة.
رغم طبقات ملابسها، كان الفرق بين جسديهما واضحًا.
“انتظري.”
لاحظ بليك أنّها تعرج قليلًا.
كانت قدماها متجمّدتين بوضوح، ومع ذلك لم تطلب المساعدة.
استشاط غضبًا بلا سبب.
لماذا لا تقول إنّها تتألّم؟
هل تظنّه بلا قلب؟
فحملها فجأة تحت ذراعه ككيسٍ من الخيش.
“……!”
شعورٌ غريب.
كأنّه يعرفها منذ زمنٍ طويل.
“سنبدأ بحمّامٍ ساخن. إن لم ترغبي ببتر ساقكِ صباح الغد.”
“حمّام؟ خيارٌ ممتاز.”
كانت ليلي تتدلّى من ذراعه وتضحك بخفّة.
وتساءل بليك:
كيف يمكنه أن يُفزع هذه المرأة؟
ومع ذلك، شقّ الممرّ وهو يحملها بلا عناء.
“مولاي… ما الذي يحدث؟!”
وصلوا إلى غرفة الاستحمام وسط ذهول الخدم.
“حضّروا حمّامًا. سأغسل هذه السيّدة بنفسي.”
قالها بنبرةٍ لاذعة، وكأنّ غضبه لم يهدأ بعد.
المترجمة:«Яєяє✨»
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 1"