توقف ريتشارد عند بقعة معزولة على ضفة البحيرة، لطالما اعتاد زيارتها قبل أن يغادر إلى غرينتابريدج. سباستيان، وكأنه كان يتوقع ذلك، فرش قطعة قماش نظيفة قرب حافة الماء.
“كيف يبدو لك الأمر وأنت تعود إلى ليدون بعد كل هذا الوقت؟”
“…”
“لا شيء تغيّر هنا. ربما لأن لا أحد يهتم بالمكان.”
جلس سباستيان على القماش الأبيض، ناظراً حوله كما لو كان عجوزاً يستعيد ذكريات شبابه الضائع. ثم وقعت عيناه على ريتشارد سبنسر، الجالس على ضفة البحيرة كأنه لوحة، فقال:
كانت حبات الكرز غير الناضجة تتساقط حول رأس ريتشارد بطرقات خفيفة. تتمايل الأغصان الكثيفة برقة في مهب الريح، وتلقي بظلال كشبكة تتبدّل مع تخلل ضوء الشمس.
كان المشهد يذكّره بتشيري هينتون في غرينتابريدج: الماء، وأشجار الكرز، ونرجسيّ، و…
“من الأفضل ألا يعتني أحد بهذا المكان. أكثر هدوءاً دون تدخلات.”
“سيدي الشاب، ذوقك حقاً فريد من نوعه.”
قالها سباستيان بصدق. من كان يظن أن ريتشارد سبنسر، الذي يدقق في أصغر تجعيدة في ملابسه، ولون ملابسه الداخلية، وكل خصلة في شعره، يستمتع سراً بسكونات جافة ورخيصة وبشاطئ مهمل وممتلئ بالأعشاب؟
“بالمناسبة، سيدي الشاب…”
وبينما كان يقضم قطعة كبيرة من السكُون، طرح سباستيان سؤالاً وكأنما تذكره للتو، رغم أن اصطناعه للعفوية كان واضحاً جداً.
“تلك المرأة، التي يُفترض أن تصبح الابنة بالتبني للسيدة مونتاجو… كيف وجدتها حين التقيت بها شخصياً؟”
“…”
“هم؟ ما رأيك بها؟”
“…”
رفع ريتشارد حاجبه الأيمن قليلاً، وتوقف قبل أن يجيب. رؤية سباستيان بذلك الوجه المليء بالفضول أزعجته، ولم يرَ أي داعٍ للتسرع في الرد. كان ذلك عقاباً بسيطاً على مقاطعته لتأملات الإيرل الشاب الرصينة.
“هل بدت ماكرة ومخادعة؟”
“مخادعة…”
ردد ريتشارد الكلمة، واستحضر صوت غريس غيرتون، المتردد والبطيء، كقطرات ماء تتساقط واحدة تلو الأخرى.
كان الانطباع الأول الذي تركته هو تلعثمها.
“لـ-لا أصدق أنني ألتقي بك هكذا… إنّه لِـحُـلـم تحقق.”
“أنا… أنا كثيراً ما ذهبتُ لأشاهد مباريات الرجبي في غرينتابريدج… لرؤيتك، أيها الإيرل الشاب.”
“ن-نعم. فـ-في الواقع، كنتُ واحدة منهم… أ-أعجبت بك حقاً.”
ولهذا السبب، تلاشت فوراً أي سمات أخرى فيها—عيناها غير المتطابقتان الغامضتان، ملامحها الدقيقة والواضحة، شعرها الكستنائي اللامع، جسدها الصغير، وبشرتها الوردية النضرة.
هكذا هي العيوب.
مهما بلغت محاسنك، عيبٌ واحدٌ حاسم قد يطغى على كل شيء.
حتى وإن كان للوردة عشرات البتلات المثالية، فسيلاحظ الناس أولاً البتلة الوحيدة التي أكلتها الحشرات. سيصفونها بالزهرة المعيبة ويمضون دون تردد.
للأسف، هذه هي الحقيقة. ولهذا، من الحكمة إخفاء العيوب قدر الإمكان. وقد كان هذا من مبادئ ريتشارد سبنسر الثابتة.
عيوب غريس كانت اثنين: مكانتها، وطريقة كلامها.
السيدة تُصنع بصبر. تولد في عائلة جيدة، وتتلقى تعليماً مناسباً، وتشارك في أنشطة اجتماعية راقية مع من هم من طبقتها. عندها فقط تصبح سيدة بحق.
أما غريس غيرتون، ابنة آنابيل غيرتون—الشخصية المعروفة في دوائر ليدون الاجتماعية—والتي تربّت في كنف شارلز دودجسون الغريب الأطوار من غرينتابريدج، فلم يكن بوسعها أن تفهم حقائق العالم القاسية. ولهذا كانت تتكلم دون تفكير، ودون غربلة لما تقول.
المكانة أمر حاسم. فهي تشكل بيئة الإنسان، وهذه البيئة تشكل الشخص نفسه. لو وُلدت غريس غيرتون في عائلة مرموقة، لما كانت تصرفت بتلك الاندفاعية.
المكانة أيضاً تغطي على كثير من العيوب. فلو لم تولد ماري مونتاجو في عائلة سبنسر، لما تقبل أحد شخصيتها الحرة الغريبة.
وبالمثل، لو كانت غريس من عائلة مرموقة، لربما وصف الناس تهورها بأنه حيوية واندفاع شبابي. قد يبدو الأمر ظالماً، لكنه يوضح حدود السلطة التي يمنحها الوضع الاجتماعي.
وبناءً على المكانة وحدها، يمكن اعتبار غريس غيرتون أدنى من غالبية العامة. ولم يكن الأمر في مكانتها فحسب، بل في التدمير الساحق الذي حمله اسم “آنابيل غيرتون”.
ثم هناك مشكلتها الأكبر: كلامها المتلعثم والمتردد. وهذه قد تكون عيباً أشدّ فداحة. فرغم أن التبني من قبل السيدة مونتاجو قد يُصلح وضعها الاجتماعي، فإن إصلاح طريقتها في الكلام سيكون مهمة شبه مستحيلة.
“لماذا لا تقول شيئاً؟ أنا أشتعل فضولاً!”
بدأ سباستيان يضايقه بصبر طفل لا يطيق الانتظار.
“سباستيان، هل تعرف من هي والدة تلك المرأة؟”
“هاه؟ كيف لي أن أعرف؟”
“إنها آنابيل غيرتون.”
“من؟”
“كان اسمها قبل الزواج آنابيل لوفلايس.”
آنابيل لوفلايس. آنابيل لوفلايس. ردد سباستيان الاسم مراراً، حتى اتسعت عيناه بصدمة.
“آنابيل لوفلايس؟ تلك الشابة؟”
الصدمة والرعب. هذا ما كان يشعر به سباستيان بدقة.
“نعم.”
أجاب ريتشارد وهو يفرك صدغه الأيسر. لم يلم سباستيان على رد فعله المسرحي.
“لماذا ابنتها هنا؟ حسب علمي، غادرت إنغرينت منذ زمن ولم تعد.”
“لقد ماتت.”
“وذاك الرجل… الذي غادرت معه؟”
“مات أيضاً.”
شهق سباستيان وسكت. إن صحّ هذا، فحالما تصبح تلك المرأة ابنة بالتبني للسيدة مونتاجو، فإن دوائر ليدون الاجتماعية ستنقلب رأساً على عقب. يا له من تطور فاضح… وممتع!
“ثم؟ ما التالي؟ أخبرني!”
ضغط سباستيان متحمساً، تكاد عيناه تُشعلان الأشجار من حولهما.
فسباستيان كان بطبعه فضولياً، ونهمه للنميمة لا يُروى. كان يجد متعة لا نهائية في تقصّي مواضيع الشائعات قبل أن تنتشر.
“يبدو أن لديها مشكلة في الكلام.”
“هاه؟ ماذا تقصد؟ امرأة في التاسعة عشرة ولا تستطيع الكلام؟”
“إنها تتلعثم.”
“…”
شهق سباستيان، غير قادر على إخفاء حماسته. بدا أن هذا اليوم مليء بالمفاجآت، وكل واحدة أمتع من التي قبلها. وما أكثر لذة من الحديث عن الآخرين؟
“…إذاً، هل بدت غريبة؟ ناقصة؟ أم ربما بائسة ومثيرة للشفقة…؟”
كان سؤال سباستيان انعكاساً للتحاملات المعتادة في المجتمع. والدان بقصة مأساوية، يتيمة، ومُتلعثمة—غالباً ما تُفرض على هؤلاء صورة نمطية. ولم يكن سباستيان استثناءً.
“بائسة، مثيرة للشفقة…”
ردد ريتشارد الكلمات، وضحك ضحكة جافة. لو كانت بائسة فعلاً، لما كانت أربكته وأزعجته هكذا.
“أليست كذلك؟”
“ليست كذلك.”
“فما هي إذن؟”
هيا، قلها فحسب! تمنى سباستيان أن يمسك بياقة سيده لو لم يكن الإيرل الشاب.
“بدت… مشرقة جداً.”
“مشرقة؟”
لِمَ يمدحها فجأة؟ حدّق سباستيان في وجه ريتشارد بارتياب.
“وذلك ما يجعلها مريبة أكثر.”
ها هو ذا. ريتشارد سبنسر لا يمدح أحداً بحق. أومأ سباستيان موافقاً.
إنها ابنة آنابيل غيرتون، تتلعثم، وتبدو مشرقة. اجمع بين هذه الثلاثة، وستحصل على مزيج غريب، مريب، كـ”حصان طائر ذو قرنين”. وبالطبع، لريتشارد كل الأسباب للشك.
“متى ستُعلن السيدة مونتاجو التبني رسمياً؟”
“الإعلان الرسمي مؤجّل. على ما يبدو، قالت إنها بحاجة إلى وقت للتفكير.”
“ماذا؟ ألم تنتهز الفرصة؟”
“لا.”
“ولم لا؟”
“كيف لي أن أعلم؟ ربما أرادت أن تتمنّع قليلاً.”
مال سباستيان برأسه في حيرة. الآن أصبح لـ”الحصان الطائر ذو القرنين” أربعة أرجل فيلة. هذه المرأة الغريبة، المريبة، التي لا يمكن فهمها على الإطلاق، ما زالت تحيّره.
“شيء واحد مؤكد—ليست شخصاً عادياً.”
“…”
تجاهل ريتشارد ثرثرة سباستيان المتحمسة، وألقى نظرة إلى البحيرة تحت قدميه. كان انعكاسه يرتجف على سطح الماء المتماوج.
***
تـــرجــمــــــة: ســـاتوريــــا… ♡
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 14"