جلست غريس بهدوء في غرفتها، الواقعة في الطابق الثاني من قصر آل مونتاجو في تشيلسي. في كل مرة كانت يداها تنقبضان لا إراديًا على شكل قبضتين، كانت أقمشة فستان الحرير الأصفر الذي قدّمته لها ماري مونتاجو تصدر حفيفًا ناعمًا تحت أصابعها. كان واحدًا من عدة أثواب جُهّزت لها فور وصولها.
الغرفة التي تسكنها غريس صُممت خصيصًا لها. لم تُدرك ذلك في البداية، لكن بعد أن سمعت عرض الليدي مونتاجو وأمعنت النظر، بات واضحًا أن هذه الغرفة تختلف عن باقي الغرف في المنزل.
كانت غرفة غريس تجسيدًا مثاليًا لمساحة مخصصة لشابة يافعة: سرير مغطى بقماش أبيض رقيق من جميع الجهات، طاولة شاي صغيرة وناعمة، بيانو منتصب مطلي بألوان زاهية، وساعة جدارية مزينة بنقوش الورد—كلها أشياء كانت غريس تتخيل أن صديقاتها النبيلات يمتلكن مثلها.
بما أن آل مونتاجو لم يكن لديهما أطفال، فإن بقية المنزل كان مصممًا وفقًا لذوق الكبار، وخصوصًا من هم في منتصف العمر. الأثاث والديكور كانا يبعثان شعورًا بالثقل والجدّية. ومع ذلك، فإن الزينة الغريبة التي جمعتها الليدي ماري مونتاجو من أسفارها أضفت لمسة فريدة ومرحة على المنزل المهيب.
بدت القصر لغريس وكأنه يعكس شخصيتي اللورد أنثوني مونتاجو والليدي ماري مونتاجو. ففي ذكريات طفولتها، كان اللورد مونتاجو رجلًا مهذبًا ومتحفظًا، بينما كانت الليدي مونتاجو مرحة ومفعمة بالحياة.
قرأت غريس ذات مرة أن الأماكن تعكس سكانها. وهذا المنزل، الذي جمع بين شخصيتين متناقضتين في تناغم مثالي، كان خير دليل على تلك المقولة. غير أن غرفتها شعرت وكأنها دخيلة—مساحة لا تنتمي لهذا المكان.
في غرينتابريدج، كانت غرفة غريس صغيرة وبسيطة. لا تحوي سوى سرير ومكتب كبير، وهما القطعتان الوحيدتان من الأثاث في الغرفة. كانت تمضي نهارها في الدراسة وليلها في النوم. كانت حياتها بسيطة كغرفتها.
ورغم بساطتها، كانت تلك الغرفة تمثّل حياة غريس غوريتون، وأفكارها، وطريقتها في العيش. دافئة، متواضعة، ومريحة—تعكس جوهرها الحقيقي. أما الغرفة في قصر آل مونتاجو، فبدت وكأنها عالم غريب عنها تمامًا.
غريس، القادمة من عالم مختلف تمامًا، وجدت نفسها الآن في هذا القصر الفخم المترف، تسكن غرفة لا تشبه لا نفسها ولا محيطها. وكأنها سقطت في “بلاد العجائب”.
وكما الفتاة في “بلاد العجائب” التي شربت الشاي فجأة ثم تقلص حجمها، شعرت غريس بأنها تصغر شيئًا فشيئًا. لم يكن عرض الليدي مونتاجو مُفرحًا بقدر ما كان صادمًا، ولم يكن باعثًا على السرور بقدر ما كان مثيرًا للرهبة.
الجهل يُضعف الإنسان. والاختبار الذي قُدِّم لغريس لم يكن مسألة في الرياضيات أو الفلسفة، بل كان اختبارًا في “التبنّي”. وكأن طالبة جديدة تُمنَح فجأة امتحان تخرج لطالب في سنته الأخيرة.
“بعد مناقشات طويلة، قررنا أنا وأنثوني أن نتبناكِ كابنتنا.”
“نأمل أن تقبلي ذلك.”
كانت غريس غوريتون تقسم بأنها لم تتمنَّ مثل هذا الأمر يومًا. بل الأدق أنها لم تتخيله من الأساس.
قبل عدة أيام، تلقّت غريس رسالة من الليدي ماري مونتاجو. دعتها الرسالة إلى قصر آل مونتاجو في ليدون، وأعربت عن رغبتها في قضاء موسم الخريف الاجتماعي القادم معًا.
حين قرأ الأستاذ تشارلز دودجسون الرسالة، بقي صامتًا لفترة طويلة. حتى بعدما التقطت غريس الرسالة المجعّدة من بين يديه المنقبضتين، ترددت كثيرًا وهي تراقبه بقلق.
“…غريس.”
بعد صمت طويل، تكلّم تشارلز دودجسون أخيرًا. كان وجهه الشاحب يبدو أكثر إنهاكًا من المعتاد، كصفيحة نحاسية بهتت بفعل الزمن وكادت تذوب.
“أفضل ألا تذهبي إلى ليدون.”
كانت كلماته صادقة، نابعة من القلب. فقد كان تشارلز يعتني بغريس حقًا.
منذ سنوات، دخل تشارلز دودجسون لفترة وجيزة في عالم ليدون الاجتماعي. لم يكن من النبلاء، لكنه درس في غرينتابريدج برعاية اللورد أنثوني مونتاجو، ما اضطره أحيانًا لزيارة ليدون بناءً على طلب أنثوني.
لم يكن دودجسون يحب النبلاء. وللتعبير بدقة: كان يكرههم. كان يمقت طبقتهم الاجتماعية المتصلبة، وتفاخرهم المصطنع، وطريقتهم في الحكم على الآخرين بينما يخفون قبحهم خلف مراوح أنيقة.
ليدون كانت تجسيدًا لذلك المكان. بركانٌ يغلي بالكراهية والإقصاء، لكنه لا ينفجر.
ذلك البركان لم يكن يظهر أي إشارات للثوران، ولذا، كان يثير فضول من يجهلون خطره، فيقتربون منه بدافع الاكتشاف. لكن الحمم الهادئة، كانت تبتلعهم بسرعة وتحولهم إلى رماد.
غريس غوريتون كانت بريئة بطبعها، ومفعمة بالبهجة. رغم المصاعب التي مرت بها، ظلّت نظرتها إلى العالم دافئة ومشرقة.
كانت تندهش من السماء المتقلبة، وتحب الثمار المدورة وهي تتبرعم، وتعشق البراعم الناعمة التي تشقّ التراب. لم تكن تستطيع تجاهل طفل يبكي، أو عجوزًا يترنح تحت عبء ثقيل. كان بها شيء محبب لا يُقاوَم.
وكانت غريس غوريتون غير اعتيادية. حتى لو استثنينا أن تشارلز دودجسون هو من ربّاها على هذا النحو، فإنها تظل مختلفة عن باقي الفتيات في عمرها.
تحب الدراسة، وتتمتع بتركيز رائع، وكانت بارعة في تطبيق ما تتعلمه. لكن، ما إذا كانت تلك القدرات تُعد نعمة لامرأة تعيش في هذا العصر، فذلك أمر لا يمكن الجزم به.
ومع ذلك، كان تشارلز دودجسون يراها قدرات لا جدال في عظمتها. ولهذا، لم يُهمل تعليمها أبدًا. كان واحدًا من القلة النادرة من الرجال في ذلك الزمان الذين لا يؤمنون بأن المعرفة حكرٌ على الرجال.
ونتيجة لذلك، أصبحت غريس بارعة في الرياضيات أكثر من معظم طلاب الكلية. ولم يكن من النادر أن يطلب تشارلز دودجسون مساعدتها في أبحاثه.
بالإضافة إلى ذلك، كانت غريس غوريتون…
ابنة أنابيل غوريتون. ورغم أن الأمر لم يكن واضحًا جدًا، إلا أنها كانت تعاني من تلعثم طفيف.
الصفات المذكورة أعلاه كانت دون شك نقاط قوتها. حتى لو لم تتطابق طيبتها وذكاؤها مع الصورة المثالية للنساء في دوائر ليدون الأرستقراطية، فإنها كانت وجوهًا مضيئة من شخصيتها.
لكن نسبها وطريقتها في الكلام كانا عيبين صارخين—نقائص سطحية وواضحة. فبمجرد أن يعرف أحدهم ماضيها أو يتحدث معها، يصبح من السهل التقليل من شأنها.
في ليدون، من المؤكد أن النبلاء الذين ستقابلهم سيسخرون منها علنًا. أو ربما سيتظاهرون بالتعاطف وهم يسخرون منها من خلف ظهرها.
“ما رأيك؟”
سألها تشارلز دودجسون عن رأيها.
“…ه-هل ينبغي علي قبول العرض؟”
“لكن غريس، الليدي مونتاجو تريد أن تُدخلك إلى دوائر ليدون الاجتماعية.”
تنهد تشارلز دودجسون بعمق وهو يتحدث. هل يمكن أن تكون غريس تُخفي حلمًا سريًا بحياة مترفة في ليدون؟ لم يكن الأمر مستبعدًا؛ فالكثير من الفتيات في مثل عمرها يطمحن إلى ذلك.
ورغم أنه كان يعلم غير ذلك، لم يستطع إلا أن يشعر بالإحباط. عادت إليه ذكريات عالم ليدون الاجتماعي—قبحه وفساده.
“ما أقصده هو أنك ستقابلين الكثير من الناس في ليدون. بعضهم قد لا يُعاملك بلطف، وقد تتأذين.”
“……”
“هل أنتِ مستعدة لذلك؟”
“……”
كانت غريس تدرك ذلك تمام الإدراك. فقد شهدت كيف تتغيّر تعابير الناس حين يسمعون عن ماضيها، وكيف تتبدل نظراتهم بمجرد أن تتحدث.
لكن غريس لم تكن قاسية القلب أو جاحدة بما يكفي لرفض طلب الليدي ماري مونتاجو مباشرة. فمنذ البداية، لم يكن هناك سوى جواب واحد يمكنها إعطاؤه.
الليدي ماري مونتاجو كانت منقذة لغريس، أخذتها إلى إنغرينت بعد وفاة والدتها، ومنحتها فرصة لحياة جديدة. بل إنها رتّبت لها الإقامة في غرينتابريدج من خلال تشارلز دودجسون.
في الحياة، هناك أشياء يجب أن نقوم بها حتى إن لم نرغب بذلك، وأشياء لا يمكننا فعلها حتى إن أردنا. وكان هذا من النوع الأول—شيء لا بد من القيام به، بغض النظر عن المشاعر.
“…ن-نعم. أعتقد أنني سأكون بخير.”
حين سمِع تشارلز دودجسون ردّها، أصبح تعبيره أكثر ظلمة. ومع ذلك، كان دائمًا في صفّها.
“حسنًا إذًا. ابدئي في توضيب أمتعتك.”
وهكذا، تقرّر مصير غريس غوريتون.
لقد كانت بداية مغامرتها إلى “بلاد العجائب” الخاصة بلِيدون.
***
تـــرجــمــــــة: ســـاتوريــــا… ♡
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 12"