كان في داخل الكولوسيوم الدائري خمس ساحات للقتال، كبيرة وصغيرة، وكانت الساحة الوسطى هي الأضخم بينها.
في الأصل كانت المباريات تُقام متزامنة في الساحات الخمس جميعها، غير أنّه وقد دخلت البطولة مراحلها الأخيرة، لم يُستعمل سوى الساحة الكبرى في الوسط.
ولأنها بطولة بنظام الإقصاء المباشر، لم يتبقَّ من المتنافسين سوى قلّة قليلة.
أما رفاقي من الأكاديمية، فقد خسروا منذ وقتٍ مبكّر، ولم أصل إلى دور ربع النهائي إلا أنا وحدي.
ولعل ذلك هو ما جعل محاولات التقرّب إليّ والابتسامات المصطنعة تتضاعف من حولي.
فالذي يظفر بالبطولة وحده هو من يُسمح له بتقديم أمنيته مباشرة إلى الإمبراطور… وذلك ما أصبو إليه.
وبالطبع، حتى لو اكتفيت بدرع البطولة ووهبته إلى العميد، فسيُعدّ ذلك استثمارًا لمستقبلي. فالعميد يضعف أمام هذه الأشياء ولا يقاومها.
وأخذت أستعيد بذهني ما كان منذ قليل، حين طلب المعلّق أن أُبدي انطباعي بعد المباراة… كان يجدر بي أن أقول:
“إنها ليلة جميلة… أهدي هذا المجد إلى سيادة العميد.”
كنتُ سأكسب تأثره البالغ، وربما يمنحني عندها قاعة تدريب خاصة بي وحدي.
“أستاذة إيريتو.”
“ما الأمر يا جيني؟”
كنت أتابع بشغف مباراة نصف النهائي لفئة الناشئين حين شددتُ على عجل طرف ثوبها.
لقد ظهرت امرأة غريبة في المقصورة الإمبراطورية، حيث يجلس جلالة الإمبراطور، وكان المنظر يثير الريبة.
من أجواء جلستها وهيبتها لم تكن تبدو كواحدة من حظايا القصر العاديات. أن تجلس إلى جانب الإمبراطور مباشرةً… هذا لا يُشبه أحوال الجواري قط.
“عذرًا… أهي تلك السيدة الإمبراطورة الأولى؟”
“أجل، هي بعينها.”
وكأنها خبيرة في هذا الشأن، فقد أجابت بثقة، إذ إن معارفها الاقتصادية كانت تمتد حتى إلى دهاليز القصر ومكانة نسائه.
“ألم تكن هناك واحدة كادت أن تُصبح الإمبراطورة الثانية… ما اسمها؟”
“نعم. لقد كان الإمبراطور شديد التعلّق بها، وكاد أن يرفعها إلى مقام الإمبراطورة الثانية. كانت إحدى محظياته وتدعى إستيا سبودرو. لكن أصولها الوضيعة كانت دائمًا ما تحول دون ذلك.”
“صحيح… إستيا سبودرو.”
إنها والدة آش. تلك المرأة المأساوية التي وإن كانت رحلت الآن، إلا أنها لو بقيت حيّة لربما أصبحت بالفعل الإمبراطورة الثانية.
وبدا لي أن الأستاذة إيريتو، التي لم تعتد أن أطرح عليها أسئلة خارج الدروس، قد سرّها في قرارة نفسها أن ترى فيّ هذه الرغبة في البحث والاستقصاء.
“وما أصلها إذن؟ أليست من النبلاء ما دام لها لقب عائلة؟”
“بلى، كانت ابنة أحد النبلاء، لكنها لم تكن سوى ابنة لأسرة بارون، وذلك نسبٌ واهٍ لا يرقى بها حتى لمقام محظية في القصر. فعادةً ما تكون ابنة البارون أقصى ما تصل إليه هو العمل كوصيفة في البلاط الإمبراطوري.
ويُقال إن ما جعل الإمبراطور يلحظها هو كونها المرأة الوحيدة في صفوف الفرسان الملكيّين للحرس الإمبراطوري.”
إن كان مقام البارون يُعَدُّ واهنًا، فماذا يكون شأني أنا، ابنة أحد النبلاء من طبقة أدنى؟ هه…
“إستيا سبودرو… لقد حظيت بمطاردةٍ حثيثة من الإمبراطور نفسه، لكنها في يومٍ ما اختفت فجأة دون أثر. وظنّ الناس جميعًا أنها قد سُمِّمت. غير أنّ الأمر ظلّ طيَّ الكتمان. لأنّ…”
“أعلم… أظنني أدرك السبب.”
حتى أنا كنت قد سمعت الشائعات عن غيرة الإمبراطورة الأولى التي لا تعرف حدودًا.
ومنذ تلك اللحظة خَفَت صوت الأستاذة إيريتو شيئًا فشيئًا.
“ثم بعد ثلاثة عشر عامًا… أي في العام الماضي بالذات، ظهرت ثانيةً، ومعها صبيّ في الثانية عشرة من عمره.”
“ذلك هو آش، إذن.”
“نعم. وقد أثارت قصتها ضجّة عظيمة، حتى لم يبقَ أحد في القارّة إلا وسمع بها. فقد أعلنت أنّ ذلك الصبي ابن الإمبراطور، وكانت الفوضى التي أحدثتها لا توصف.”
وفي نهاية المطاف، جرى الاعتراف بـ آش كأمير شرعي.
فلون شعره وعينيه لم يكونا من الألوان الشائعة قط.
الأمير الثاني: إيرون دو فون إيبيروس.
كم من المحن كان على آش وأمه أن يمرّا بها حتى يُنادَى هو بهذا اللقب؟
أما أنا، البعيدة عن دهاليز السياسة، فلم أستطع حتى أن أتخيّل.
“لقد جاهر الإمبراطور بقراره، فعلى الرغم من المعارضة العارمة من الإمبراطورة الأولى، أعلن إستيا محظيةً رسمية، واعترف بابنها أميرًا ثانيًا شرعيًّا.
وبذلك انهار نظام التراتبية بين الأمراء، وهو أمر لم يسبق له مثيل.”
عادت إلى مسامعي نبرة آش المرتجفة حين كان يشكو باكيًا من كره إخوته له.
“لكن… أليس هناك أكثر من أميرٍ واحد أكبر سنًا من آش؟”
“ما أذكاكِ، جيني. أجل، للإمبراطور أبناء كُثُر. لكن لم يُمنح لقب الأمير رسميًّا سوى اثنين وُلدَا من الإمبراطورة الأولى… إلى أن ظهرت إستيا.”
“فهمت الآن. إذاً ظهور آش قلب الموازين. لقد كانت سلطة مطلقة لم يهدّدها أحد من قبل.”
كيف يكون شعور الأمير الثاني وقد صار فجأةً الأمير الثالث؟
أن يجد لنفسه أخًا غير شقيقٍ يظهر من العدم… لا بد أن المرارة عنده أشدّ من أن توصف.
“لقد عدّ كثيرون ذلك أمرًا لا يُعقل، وأثار ضجّة واسعة. ومع ذلك، مضى الإمبراطور في قراره، حتى إنه رفع إستيا إلى مرتبة المحظية ليُضفي الشرعية على ابنها.”
“لماذا تراه فعل ذلك؟”
“أليس السبب أن الإمبراطور أحبّها حبًّا جمًّا؟ فلو نظرتِ إلى أصلها أو مكانتها، فلن تجدي سببًا آخر يبرّر ما حدث.”
“همم… أظنني سمعت أنّ للإمبراطور أكثر من عشرة أبناء…؟”
“المؤكّد حتى الآن أنهم أحد عشر ابنًا. وبالنسبة إلى طول فترة حكمه، فهذا ليس عددًا كثيرًا.”
آه… هذا التعدّد في الزوجات والأنساب في هذا العالم لن أعتاد عليه أبدًا.
عقدتُ ذراعيَّ وجلستُ بوجه متبرّم، أحدّق إلى ناحية الإمبراطور وكأنني ألومه بنظراتي.
“ألم تكن وفاة إستيا حدثًا قريب العهد؟”
“نعم، لم يمضِ على عودتها إلى القصر نصف عام حتى فارقت الحياة. ما زال تراب قبرها رطبًا لم يجفّ بعد. على ما أذكر، لم تكد أسابيع قليلة تمضي على تنصيبها محظية رسمية حتى وُوريَت الثرى.”
“يا إلهي… إذن ذلك كان في اللحظة نفسها تقريبًا التي اعترف فيها بـ آش أميرًا.”
“ألا ترين كم هو عظيم شأن الأمومة؟ لقد عادت إلى القصر وهي تعلم أن أيامها معدودة.”
ثم واصلت الأستاذة إيريتو شرحها بتؤدة.
فقد كان الناس يرون في اختفاء إستيا المفاجئ أحد احتمالين كبيرين:
أحدهما أنها ما إن أدركت حملها بابن الإمبراطور حتى غابت عن الأنظار خوفًا من أن تقع تحت بصر الإمبراطورة الأولى الغيورة.
والآخر أنها حملت في تلك الفترة من رجل آخر، وهو الفارس لورغان، ابن شقيق الإمبراطور وقائد الحرس الإمبراطوري، فخشيت انكشاف أمرها أمام الإمبراطور نفسه، فآثرت الاختفاء.
إذ إنّ من تحمل في أحشائها ابنًا للإمبراطور عادةً لا تختفي، بل تفاخر به جهارًا.
السبب الذي جعل الإمبراطورة الأولى تعارض تنصيب آش كأمير وليّ للعهد، قيل إنه كان بالأساس لأجل السبب الثاني، غير أنّ تلك المسألة طُويت مؤقتًا بعدما أثبت لورغان أنّه قد صار عاجزًا بسبب إصابته في ساحة القتال.
لكن الضجّة عادت لتثور من جديد حول السؤال: منذ متى تحديدًا صار عاجزًا؟
“اوف…”
مقرف…
انطبقت أسناني من تلقاء نفسها.
ما أطول الشائعات، وما أكثر ما تتسخ وتزداد قبحًا بطولها.
إذا كانت تصل إلى مسامعي، أنا الغريبة عن الأمر، بهذا الشكل المفزع، فكيف عسى أن يكون شعور آش نفسه، صاحب الشأن؟
لقد استطعت أن أفهم، ولو قليلًا، ما الذي دفعه إلى الهرب.
لكن شيئًا واحدًا بدا مؤكدًا.
أن إستيا قد استشعرت موتها فعادت إلى القصر الإمبراطوري من أجل آش، وأن الإمبراطور كان يحبها أكثر من الإمبراطورة ذاتها.
أفكار كثيرة تلاحقت في ذهني.
فأنا في الحقيقة ما زلت عاجزة عن أن أضع تعريفًا دقيقًا.
لماذا أرغب بهذا القدر في لقاء آش؟
ما سبب هذا الإلحاح العجيب الذي يضغط عليّ للقاءه؟
حين ألقاه… ماذا أريد أن أفعل؟
ماذا أريد بالضبط؟
آش…
لماذا لا تكفّ عن الحضور في خاطري؟
لِمَ تجعلني أنشغل بك إلى هذا الحد؟
ما الذي يدفعني إلى أن أفعل ما ليس من طبعي؟
كنتُ أتأمل ملامح الإمبراطور وهو يحدّق إلى البعيد، فخُيّل إليّ أنه يشبه آش شبهًا كبيرًا.
وإنْ أردنا الدقّة، فآش هو الذي يشبه الإمبراطور.
“……….!”
أتراني قد أطلت النظر أكثر مما ينبغي؟
فجأة أدار الإمبراطور رأسه، وحدّق فيَّ مباشرة.
إنها نفس العينين… عينا آش. عينان ذهبيتان كالشمس، وما دمتُ تحت نظرهما، شعرتُ كأني ألتقي آش حقًّا.
حينها فقط أدركتُ ما الذي أريد فعله حين ألقاه.
* * *
– في البداية، سيتبادل اللاعبان التحية.
فالتحية التي تُؤدَّى قبل بدء المباراة يمكن عدُّها في حقيقتها إجراءً لفرض الهيبة وكسر إرادة الخصم منذ البداية.
الفتى ذو الشعر الأحمر، الواقف أمامي، لم يكن ليُصدَّق أنه من فئة الصغار، إذ بدا ذا بُنية قوية تفوق سنَّه.
حتى ليخيَّل للناظر أنّه في الخامسة عشرة من عمره على الأقل.
أيمكن أن يكون قد التحق بفئة الناشئين خطأً، وكان الأولى به أن يُدرج في فئة اليافعين؟
“اسمي لاتشامو بيدري. تشرفتُ بلقائك، أيتها الصغيرة الجبانة القادمة من بلدٍ حقير.”
همم؟ يا له من فتى متعجرف.
ذاك الشعر الأحمر هو أحد رموز أسرة بيدري، ويُقال إن الأسر ذات الحسب الرفيع لا بد أن يكون لها لون مميّز في الشعر أو العينين. ولأجل الحفاظ على تلك السلالة، يكررون الزواج فيما بينهم… شيء لم أستسغه قط.
“اسمي جيني كروويل.”
“…كلامك قصير أكثر من اللازم، أليس كذلك؟”
“لستُ حريصة كثيرًا على هذه المجاملة، لكن لنجتهد معًا يا صغيّر.”
“كيف تجرؤين! أنا أكبر منك قامةً! ثم إني ابن دوق! تكلمي بقدر أوفر من الاحترام!”
“ألسنا متساويين ما دمنا جميعًا ننتمي إلى الأكاديمية؟”
“ذ….ذلك……”
التعلُّم أمام كل شيء يساوي بين الناس، مهما علت مراتبهم.
كانت تلك واحدة من الأقوال القليلة في هذا العالم التي راقت لي حقًّا.
فطالما نرتدي زيّ الأكاديمية، نتمتّع بشيء من التحرر من قيود الطبقة والرتبة.
“ثم إني سيدة (ليدي)، فأنتَ أولى بأن تخاطبني بتهذيب.”
“لم أرَ في حياتي سيدة مثلك.”
“وأنا كذلك، لم أرَ في حياتي فتى من فئة الصغار مثلك.”
ـ قه، تف!
أيعقل أن يكون في الثالثة عشرة من عمره؟
مهما تمرّس على السيف، فبنيته تفوق سنّه بكثير.
ذلك… وآش، وهو في مثل سنّه، كان يبدو أقرب إلى سني أنا ذات العشر سنوات.
بأي حال، لم أستسغ لاتشامو بيدري قط.
لأنه لم يكفّ عن التحديق بي بنظرات منفّرة وكأنه يبحث عن ذريعة للشجار!
ولماذا؟ بلا سبب واضح!
“يا لها من متغطرسة! أظنكِ تجرأتِ على احتقاري آنفًا!”
“هم؟ ومتى فعلتُ ذلك؟”
“لقد سمعتُ المقابلة كاملة! ذاك كلّه كان يُذاع داخل الساحة!”
“آه، هكذا إذن.”
فقد كان له سبب على ما يبدو.
“لقد ادّعيتِ بكل وقاحة أنكِ ستسحقينني وتطرحينني أرضًا!”
أيُعقل أن يكون مفرط الاعتداد بنفسه؟
إنه يكرر كلمة “وقاحة” أو “جرأة” كثيرًا.
حقًّا… ما دام ابن دوق، فلا عجب أن قلّما تعرّض للتجاهل في حياته.
“معذرة، إن كنتُ قد تجاهلتك علنًا فسأعتذر… قليلًا.”
“قليلًا؟!”
“لكنني لم أقل ما لا يصح قوله. كان محض حقيقة.”
“لا تسخري مني!”
“تجيد السباحة، بالمناسبة؟”
شخصيًّا، كنت أحب ذوي الاعتداد المفرط بأنفسهم.
لأن مداعبتهم والسخرية منهم ممتعة!
وكان وجه لاتشامو، وقد احمرّ بقدر حمرة شعره، مشهدًا لا يُفوّت.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات