*الفصل 57*
بدأت إيروجي تتدلّل وهي تشبك ذراعيها، لكن كل ما كنت أرغبه حينها هو النوم المبكر.
“لا رغبة لي… إنه أمر مزعج.”
فقالت بحماس
“يقولون إن عدد الأكشاك في السوق يتجاوز الألف! أليس هذا مدهشًا؟ إنها فرصة لتذوّق أطعمة القارّة بأسرها!”
“هممم، أود أن آكل شيئًا لذيذًا، لكن…”
قالت وهي تخرج كيس نقودها بابتسامة فخورة:
“لقد أحضرت مصروفي الذي منحني إيّاه أبي خصيصًا لهذا اليوم! انظري!”
كان الكيس ثقيلًا لدرجة أن صوته المعدني المجلجل وصل إلى أذني بوضوح.
لو سمعه راي لكان قد سال لعابه من الإغراء.
أن يقول الثري إنه ثري، لا يجلب في القلب إلا الحسد.
لا عجب، فهي ابنة إحدى أغنى عائلات ديميتري.
قلت متنهّدة
“أما أنا، فلا أملك مالًا كافيًا.”
لدي بعض القطع الذهبية، لكن لا يمكنني استخدامها في السوق.
فأجابت بدهشة صادقة:
“إيه؟ ولم تهتمين لذلك؟ سأشتري لكِ كل ما تشائين! فقط أخبريني بما تريدين! أنا غنية!”
“ستشترين لي حقاً؟”
“نعم!”
“لستُ عديمة الحياء إلى هذا الحد… هيا بنا بسرعة!”
الحياء لا يُشبع الجوع، لكن إيروجي كانت تُشبعني حقاً.
فلتحيا الصداقة مع الأغنياء!
—
“ستخرجون مرة أخرى؟”
حين جئت لأطلب إذن الخروج، بدا أن قائد فرقة الفرسان تونيل لا يروق له الأمر قط، فقد عقد حاجبيه بانزعاج ظاهر.
“هل ثمة مشكلة؟”
“حقاً وضع محيّر… الجميع خرج للاحتفال، ولم يتبقَ عدد كافٍ من الفرسان لمرافقتكم.”
“إن كان الأمر كذلك، فلا بأس أن نخرج بمفردنا.”
“هذا أمر مرفوض.”
“لكن خلال أيام المهرجان، تم تعزيز الحراسة في المدينة، أليس كذلك؟ ثم إنني أنا وجايمام معتادان على الخروج من دون مرافقة الفرسان.”
رغم محاولات برايت الحثيثة لإقناع القائد، إلا أن حججه لم تلقَ آذاناً صاغية.
“المشكلة لا تكمن فيكما، بل في هاتين الشابتين، الآنستين إيروجي وجيني.”
وحينها فقط أدركتُ لمن يوجه قائد فرقة الفرسان كلامه بلغة الاحترام.
كان لا يستخدمها إلا مع أبناء العائلات ذات الشأن، مثل إيروجي أو برايت.
‘غريب…عائلتي لا تملك أية سلطة تُذكر’
برايت هو ابن عائلة مشهورة بين السحرة، وإيروجي ابنة إحدى أغنى الأسر النبيلة.
أما أنا، فما أنا إلا ابنة بارون مغمور في إحدى نواحي الريف، لا يعرف أحد عنّا شيئًا.
والبارون هو أدنى طبقات النبلاء:
دوق، ثم ماركيز، ثم كونت، ثم فيكونت، ثم بارون، وبعده يأتي الفارس، وهو أدنى من النبلاء.
فأن تكون بارونًا لا يمنحك مكانة تُعتدّ بها بين الأرستقراطيين.
قال برايت بمحاولة جادة وهو يرمقني بنظرات قَلِقَة:
“سنعتني بهنّ جيدًا. ألا يمكنكم السماح لنا؟”
هل كان يحاول أن يبدو ناضجًا في نظري؟
جهده يُقدّر، وكان ذلك لطيفًا منه… لكن هذا يستهلك وقتًا كثيرًا.
“تنحَّ جانبًا، يا سينباي.”
قلت بفتور وأنا أدفع برايت وجايمام قليلًا لأتقدّم.
“سيدي القائد، تقول إنه لا يوجد فرسان؟”
“همم، نعم. لم يتبقَ سوى اثنين فقط من الحرس.”
كنا خصمين طبيعيين.
نظرات قائد الفرسان تونيل نحوي كانت تختلف تمامًا عن نظراته حين ينظر إلى برايت.
فجأة، خفتت حدّة عينيه بشكل واضح…
لا أعلم ما السبب في ذلك تحديدًا، لكن مجرد أنني التقطت تلك النظرة كان كافيًا لي.
“هذان الفارسان المتبقيان… هل هما من أعرف؟”
“………………نعم، هما كذلك.”
“هانسن وفيلو؟”
عدم الرد كان تأكيدًا بحد ذاته.
“بهذا الشكل، يمكن اعتبارهما شبه مخصصَين لي، إذًا لا مانع من استدعائهما.”
“لا يجوز. ففارسان لا يمكنهما حماية أربعة أشخاص بمفردهما.”
“لكنّ زملائي الكبار لا يحتاجون لمرافقة من الأصل، والمشكلة – كما قلتم – تقتصر عليّ وعلى إيروجي… إذن فارسان يكفيان تمامًا.”
“……………”
نظرت إليه بابتسامة باردة:
“أين المشكلة إذًا؟ هل في حساباتي خطأ؟”
واشتعلت بيننا معركة نظرات صامتة.
لكنني أعلم الحقيقة.
ما يقلق قائد الفرسان حقًا… هو أنني وحدي، أنا فقط، لا يمكن السيطرة عليّ حتى بفارسين كاملين.
وقد ثبت ذلك أكثر من مرة.
فـ هانسن وفيلو، رغم طيبتهما الزائدة، لم يكونا يومًا قادرين على إيقافي.
“هل يمكن أن يكون، مجرد احتمال بعيد طبعًا، أنك لا تحبني… ولذلك لا تريدني أن أستمتع بالمهرجان؟”
“ماذا؟ لا، لا يمكن ذلك! هذا سوء فهم.”
“إذاً، اسمح لنا بالخروج!”
“……حسنًا، موافق. ولكن بشرط. بما أننا نعاني نقصًا في الفرسان، فعليكم البقاء معًا طَوال الوقت، ولا تتفرقوا. وخصوصًا…”
ماذا؟ ماذا؟! لماذا تنظر إليّ هكذا؟!
***
كنت، على غير العادة، مطمئنة جدًّا.
فقد مررت بالكثير من المصائب مؤخرًا، إلى درجة أنني شعرت بثقة غريبة أن شيئًا أسوأ لن يحدث مجددًا.
يعني، لا يُعقل أن تندلع فوضى جديدة مرة أخرى… أليس كذلك؟
“انظري، جيني! أعتقد أن هذا هو عيد الآلهة!”
“إنه أكبر بكثير مما رأيناه في الكتب!”
“هل من المفترض أن تكون نافورة بهذا الجمال؟ إنها مذهلة…!”
قالا إيروجي وبرايت وهما يحدّقان بدهشة في النافورة الضخمة وسط الساحة.
في الساحة الكبرى لعاصمة إيلان، مدينة نيكال، كان هناك نافورة ضخمة تُدعى عيد الآلهة.
أما عن حجمها… فكانت تبدو بارتفاع مبنى من خمس طوابق على الأقل.
كانت النافورة مزيّنة بتماثيل الآلهة، كبيرها وصغيرها، بتوزيع متقن يكاد يلامس الكمال.
حقًا، كما يشاع عنها، كانت تحفة فنية هائلة.
في وسط النافورة، انتصب تمثال شامخ للإله أغيوتيتا، حامي قارة كران، بكل هيبته ووقاره.
ومن حوله، بتماثيل تتجه أنظارها إلى جهات متفرقة، وقفت: إلهة النبوءة بروفيتيا
وإلهة السلام هيوس, الوحيدة بين الآلهة العُليا التي كانت أنثى، والمعروفة بصفائها الشديد ورحمتها المطلقة.
وتحت الآلهة الثلاثة، نُحتت تماثيل السبعة المقدّسين.
وهم أرواح سامية تُعين الآلهة في مراقبة العالمين: عالم السماء والعالم الأوسط.
ولكل واحد من هؤلاء اسم، لكن…
لم يكن لي أي اهتمام بهم.
عندما التفتّ، رأيت إيروجي وجايمام واقفتين بخشوع تام، بأيدٍ موضوعة أمام صدريهما،
تصليان للنافورة كما لو كانتا أمام مذبح مقدّس.
حتى فيلو وهانسن لم يكونا بحال مختلفة.
ولم ألتقِ بنظرات برايت الذي كان واقفًا شاردًا مثلي، إلا بعد لحظة.
قلت له بهدوء:
“يبدو أنك لست من المتدينين، أليس كذلك؟”
فأجاب بتردد:
“حسنًا… هذا طبيعي، كوني من عائلة سحرة.”
بدا على برايت بعض الارتباك.
لكن في الحقيقة، عدم التدين في هذا العالم لا يعني إنكار الآلهة أو الكفر بها.
بل يعني ببساطة: الإيمان بوجودهم، احترامهم… لكن دون أن تكرّس لهم قلبك وولاءك الكامل.
كان جميع البشر في هذه الأرض، في الأساس، يؤمنون بوجود الآلهة.
فهم يعيشون على أرض مشبعة بنِعَمهم، ويشهدون يومًا بعد يوم عجائب قواهم بأعينهم — تلك المعجزات التي لا يقدر عليها إلا إله.
نعم، في هذا العالم على الأقل، كانت الآلهة موجودة، بلا شك.
قلت:
“سمعت أن الكهنة لا يطيقون السحرة… هل هذا هو السبب؟”
فأجاب برايت:
“يمكن قول ذلك. الكهنة يعتبرون السحر تحديًا لسلطة الإله، فعلًا مدنّسًا. فهم يرون أن السحر الإلهي هو الطريق القويم، أما نحن، فنسلك طريقًا منحرفًا.”
الطريق القويم هو السبيل المستقيم إلى الحق،
أما المنحرف، فهو درب زائف، مليء بالحِيَل والانحرافات.
برايت، كما يُتوقّع من المتفوّق الأول في صف السحر، بدا فطنًا وذكيًا وهو يشرح.
“وماذا عن سحر الأرواح؟ هل يعتبرونه طريقًا منحرفًا أيضًا؟”
“على الأرجح، نعم… من وجهة نظر الكهنة.”
“اللعنة.”
“……جيني؟”
“هل قلتها بصوت عالٍ؟”
“نعم…”
“قلت اللعنة؟”
عندما أعدت السؤال، أدركت أنني فعلًا قلتها.
آه، هذا اللسان السليط الذي لا يهدأ…
“لا فائدة من التظاهر. أنا ببساطة… لا أحب الآلهة.”
“جيني! لا يصح أن تقولي شيئًا كهذا بهذه البساطة!”
برايت ارتبك فجأة وأخذ يحدّق حوله بذعر، وكأن أحدًا قد سمعني.
وكأنني تفوّهت بكلام لا يُقال.
في الواقع، لو سمعني أحد المتعصبين، لربما حاول ضربي حتى الموت.
“وما ذنبي إن لم أجد سببًا لأحبهم؟ حياتي مليئة بالنحس. لدرجة تجعلني أظن أحيانًا أن الآلهة قررت السخرية مني عمدًا.”
قال بتردد، محاولًا التخفيف:
“ماذا لو… جرّبتِ الدعاء بإخلاص أكثر؟ لعلّ شيئًا جيدًا يحدث.”
“المشكلة ليست في ذلك.أنا أصلاً لم أطلب أن يحدث شيء جيد. كل ما أردته… ألا يحدث لي شيء على الإطلاق.”
“جيني…”
“حتى هذا، لم يستطيعوا منحي إياه؟ شيء بهذه البساطة؟”
بالنسبة لي، لم يكن وجود الآلهة سببًا للطمأنينة…
بل مجرد حقيقة تغلي في داخلي غضبًا لا يُحتمل.
التعليقات لهذا الفصل " 57"