*الفصل 48*
“قلوب الناس كالغاب. ثم لما فكرت بالأمر، وجدت أن هذا الفتى سيئ الحظ جداً، ولا رغبة لي في التنازل له.”
كان واضحًا أن ليو انفجر غضبًا حين أُشرت إليه بإصبعي مباشرة.
ويبدو أنه اليوم أكثر عجرفة من الأمس، لظنه أن كل البالغين من حوله في صفه.
“هل غيّرتِ رأيكِ في يوم واحد، أيتها الجبانة؟”
“لا، أنا من البداية قلت إني لا أحب المبارزات.”
“كفي عن الإنكار! أنتِ لا تملكين الشجاعة لهزيمتي، ولهذا ترفضين تحدياتي باستمرار!”
[سيدتي، هؤلاء الثلاثة في صف واحد. يبدو أنهم يرغبون برؤيتك في موقف مخزٍ حين تخسرين.]
همس لي راي سريعًا.
وكلما أنصتُّ له، شعرت أنه خبيث بعض الشيء. لا بأس، فهو أفعى.
“اهدأ، اهدأ يا ليو.”
ما هذا؟ قائد الفرسان يهدّئ ليو؟ ألم يكن يريد إبعادي عن فريق التمثيل؟
“المبارزة شيء مقدّس. ويجب أن تُقام وفق القوانين.”
“إذا تنافستما أنتما الاثنان بشرف على حق المشاركة، فسأتولى أنا التحكيم.”
طبعًا، هكذا كنت أظن.
هذا العجوز واضح النية. إنها طريقة غير مباشرة لإجباري على المبارزة، أليس كذلك؟
أظنني قلت له عشر مرات على الأقل أنني لا أريد، لكنه يتجاهلني تمامًا.
“أنا فارس ذو سمعة عالية، لذا أملك أهلية التحكيم.”
“لا بد أنني لا أعرف معنى السمعة إذًا.”
“الانسحاب بذيل بين الأرجل في لحظة حاسمة، هل هذه عادة السحرة؟”
“أنا مستحضِرة أرواح، بالمناسبة.”
“لا فرق.”
بل هناك فرق كبير، أيها الأحمق!
من بين كل شيء، أكثر ما يثير غضبي هو مساواة مستحضري الأرواح بالسحرة.
مستحضِر الأرواح ليس ضمن تصنيف السحرة!
إنها قدرة مستقلة تمامًا!
“بارزيني، جيني كروويل! من أجل كرامتي، سأقاتلكِ!”
“هاه…”
“سأهزمكِ! وأستعيد كرامتي!”
إن خضتُ مبارزة مع ليو، فعلينا أنا وهو أن نقبل بنتيجتها مهما كانت.
كل ما راهنّا عليه سيُسلَّم دون نقاش.
حتى لو جاء الملك بنفسه، لا يمكنه تغيير النتيجة.
هذه هي الكرامة كما يفهمها هذا العالم.
المبارزة هي قتال يُقام على شرفٍ يُراهن عليه.
والكرامة في هذا العالم لا تقل قيمة عن الحياة نفسها، ومن لا يقدّرها يُعامل وكأنه جثة هامدة.
أنا لا أراهن على كبريائي ولا على شرفي بحياتي…
أو هكذا كنت أظن، لكن أن يُستهان بي… فذلك أمر بغيض للغاية.
مبروك يا ليو، لقد نجحت في استفزاز أعصابي.
“وما الذي ستكسبه من قتالك لي؟ مكان في الفريق؟”
“سأستعيد كرامتي التي دنستها أنتِ!”
“لا يبدو أنك فكرت باحتمالية أن تتحطم أكثر… واضح مدى استخفافك بي.”
كنت أشعر ببعض الشفقة تجاه ليو، مقدارها لا يتجاوز وسخ تحت أظافري.
لكن لا أنكر أنني فهمت دافعه قليلًا.
رغم أنه استُبعد من الفريق لأسباب سياسية، إلا أن فوزه عليّ سيعيد له مكانته وكرامته.
لكن… ما العمل؟ لا نية لدي للتساهل معه.
“حسنًا، المبارزة تُحسم حين يعترف أحد الطرفين بالهزيمة أو يسقط سلاحه، أليس كذلك؟”
“نعم! وأخيرًا قررتِ المواجهة؟!”
“ليس تمامًا… لكن يبدو أنك ستستمر في الإزعاج إن لم أقبل.”
“فقط ثرثرة إلى النهاية! ارفعي سلاحك يا جيني كروويل! دعينا نتقاتل!”
وكأنك لا تملك سوى صوتك.
ما دمت سأفعلها، فالأفضل أن أنهي الأمر بسرعة.
“سلاح، هاه… لكن، هل سنفعلها هنا؟”
هذه أول مرة أخوض فيها مبارزة.
تلفتُّ حولي بعد صياح ليو المتحمس. المكان كان قاعة الطعام، ورغم سعتها، فقد ازدحمت أكثر مع احتشاد الطلاب المتفرجين.
منذ متى أصبحتُ عرضًا يتفرج عليه الجميع هكذا؟
ربما أساؤوا فهم نظراتي المتلفتة من حولي، إذ راحوا فجأة يزيحون الطاولات والكراسي من الطريق.
وفي لحظات، أصبحت قاعة الطعام خالية تمامًا إلا منّي ومن ليو في وسطها.
يا لهذه الدنيا… يبدو أن الناس يحبون مشاهدة الشجارات أكثر من وجباتهم!
ربما لأن العراك أصبح جزءًا من روتينهم.
“ها نحن ذا! لا عوائق بعد الآن! ارفعي سلاحك!”
رفع السلاح كان إيذانًا ببدء القتال.
لو كنتُ ساحرة، لأمسكت بعصاي السحرية، لكن الأرواح لا تحتاج إلى أدوات.
نحن، المستدعون، لا نعتمد إلا على التعاقد والإرادة.
رمقتُ الجمع المتحلق حولنا بنظرة سريعة.
طلاب الفريق المرافق بدت أعينهم متلألئة من الحماس لرؤية شيء نادر،
وبعض الفرسان، وحتى هانسن وفيلو الوحيدان اللذان أظهرا بعض القلق في نظراتهما.
يبدو أن الجميع يتوقع هزيمتي… ببساطة.
لو كانت الآنسة إيريتو هنا، لكانت أوقفت هذا العبث بحجة أنه قتال لا طائل منه.
لكن للأسف، كانت في برج السحر بسبب موعد النقل.
ربما تعمدوا اختيار هذا التوقيت تحديدًا.
على أي حال، لا يبدو أن أحدًا ينوي التدخل.
يا لها من حياة قاسية.
من لا يُثبت نفسه، يُداس تحت الأقدام.
“جيني، إن بدوتِ ضعيفة… سيلتهمونك. كوني قوية.”
فجأة، تذكّرت نصيحة أنيليا أوني.
المرأة الوحيدة في فرقة تشابيل للمرتزقة، لكنها لم تكن يومًا موضع استخفاف.
كانت دائمًا واثقة وشامخة.
أنيليا لم تختر أن تُحمى، بل اختارت أن تكون هي الحامية.
وكان بإمكانها أن تعيش بذلك الشكل لأنها كانت قوية…
قوية بما يكفي لتفرض احترامها.
“أنا لا أحب القتال… لكن الخسارة؟ أكرهها أكثر.”
تحركت ببطء، ثم التقطت إبريق الماء الموضوع في ركن القاعة.
كان إبريقًا زجاجيًّا شفافًا، حجمه لا بأس به، وكانت المياه بداخله تلمع بصفاء وهي تترجرج.
ثقيل بما يكفي ليُحمل بكلتا اليدين.
كان ماءً نقيًّا، يصلح للشرب، ويكاد يكون من المؤسف استخدامه بهذه الطريقة.
لكن رغم ذلك، وبينما كنت أحدّق في الإبريق، بدا أن ترددي أزعج ليو، فصرخ بي بغضب:
“ما الذي تفعلينه الآن؟ قلتُ لكِ احملي سلاحك!”
“هذا سلاحي.”
“هذا… إبريق ماء، أيتها الغبية!”
“ومن الغبي بيننا؟ سنعرف بعد قليل.”
الناس لا يعرفون الكثير عن مستدعي الأرواح… وهذا غالبًا ما يكون لصالحنا.
“أوندين”
خلال تجربتي مع فرقة تشابيل، تعلّمت شيئًا مهمًّا:
ليس من الضروري أن أنادي الروح بصوت مرتفع.
إن أردتها بقوة، إن استدعيتها من أعماقي، فإنها ستأتي… من أي مكان كانت.
بمجرد التفكير فقط، يمكنني استدعاؤها بسهولة.
لا أعرف إن كان جميع مستدعي الأرواح قادرين على فعل ذلك… لكنني أنا أستطيع.
“انظروا جيدًا، هذا هي الروح.”
لقد ناديت أوندين بصوتٍ عالٍ الآن فقط من أجل الاستعراض.
أردت أن أُريهم.
أُري أولئك الجهلة بماهية الأرواح، ما هي فعلاً.
[سيدتي]
بينما كنت أبتسم بخفة، ارتفعت المياه داخل الإبريق الذي كنت أحمله فجأة نحو السقف.
تجاهلت الجاذبية، وتجمّعت المياه وهي تترجرج حتى تشكّلت على هيئة حورية شفافة.
وبصوت هدير الأمواج، طارت أوندين فوق رأسي.
وقد علمت مؤخرًا أن أوندين تظهر من الفراغ عندما لا يوجد ماءٌ في الجوار،
لكنها تستخدم الماء الموجود إن وُجد، كوسيط للظهور.
وطبعًا، عندما تستخدم وسيطًا مائيًا موجودًا، تستهلك قدرًا أقل بكثير من المانا.
“واو.”
“ما هذا؟”
“أنا أعرف! إنها روح الماء!”
إن حورية شفافة بالكامل مصنوعة من الماء، وتطفو في الهواء… مشهدٌ نادر حقًّا.
أولًا، كانت جميلة، ومَن يطيل النظر إليها يكاد يقع في سحرها.
انطلقت أصوات الإعجاب من الحضور، معظمها كانت من التلاميذ.
بالنظر إلى ردود أفعال من حولي وأنا أبتسم ابتسامة راضية،
بدا أن ذلك المنظر قد أزعج ليو كثيرًا، فما كان منه إلا أن اندفع نحوي فجأة صارخًا بصوت قتالي:
“إيياااا!”
يا له من متعجل!
صحيح أن استدعاء الروح يعني بداية القتال، ولكن…
حين رفع ليو قفازيه ــ سلاحه الخاص ــ عاليًا واندفع نحوي،
بدت العيون المتحمسة من أولئك الذين لا يحبونني تتألق من الترقب، وكأنهم ينتظرون شيئًا مثيرًا.
أما أنا، فقد أصبحت أميز بوضوح بين أجواء السلم وأجواء المعركة.
وبصراحة، مقارنةً بظهور الوحوش، لم يكن ليو شيئًا يُذكر.
“ابدأوا!”
أعلن قائد الفرسان البداية على عجل.
أليس من المفترض أن يتم إيقافه للحظة أولًا؟
لكن الطرف الآخر كان قد بدأ بالركض بالفعل.
المتفرجون، لا شك، كانوا يرغبون بمشاهدة عرض مثير، لكن لم تكن لدي نية لتلبية رغباتهم.
لم يكن في نيتي أن أخسر بخزي، ولا أن أخوض قتالًا متكافئًا طويلًا.
أنا ببساطة شخص كسول يحسب الأمور بكفاءة.
“أوندين، تقنية التنفّس تحت الماء!”
ما إن همست بهذه الكلمات، حتى انطلقت المياه المتبقية في الإبريق بسرعة البرق…
… نحو ليو الذي كان يركض نحوي.
تردد قليلًا، لكن الماء تحرك بحرية تامة، ليُحيط رأسه الصغير تمامًا دون أن يمنحه فرصة للمقاومة.
ببساطة، تكوّنت كتلة مستديرة من الماء حول وجه ليو.
“إيـ… كُررغ!”
كان ليو يحاول قول شيء ما، لكن كلماته تلاشت داخل الماء.
التعليقات لهذا الفصل " 48"