*الفصل 44*
«آآه هذا العالم لا يسير كما نشتهي.»
كان الجو السائد في صفوف الوفد الذي يقترب من بوابة القلعة مشوبًا بالكآبة.
صحيح أن الوفد يتكوّن في معظمه من أطفال، لكنه يمثل دولة بأكملها
ومن الطبيعي في مثل هذا المقام أن يكونوا واثقي الخطى، رافعي الرؤوس، مفعمين بالثقة…
إلا أن ملامحهم جميعًا كانت حزينة وكأنهم عائدون من مأتم.
وكان أشدهم سوءًا في المظهر قائد الفرسان في مقدمة الركب.
“هل سُدَّت طرق مستقبلي بهذه البساطة؟… هل ضاعت فرصتي في التقدم؟…”
يمشي مترنحًا بخطى بطيئة، جالسًا على ظهر جواده كأن روحه قد فُقدت.
فالمهمة التي أُوكلت إلى فيلق الفرسان الملكي الخامس هذه المرة كانت – بالعامية – “لقطة العمر”:
مجرد مرافقة مجموعة من الأطفال وتوفير الحماية لهم
وفي المقابل، كسب ثقة العائلة الملكية وفرصة للترقية.
كل ذلك… حتى ضاعت منه إحدى الطالبات.
بل اختفت بطريقة يُرجّح أنها أُصيبت بمكروه أو لقيت حتفها!
“هااااااه…”
وكان قائد الفرسان ليس وحده من أطلق زفرة طويلة وكأن الأرض ستميد تحت قدميه.
وكان المعلم دينيل من قسم القتال، الذي تبعهم بملامح شاحبة مماثلة، لا يختلف حاله كثيرًا.
“آه……”
الرجلان المكلفان بتحمّل المسؤولية الكاملة عن سلامة الوفد، كانا في حالة انهيار تام.
فبالنسبة لهما، فقد فشلا في أداء واجبهما بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
فقدان طفل واحد ليس أمرًا نادرًا في هذا العالم، بل هو أمر معتاد ومتكرر.
لكن إن كان الطفل من النبلاء، يصبح الأمر أكثر تعقيدًا،
وإذا كان طالبًا في الأكاديمية الملكية، فالوضع يتحول إلى كارثة.
قد لا يُعرف ذلك في سائر البلدان،لكن في مملكة ديميتري
مجرد الالتحاق بالأكاديمية الملكية يعني أن المرء قد تم اختياره كـ موهبة ملكية.
وكان الملك ديكيل الثالث معروفًا باهتمامه الكبير بالمواهب.
وكان هناك شخص واحد يحظى باهتمامه الخاص ومتابعته المستمرة
وهي: جيني كرويل.
فقد اشتهرت قصة تأسيس قسم خاص بدراسة الأرواح في الأكاديمية لأجلها وحدها.
“لقد أمر الملك بنفسه، بضرورة ضم جيني كرويل إلى الوفد.أعتذر لك، ولكن… لا بد من تقليص عدد المشاركين من قسم القتال بمقدار شخص واحد.”
لا يزال المعلم دينيل يتذكّر وجه العميد وهو يربت على كتفه حين قال له تلك الكلمات.
عندما سمع ذلك لأول مرة، قبض على يده بغضب شديد.
كان يشعر بالضيق الشديد من أن تحظى جيني كرويل بذلك الامتياز، فقط لأنها نادرة.
ومع أنه كان يفهم الأمر بعقله…
الا انه لا يمكن تقليص عدد الطلاب من قسم السيف
فهم يحققون نتائج باهرة في كل دورة من دورات البطولة
وعدد المشاركين محدد لا يمكن تجاوزه.
وبحسب ما قاله العميد، فإن الملك يرغب بشدة في أن يفخر أمام الأمة كلّها
بـ جيني كرويل،
أصغر مستحضِرة أرواح في القارة كلها.
ولم يكن من الصعب على دينيل تفهُّم تلك الرغبة الملكية.
ومع ذلك، لم يكن تقبُّل الأمر سهلًا عليه من الناحية النفسية.
فهو، على الرغم من كونه معلمًا،
كان لا يطيق تلك الطفلة ولا يحتمل وجودها.
ولهذا، حين كان طلاب قسم القتال يضايقون جيني كرويل،
لم يكن يوقفهم، بل كان يُراقب الموقف بشيء من الرضى الخفي.
ولكن مع ذلك، لم يكن يتمنى أن تختفي بهذا الشكل أبدًا.
“سيدي القائد…”
“ما الأمر؟”
اقترب دينيل من قائد الفرقة حتى صار جواداهما متجاورين،
وخفض صوته وكأنما يتحدث عن أمر لا ينبغي أن يسمعه أحد.
“الطالب الذي سيحل محل كرويل… سيستغرق وصوله إلينا عدة أيام على الأقل.ألن يؤثر ذلك على جدول الرحلة؟”
“قيل لي إنهم سيرسلونه على أسرع خيل في القصر الملكي، ليس أمامنا سوى الانتظار.”
“حتى ولو ظل الحصان يعدو طوال الليل…”
“ومع ذلك، ما الذي يمكننا فعله؟ هذا هو أفضل ما لدينا.”
في ذلك الصباح الذي اختفت فيه جيني كرويل،
كان القائد يصيح بانفعال شديد أثناء تشكيل فريق البحث.
“من؟ جيني كرويل؟ ما الذي تفعلونه؟! أرسلوا فرقة البحث فورًا، ألا تسمعون؟!”
كما هو الحال في مثل هذه المواقف، افترض الجميع أن الطفلة خرجت لقضاء حاجتها ثم تاهت في الغابة.
كان من الضروري العثور عليها قبل أن تقع فريسة لوحش ما.
وإن كانت قد فارقت الحياة بالفعل، فعلى الأقل ينبغي استرجاع جثتها.
بدأت عملية البحث في المنطقة القريبة، ولكن دون أي نتيجة تُذكر.
ومع توسيع نطاق البحث، اكتُشفت آثار غريبة لوحش مشبوه،
وعند تتبّع تلك الآثار،
عُثر على كُتل من الشعر الأشقر معلّقة على أغصان الشجر.
كلّ شيء في المكان كان يُشير إلى محاولة هربٍ يائسة،
وعند تتبّع الآثار بشكل أعمق،
أدّت إلى منحدر صخري شديد الانحدار.
في الأسفل، كانت هناك مياه نهر جارية بعنف،
وآثار وجود الغول ما تزال واضحة.
فما كان من الأساتذة والفرسان إلا أن تجمّدوا في أماكنهم، مصدومين.
نظروا إلى الأسفل، فرأوا مياهًا متلاطمة لا يبدو أن أحدًا قد يسقط فيها ويعود حيًّا،
حتى لو كان فارسًا مدرّبًا.
وبين الفرسان الذين وصلوا إلى موقع الحادث،
ساد صمتٌ ثقيل، ينذرُ بحدوث مأساة.
ولم يلبث أن ظهرت بين الصفوف تنهيداتٌ حزينة،
تخيّلت ما الذي سيحدث حين يُبلّغ القائد بهذا الخبر الفاجع.
ومن هناك، بدأ الاضطراب.
كان من الممكن أن يواصلوا البحث، متشبثين ببصيص من الأمل،
لكن إن فعلوا ذلك، فلن يتمكنوا من مواكبة جدول المهرجان.
في كل شيء، هناك ترتيب أولويات،
وكان على القائد،
بوصفه المسؤول عن المجموعة، أن يتّخذ قرارًا صعبًا.
لذا، لم يكن هناك مفر من الإسراع في متابعة الرحلة.
واكتفى القائد بإرسال فارسٍ واحدٍ عائدًا إلى أقرب مدينة،
ليُرسل برقية عاجلة إلى العاصمة.
[اختفاء جيني كرويل!]
في ظل غياب طالبة كانت من المفترض أن تُشارك في بطولة دولية،
كان من البديهي أن يتم إرسال بديل.
ولم يمضِ وقت طويل حتى عاد الفارس الذي ذهب لإرسال البرقية،
وقد عاد —ويا للمفاجأة — بجواب من الملك نفسه.
وكان محتوى الرسالة مختصرًا، لكنه حاسمًا:
[سوف نُرسل بديلًا. وسنُحاسبكم عند عودتكم.]
كان قلب قائد الفرسان يتآكل من الداخل.
فحجم المسؤولية الملقاة عليه لا يُقارن بما يتحمّله الأستاذ دينيل.
“يا إلهي… يا له من موقف مزعج حقًا.”
“إحضار بديل أمر شاق بحد ذاته، لكن إجراءات الدخول ستكون أعقد بكثير.
أليس برج السحرة معروفًا بتشدده؟”
“بلى… هذا ما يُقال.”
“أفكّر جديًا في اقتراح رسمي: أن نصطحب من البداية عددًا إضافيًا من الطلاب تحسّبًا للطوارئ. نظام المرشحين سيكون فكرة معقولة، أليس كذلك…؟”
“هل جننت؟! ما تقوله هذا أمر غير مسبوق! لا ينبغي أن يتكرر، بل لا يجوز أن يحدث من الأصل! حقًا، إنك شخص لا يعرف كيف يُفكر!”
كان قائد الفرسان سيئ المزاج في الأصل،
لكن في الأيام الأخيرة، بلغ توتره ذروته.
من الواضح أنه يرفض تقبّل ما جرى،
لأنه يشعر أن هذه الحادثة ستُلقي بظلال سلبية على سُمعته ومسيرته.
“أظن أنك تبالغ في رد فعلك. ما أردت قوله فقط هو… أننا مقبلون على بطولة،
وقد يتعرض أحد الطلاب لإصابة، أو قد تقع حوادث مفاجئة في أي وقت. فلمَ لا نستعدّ لما لا يُتوقّع…”
“كفّ عن الكلام. رأسي يؤلمني بما فيه الكفاية الآن.”
قطّب قائد الفرسان حاجبيه بحدة، متجهمًا في وجه دينيل،
ثم ضرب مؤخرة جواده بقوة، وانطلق بسرعة لعدة أمتار إلى الأمام.
يبدو أنه أراد أن يكون بمفرده.
أما دينيل، فتمتم بشتيمة خافتة لم يُرِد لأحد أن يسمعها، وهو يحدّق في مؤخرة رأس القائد.
كانت أجواء الوفد متوترة ومتدهورة إلى أقصى حد.
فحين يكون مزاج القائد، الذي يُعدّ في نظرهم كالسماء، في الحضيض،
كان من الطبيعي أن يتخذ الفرسان الحذر الشديد.
وعندما لا يستطيع حتى المعلم أن يُخفي غضبه أمام الطلاب،
فمن البديهي أن تنخفض معنويات الجميع.
ورغم محاولات الكبار التكتّم،
إلا أن الأطفال كانوا يدركون كل شيء.
كانوا يعلمون أن طالبًا واحدًا مفقود.
ومع أن موت زميل من نفس العمر هو أمر صادم لأي طفل،
فإن حتى الصبي من قسم القتال، الذي كان أحد قادة التنمّر على جيني كرويل،
لم يستطع كتم دموعه، وأخذ يبكي بصمت.
أما الفرسان من أصولٍ عامّية، والذين كانت تجمعهم علاقة طيبة بجيني،
فقد اغرورقت أعينهم بالدموع كذلك.
في الأحوال العادية، لم يكن قائد الفرسان ليسمح بمثل هذا الضعف،
لكنه غضّ الطرف هذه المرة.
أما نوبات غضبه تجاه كل شيء آخر، فكانت مسألة منفصلة تمامًا.
“هانسن! فيلو!”
صاح القائد فجأة، فاندفع هانسن وفيلو راكضين بخيولهما من الخلف.
“نعم، سيدي القائد!”
“هل ناديتنا؟!”
“اذهبا.”
لم يُلقِ القائد نظرة على هانسن وفيلو وهما يسرعان نحوه،
بل اكتفى بالإشارة بذقنه في اتجاهٍ معين.
كانت الإشارة موجَّهة إلى اثنين من الحراس المدججين بالسلاح عند بوابة فالين.
إجراءات الدخول والتفتيش كانت، بطبيعة الحال، من المهام المُتعبة التي يُوكَل بها أدنى الطبقات
أما في حالة الفيلق الملكي الخامس، فكانت تلك المهمة من اختصاص هانسن وفيلو.
“حاضر!”
انطلق الفارسان بسرعة، فتقدّما الركب وتوجّها مباشرة نحو البوابة.
كان التوتر بادياً عليهما، والسبب معروف:
شعب بايلان يحمل كراهية خاصة لشعب ديميتري.
فالعلاقة بين الدولتين لطالما كانت عدائية.
وكان من المعتاد أن تكون إجراءات التفتيش صارمة أكثر من اللازم،
لا لشيء سوى لمجرد النكاية بالآخر.
طريقة تعامل الطرفين مع بعضهم البعض كانت، كما لو كان الأمر متفقًا عليه،
خشنة، بل وعدائية،
وكأن كل جانب يتمنى التهام الآخر.
فكلٌّ منهما يرى أن فقدان هيبة إمبراطوريته كان سببه عناد الطرف الآخر.
حتى في مهرجان وينكان كان كل ما يتمناه كل طرف هو هزيمة الآخر، ولا شيء أكثر.
ولهذا، لم يكن من المتوقع أن يتم استقبال وفد الأكاديمية بأي نوع من الود.
لكن ما حصل كان عكس التوقعات تمامًا.
“أوه، أهلًا وسهلًا بكم! لقد كنا ننتظركم!”
“وأخيرًا وصلتم، أيها السادة من أكاديمية ديريك!”
كان من المفترض ألا يحدث هذا أبدًا.
“م-ما هذا؟”
“لمَ كل هذا الترحيب؟”
كان الأمر مفاجئًا ومربكًا للغاية.
أمسك هانسن بلجام حصانه لا شعوريًا،
بينما تصلّب وجه فيلو وبدت عليه ملامح الريبة والانزعاج.
عادةً، حتى لو أُبقوا واقفين خارج أسوار المدينة لساعات بحجج واهية،
فلم يكن ذلك ليثير الاستغراب،
أما هذا الترحيب العجيب… فلا تفسير له إطلاقًا.
“لا تعلمون كم انتظرنا قدومكم!”
“صحيح! هيا، سارعوا بأستلامها، لم نعد نحتملها أكثر”
.
.
.
“…استلام؟”
“بسبب فرار القائد تشابيل، اضطُررتُ إلى تحمّل عبء تلك المشاغبة وحدي.
لم يكن عليّ أن أُدخلَها بتلك السهولة آنذاك…لقد كتبتُ اثني عشر تقريرًا تأديبيًا بسبب أنني كنت المسؤول عن إدخالها.
خذوها الآن، وتحمّلوا مسؤوليتكم!”
كان الحارس يتحدث بنبرة تنمّ عن ارتياحٍ شديد، وكأن عبئًا أُزيح عن كاهله.
أما هانسن وفيلو، اللذان لا يفهمان شيئًا مما يجري،
فنزلا عن حصانيهما واقتربا من الحراس بوجوه متحيرة.
كان واضحًا أن هناك سوء فهم كبيرًا.
التعليقات لهذا الفصل " 44"