0
على الطاولة المستديرة فنجانان من الشاي الأحمر يتصاعد منهما البخار، ومزهرية تحتوي على أزهار جميلة تم تنسيقها بعناية، ورجل وامرأة شابّان يجلسان متقابلين.
إدوين ترييد و كورديليا ماير روشيستر.
كلاهما كان من الأسماء المعروفة في العاصمة، كلٌّ لأسباب مختلفة.
لكن بالنظر إلى أنّه لم يكن بينهما أيّ تواصل من قبل، لم يكن من الصعب تخمين أن هذا اللقاء أُعدّ على عجلٍ لغرض التحالف بين العائلتين.
كانت السيدة ليمنت، مربّية الأميرة الوحيدة للعائلة الملكية في روشيستر، تراقب المشهد بقلب قلق.
***
بدأ كلّ شيء قبل عدّة أشهر، من الصراع المتواصل بين مجلس الشيوخ ومجلس النواب.
“يبدو أنّ هناك من لا يزال يحاول التقرب من ولي العهد هذه الأيام.”
اجتاحت رياح الحريّة البلاد وهي تنادي بالتحرر من سلطة الحُكم وبقوة رأس المال.
فقدت معظم العائلات الملكية جزءًا كبيرًا من سلطتها التي كانت تُمارَس بلا حدود.
وفي الأراضي التي خفَت فيها سلطة الملوك، بدأت الفرص الجديدة بالظهور بلا انقطاع.
ظهرت أنماط جديدة من المشاريع، وتطورت وسائل النقل لتُقلّص زمن التنقّل مقارنةً بالمشي أو العربات التقليدية.
“وما المهم في وجه وسيم قليلاً؟”
هكذا تغيّر العالم، لكن العائلة الملكية في روشيستر حافظت على وجودها ببيع صورة الأسرة المالكة المتناغمة، رغم فقدانها بعضًا من نفوذها.
وكان المظهر الخارجي لأفرادها هو ما ساهم أكثر من غيره في ذلك.
“جميلةٌ تزوجت وسيمًا، فأنجبا أولادًا أكثر جاذبية منهم.”
كان وليّ العهد قد ورث من الملكة بشرته البيضاء وملامحه الرقيقة الجذابة، أمّا الأميرة فقد ورثت من الملك ملامح واضحة وحضورًا مشرقًا وابتسامةً آسرة.
وكان شعرها الأشقر اللامع سببًا في تلقيبها بـ”أميرة الفريزيا”.
“وليس السبب في ذلك المظهر فقط، فهناك من لا يزالون يؤمنون بالملكية ويدعمونها. ألا ترى أن هذا ما يحدث الآن؟”
قال أحد نوّاب البرلمان وهو يزفر، مشيرًا إلى الصفحة الأولى من إحدى المجلات الأسبوعية التي تناولت زلّة لسان رونالد نيفيل، سكرتير وليّ العهد لورنسن ومالك مقاطعة نيفيل.
[مجلس النواب، الملوّث بالرأسمالية السوقية، يخطط لتمرّد الشعب]
[الملكية هي أكمل نظام سياسيّ على الإطلاق]
عمّت الفوضى البرلمان.
صرخ أعضاء مجلس النواب قائلين إنّ أعضاء مجلس الشيوخ لا يختلفون عن النبلاء القدامى، وإنهم لا يعرفون شيئًا عن الواقع.
كما طالبوا بعزل الكونت نيفيل فورًا، مهددين بأنه إن لم يُعزل، فسيُعتبر وليّ العهد لورنسن شريكًا في رأيه.
“علينا أن نُقصي أسرة نيفيل تمامًا هذه المرة!”
لكن في الحقيقة، كان خلف تلك الشعارات هدفٌ خفيّ؛ إذ كانت بعض الأطراف تتمنّى الإطاحة بأسرة نيفيل الذين خدموا العائلة المالكة لقرونٍ طويلة.
فقد استمر الصراع بين القصر ومجلس البرلمان دون انقطاع.
وخلال ذلك، استعاد الإعلام ذكرى مملكة ريموار المجاورة حين مرّت بفترة انتقالية.
فقد دعمتها مملكة روشيستر بمال هائل لحماية ملكيتها، لكن ريموار انتهت بتبنّي النظام الجمهوري دون أن تُعيد فلسًا واحدًا من المال.
ثم بدأوا بالحديث عن أنّ نية القصر بفرض ضرائب إضافية مؤخرًا سببها الأزمة المالية الناتجة عن انخفاض ثروة العائلة المالكة مع استمرار إسرافها.
وبالطبع، تحوّلت تلك الشائعات إلى انتقادات واسعة لجمود النظام الملكي.
العالم يتغيّر، لكن القصر لا يتغيّر.
فما جدوى وجودهم إذًا؟
هكذا بدأ الناس يهزّون أُسس شرعية العائلة المالكة ذاتها.
بسبب زلّة لسان الكونت نيفيل، تلقّى وليّ العهد لورنسن هجومًا لاذعًا بتهمة التقصير في إدارة تابعيه.
لكن سرعان ما تغيّر الرأي العام عندما انتشرت صورة وجهه الجميل وقد اعتلاه الحزن.
“أتفهم غضب مجلس النواب تمامًا.”
اعترف لورنسن بمسؤوليته عن هذه الفوضى، وتوجّه إلى البرلمان ليعتذر عن فشله في ضبط أتباعه.
لكنه أضاف أنّ أسرة نيفيل، أسرةٌ خدمت القصر طويلاً، وليس من اللائق طردهم دون منحهم فرصةً للتوبة.
“العائلة المالكة تعي تمامًا أن مجلسي النواب والشيوخ كلاهما جزءٌ من الهيئة التشريعية، وتؤكد أنها لا تحتقر العامة أو تنظر إليهم بتعجرف.”
لكن النواب لم يصدقوا كلامه.
فقد جلب معه الصحفيين وأصحاب النفوذ، ما جعل نواياه واضحة: اعتذارٌ بغرض التغطية الإعلامية.
أما الشعب الذي اعتاد على النظام الملكي، فقد شعر بالشفقة تجاه وليّ العهد الذي اضطر إلى الانحناء أمام العامة.
فحبّهم للعائلة المالكة كان أقرب إلى عادة متجذّرة.
“لكن لا يوجد فردٌ واحد من العامة بين أفراد العائلة المالكة. كيف نصدق إذًا أنكم مخلصون في قولكم؟ أظهروا لنا برهانًا على ذلك.”
لم يكن بالإمكان توبيخ الشعب على جهله، ولا الانسحاب من المواجهة، فالموقف كان ميؤوسًا منه.
وفي النهاية، قال رئيس مجلس النواب إنّ الاعتذار لا يكفي، وإنه لا يرى أيّ دليل على صدق كلام وليّ العهد.
حينها انفجر أعضاء مجلس الشيوخ غضبًا، قائلين إنّ العائلة المالكة انحنت بما فيه الكفاية وإنه لا ينبغي إذلالها أكثر.
واستمرّ الجدل العقيم بين الطرفين دون نهاية.
“يُقال إنّ الأميرة كورديليا ستتزوج من عامّي يُدعى إدوين ترييد! بل إنّ الملك نفسه وافق!”
لا يمكن للقصر أن يخسر، لكنّه لا يستطيع الاستمرار على هذا النحو أيضًا.
وهكذا بدأت مأساة زواج كورديليا غير المتكافئ وسط صراعٍ لا يحتمل التراجع.
***
كان مجرد تداول الخبر يوميًا مرهقًا للجميع.
ولأنّه لم يكن حدثًا سارًّا، فقد كان الخطر الأكبر أن يتحوّل سخط الشعب المتزايد إلى موجة ضد النظام الملكي بأكمله، وهو ما قد يقود إلى أسوأ مستقبل ممكن لروشيستر.
“أنا؟! أنا أتزوج من؟!”
لم يكن أحد ليتوقع أن تكون الأميرة كورديليا هي الضحية.
كانت السيدة ليمِنت تتذكر بوضوح الفوضى التي حدثت في جناح الأميرة قبل أسبوع.
حين جاء الملك والملكة ووليّ العهد ليخبروها بالخبر، جحظت عيناها من الصدمة.
“أتزوّج من عامّي؟!”
قرّر القصر أن يُثبت للعامة أنّه لا يحتقرهم، وأنّ مجلس النواب شريكٌ سياسيّ حقيقي، من خلال زواج الأميرة كورديليا من رجل من عامة الشعب يُدعى إدوين ترييد.
وبالمقابل، ستقدّم عائلة ترييد دعمًا ماليًا كافيًا للقصر كي يحافظ على استقراره المالي دون فرض ضرائب إضافية.
في تلك اللحظة، كانت السيدة ليمِنت تُسرع لإسناد الأميرة التي ترنّحت من شدّة الصدمة.
ولأنّ الخدم أُبعدوا مسبقًا حتى لا يسمعوا شيئًا، لم يكن بجانب الأميرة سوى مربّيتها لتمسك بها.
“لماذا أنا؟! ليتزوج هو من عامّية ليثبت ذلك! اجعلوا عائلة باركوت تدفع المال إن كنتم بحاجة إليه!”
صرخت كورديليا وهي ترتجف من الإهانة، فحاولت الملكة تهدئتها بابتسامة متوترة، وكان وجه وليّ العهد مُغطّى بالحرج.
“أنا آسف يا كورديليا، لكنني مخطوب منذ سنوات للسيدة باركوت، ولا يمكنني التخلّي عنها، فهذا ضدّ ما تمليه الأخلاق.”
شرح لورنسن ذلك بحذر، لكن كورديليا انفجرت بالبكاء كطفلة صغيرة.
لم تكن وريثة العرش، لذا نشأت مدلّلة بين والديها، ولم يُعقد لها أيّ ارتباط رسميّ حتى الآن بفضل حبهما المفرط لها.
لكن لم يكن أحد يتوقّع أن يتحوّل ذلك الحبّ إلى قيد يؤلمها لاحقًا.
“أهذا فقط؟! أهذا هو الحلّ الوحيد؟!”
تشبثت كورديليا بثوب الملكة والملك وهي تبكي وتبحث عن أيّ أمل.
“أنت تعرفين، يا كورديليا، نحن من العائلة المالكة، وعلينا أن نُصلح الأوضاع بسرعة كلّما حلّت أزمة في البلاد.”
لكن الردّ كان قاطعًا: لا سبيل آخر سوى هذا.
“على الأقل، عائلة ترييد هي الأغنى في روشيستر، والابن الأكبر إدوين سيرث كلّ ذلك قريبًا.”
حاول لورنسن تهدئتها بتذكيرها بثراء تلك العائلة، لكنه لم يُخفف عنها شيئًا.
كيف يفعل، وزوجها المرتقب ليس سوى رجل من عامة الشعب، متزوّج سابقًا، وفاقد لزوجته؟
“هذا غير معقول… أليس كذلك، سيدة ليمِنت؟”
كانت كورديليا تبكي بمرارة حتى بدا وجهها الجميل في اليوم التالي أشبه برغيف خبز انتفخ أكثر من اللازم.
وكان ذلك أمرًا طبيعيًّا، إذ إن هذا الزواج بالنسبة لها لم يكن إلا فقدانًا لشرفها.
“…”
والآن، مضى على ذلك نحو أسبوع تقريبًا.
أرون ترييد أرسل ابنه إدوين ترييد إلى القصر ليمهّد لإتمام الزواج. كان هذا أول لقاءٍ بين من سيصبحان زوجين قريبًا، ولولا طبيعة الظروف لرافق اللقاء شيءٌ من الترقّب أو الحماس.
لكن بالنسبة للسيدة ليمونت، كان هذا الموقف مصدر قلق بالغ من جميع النواحي. فقد كانت كورديليا قبل أيامٍ فقط تبكي بحرقة رفضًا لهذا الزواج، كما أنّ كون إدوين ترييد من عامّة الشعب يظلّ حقيقةً لا يمكن تغييرها.
“تأكّدي، يا سيدة ليمونت، من أن كورديليا لا ترتكب أي حماقة أثناء اللقاء.”
ويبدو أنّ الملكة كانت تشعر بالقلق نفسه، حتى إنها أصدرت أمرًا خاصًّا للسيدة ليمونت. فاحتفظت الأخيرة بأمر الملكة في قلبها، وبدت متحفّزة كقنفذ يشهر أشواكه.
تحت أشعة الشمس الدافئة التي تسلّلت إلى داخل الدفيئة الزجاجيّة، كانت خصلات كورديليا الذهبيّة تتلألأ كأنها خيوط من العسل. وأما كورديليا نفسها فكانت…
“……أتبتسمين؟”
رغم ملامحها المتحفّظة، كانت تبتسم فعلًا.
نطقت السيدة ليمونت بذهولٍ لا تصدّقه، متمتمة في ذهول تام.
تبتسم؟ حقًّا؟ أيمكن أن يكون هذا حقيقيًّا؟
تردّدت الأسئلة غير المصدّقة في رأسها بلا توقّف.
“إن تزوّجتِ من إدوين، يا كورديليا، فلن يكون من الصعب منحه لقبًا نبيلا.”
صحيح أنه إن حصل إدوين ترييد على لقبٍ نبيل، فلن تضطر كورديليا للهبوط إلى أسفل السلّم الاجتماعي، لكن لم يكن أحدٌ يتوقّع منها أن تبتسم بلا أي مشاعر سلبية بعد كل ذلك البكاء المُرّ.
“هذا مبهج.”
لكن الأميرة كانت تبتسم.
أصيبت السيدة ليمونت بارتباك شديد كما لو كانت تعاني من تشوّش إدراكي. كانت كورديليا لا تزال تبتسم كما رأتها، بينما جلس إدوين المقابل لها بابتسامة هادئة هو الآخر.
“آه…”
تنهّدت السيدة ليمونت بإعجاب قصير.
لقد ربّت كورديليا منذ نعومة أظفارها، ولهذا أدركت فور أن التقت عيناها بعيني إدوين سبب تلك الابتسامة على وجه الأميرة.
إدوين ترييد.
ذلك الرجل الذي خدم في البحرية مطاردًا القراصنة، والذي لم يتمكّن حتى من حضور لحظات احتضار زوجته الأولى بسبب مرضها، كان يحمل قصة مؤلمة.
لكن شهرته الحقيقية لم تأت من ذلك السبب.
“يا له من وسيم!”
ما إن عاد إلى العاصمة بعد وفاة زوجته الأولى، حتى اجتاح المدينة بوسامته المذهلة كخضرة الصيف الكثيفة.
وبين السيدات اللاتي كنّ يرمقنه بإعجاب ويرمينه بنظرات مغازلة يومًا بعد يوم، ظلّ ثابتًا، محتفظًا بهدوئه وأناقته المشرقة…
“لو أنكِ وافقتِ على الزواج من الأمير الثاني لمملكة ميلتون حينها، ألن يكون ذلك أفضل بكثير؟”
قالت الملكة، فقوبلت بكلمات صاخبة من الأميرة الطائشة التي لا تحبّ إلا الجمال.
“الأمير الثاني قبيح، قبيح جدًا!”
“يا إلهي! يا ابنتي!”
نعم، لم يكن عجبًا أن تكون سمعتها كما هي.
–
تابعو حسابي على الانستقرام @beecatchuu لمعرفة اخبار الروايات ومزيد من المحتوى 🩷
Chapters
Comments
- 0 - المقدّمة منذ يوم واحد
التعليقات لهذا الفصل " 0"