حتى بعد أن رمشت بضع مرات، وقلبت الرسالة ونظرت إليها مجددًا، لم يتغير التوقيع. حدّقت كورديليا في الرسالة الموقّعة باسم زوجها بوجهٍ خالٍ من التعابير.
– أقسم لك بما أملك وما سأملكه مستقبلاً. ما لم تغرزي خنجرًا في قلبي أو تبلغ علاقتنا حدًّا لا يمكن إصلاحه، سأهبك عمري كله وأعيش من أجلك.
بدأ بصرها يصعد ببطء من التوقيع إلى متن الرسالة.
كان من غير الواقعي أن يكون إدوين هو الكاتب الذي يعترف بحبه بهذه الشفافية ويعد بتكريس حياته بشكلٍ يكاد يكون أعمى. حتى عندما اكتشفت اسم إدوين في هذه الرسالة الغرامية، لم يخفق قلبها كما ينبغي، ولعل ذلك بسبب عدم تصديقها للأمر.
لكنها مع ذلك لم تستطع التفكير بوضوح فور أن رأت اسم زوجها موضوعًا في مكان غير متوقع. فقد قالت هايلي إن الكتاب يحوي رسائل شخصية تخصها، لكن المرسل إليه يدعى سالي هانترز، والمرسل إدوين ترييد. أهذا نوع من الابتذال؟…
“…….”
توقفت سلسلة الأفكار التي كانت تكتب في ذهنها مقال فضيحة فاضح.
رسالة تعترف بحب مؤلم ومفعم بالمشاعر… أن يكون كاتب مثل هذه الكلمات هو إدوين؟ هل إدوين رجل يمكنه فعل ذلك؟
صحيح أنه يهمس لها بمودته، لكنه لم يكتب لها يومًا رسالة كهذه المليئة بالكلمات الحلوة.
تسلّل الشك إلى ذهنها. أهذه الرسالة كتبها إدوين حقًا؟ أم أنها فخ نصبتْه هايلي ترييد؟
فجأة بدا طلب هايلي المتظاهر بالبراءة مريبًا. رفعت كورديليا رأسها بسرعة وكأنها كانت غارقة داخل الرسالة، ثم وضعتها داخل الكتاب وركضت إلى غرفتها.
“أين وضعتها؟”
تذكرت بطاقة كانت في درج طاولة الزينة مؤخرًا. كان إدوين يقدّم لها بطاقة قصيرة مع كل هدية، ولم يكن هناك طريقة أفضل للتحقق مما إذا كانت هذه الرسالة فخًا أم لا.
كانت يدها عنيفة ومتسرعة وهي تفتح وتغلق الدرج. وضعت الرسالة القديمة جانبًا وأخذت تبحث داخل الدرج حتى وجدت بطاقة إدوين في الأسفل.
لعقت شفتيها الجافتين ثم أخرجت الرسالة من بين صفحات الكتاب، ممسكة بالورقة المتجعدة التي أفسدتها قبضتها المرتعشة. وضعتها بجانب البطاقة الزرقاء. راحت عيناها الزرقاوتان تتحركان بلا هدوء يمينًا ويسارًا.
“…….”
توقّف بصرها عند كلمة واحدة. طريقة كتابة الحرف الأول “ت” بخط اليد كانت مختلفة تمامًا.
انسابت القوة من جسدها المتشنّج وخرج منها زفير قصير يشبه الراحة. لقد كان تخمينًا معقولاً، واستنتاجًا سليمًا.
لا شك أن هذا حيلة رخيصة من هايلي ترييد.
لقد بدأت هايلي تشعر بالقلق أصلاً. علاقة كورديليا وإدوين كانت في أفضل حالاتها، وإدوين يحقق نجاحًا في مهامه كافة، بينما وجود بارتون بات باهتًا وكأنه مُمحى.
إذن هذه محاولة واضحة لإفساد مزاجها وزرع الشك بينها وبين إدوين. ولو انساقت وراءها، فلن تجني سوى خدمة هذه المرأة البغيضة.
ظهرت أمامها صورة غرفتها الهادئة والمسالمة. وهذا ما أرادت هايلي تحطيمه.
استعادت ذكرى احتقار إدوين الشديد لهايلي، ورأت الآن أن حكمه عليها كان صائبًا. هايلي حقًا امرأة خبيثة ومتسللة كالأفعى.
“كيف تجرؤ…!”
أن تحاول التلاعب بأميرة مملكة؟ ما إن اختفت راحة اكتشاف أن الرسالة ليست من إدوين، حتى ملأها غضب ثقيل.
“سموكِ.”
بينما تفكّر كورديليا في كيفية ردّ هذه الإهانة، قاطعها صوت طرق على الباب وصوت السيدة ليمونت. التفتت كورديليا نحو الباب.
“ولي العهد أرسل لكِ رسالة.”
حملت السيدة ليمونت خبرًا غير متوقع. منذ وصولها قصر ترييد، بالكاد كان لورنسن يرسل رسائل إلا لإدوين. فما الذي دفعه للتواصل معها الآن؟
“أخي؟ أدخلي.”
لورنسن لم يكن ليتصرف هكذا دون سبب مفاجئ. فكّرت كورديليا بذلك بينما أذنت للسيدة ليمونت بالدخول.
“أعطني إياها.”
وضعت الرسالة وبطاقة إدوين داخل درج الطاولة، ومدّت يدها نحو السيدة ليمونت.
“هل وجدتِ الكتاب؟”
اقتربت السيدة ليمونت وسلمتها الرسالة، ثم سألتها إن كانت قد وجدت ما تبحث عنه.
“آه، نعم.”
أومأت بعينيها نحو الكتاب ذي الغلاف الأخضر على الطاولة، ففهمت السيدة ليمونت وأحضرت سكين فتح الرسائل.
“هذه هي سكين الرسائل.”
“شكرًا لك.”
ما إن مررتِ السكين على الظرف حتى انبعثت منها رائحة حادة ولاسعة تسللت لأنفها. قطبت كورديليا قليلاً، رغم أن الرائحة مألوفة لديها، فقد شمّتها كثيرًا من قبل لأنها الرائحة المفضلة للورنسن.
“يبدو أنه سيحضر زفاف تشيستر غدًا.”
“سموه ولي العهد؟”
“نعم. ويقول إنه سيكون من الجيد أن يراني حينها.”
“يا له من أخ عطوف.”
ابتسمت السيدة ليمونت وهي تمتدح روابط الأخوة بينهما. ولي عهد يخرج لحضور مناسبة قصيرة فقط ليرى أخته المتزوجة… أمر يستحق الإعجاب.
لم تنكر كورديليا ذلك، فلورنسن كان بالفعل أخًا ودودًا معها.
“الخادم الذي أحضر الرسالة ينتظر بالخارج.
استلمتها نيابة عنك لأنك كنت في غرفتك، لكنه قال إن الرد مطلوب بسرعة.”
“نادوا لينا إذن.”
“نعم. سأُدخل لينا، ثم أوصل الكتاب الذي طلبته السيدة هايلي ترييد.”
توقفت كورديليا لحظة عند سماع هذا. فكرت ما إذا كان ينبغي أن تعيد الرسالة التي وجدت مع الكتاب.
“حسنًا. وإن سألت هايلي عمّا إذا كان هناك شيء آخر، فقولي لها إن هذا كل ما عُثر عليه. لا تجيبي بأكثر من ذلك.”
“حالاً.”
أومأت السيدة ليمونت وغادرت.
“…….”
ما إن أغلق الباب حتى انتقلت نظرة كورديليا إلى درج الطاولة المرتّب. كان بإمكانها إخبار السيدة ليمونت، لكنها آثرت عدم فعل ذلك. فقد كانت الرسالة التي وجدتها رابضة في مكانها.
لو كان الأمر طبيعيًا، لشعرت بالذنب لأنها أخذت شيئًا لا يخصها. لكن الآن لم تشعر بتأنيب الضمير. فقد رأت نية هايلي شريرة للغاية.
“سموكِ، أنا لينا. جلبت ما طلبتِه.”
“شكرًا، لينا.”
هي لا تصدق الرسالة. بل لا تعرف أصلاً ما الذي ينبغي أن تصدقه. لكن تساؤلات كثيرة تدور.
كيف تجرؤ هايلي على تزوير رسالة باسم إدوين؟ وإن كانت ستجرؤ على استخدام اسمه، فلماذا لم تحاكِ خطه بطريقة صحيحة؟
وإن افترضنا — مجرد افتراض — أن الرسالة كتبها إدوين حقًا لامرأته السابقة، فهناك أمور كثيرة مثيرة للريبة.
كيف وصلت ليد هايلي؟ ولماذا ادّعت أنها رسالة تخصّها؟
“…….”
وكأنها تريد الإيحاء بأنها كانت زوجة إدوين السابقة؟
هزّت كورديليا رأسها.
فكرة سخيفة. لو كانت هايلي زوجته السابقة فعلًا، لما سمح إدوين بحدوث ذلك، ولما قبل آرون اعتبارها فردًا من العائلة. ثم إن إدوين قال إنه فقد زوجته.
أغمضت كورديليا عينيها، وهزّت رأسها لتطرد هذه الأفكار، ثم بدأت تكتب رسالة ودية إلى لورنسن تخبره فيها بأنها سترحب بقدومه. بينما ذهنها مشغول بالتفكير في كيفية إعادة هذا الغيظ الذي سببته تلك المرأة البغيضة.
دون أن تعلم أن الإجابة أحيانًا تكمن في أفكار تبدو عابرة.
التعليقات لهذا الفصل " 88"