لا ينبغي السماح لشخص مريب بالدخول إلى مساحتها الشخصية. وهكذا، صار لدى كورديليا، التي كانت بلا حس حماية طوال الوقت، معيار واضح أخيرًا.
“لكنني سأدخل المكتبة بنفسي وأتفقد الأمر ثم أخبركِ.”
ومع ذلك، فإن البحث عن رسالة لا تشكّل أي تهديد هو أمر يمكن القيام به بين البشر. هكذا فكرت كورديليا، ثم أخبرتها إنها ستبحث بنفسها في مكتبة إدوين لترى إن كان الكتاب الذي تبحث عنه هايلي موجود هناك.
وبغض النظر عن مشاعرها تجاه هايلي كشخص، فقد أرادت أن تتصرف بإنسانية. فليس من العدل كشف قصة حب قديمة أمام عائلة زوجها.
“شكرًا جزيلاً، سموك!”
رفعت هايلي رأسها بفرح بعد أن كان منخفضًا بخيبة أمل. كل ما تريده هو العثور على الكتاب والرسالة بداخله، لا أكثر.
“سموكِ، الدوق…”
“آه، صحيح. سأخبركِ لاحقًا يا هايلي.”
كما أن العثور على الكتاب والرسالة يكفي هايلي، فإن استقبال زوجها يكفي كورديليا. ودّعت هايلي على عجَل وخرجت من الدفيئة.
وما إن خطت بضع خطوات نحو الملحق حتى سمعت صوت حوافر واقتراب عربة إدوين. فكرت كورديليا أن العربة ستمر بجانبها، فتراجعت خطوة جانبًا.
لكن العربة لم تمر بجانبها، بل توقفت قريبًا منها. نظرت كورديليا في دهشة إلى الحذاء الذي ظهر عبر الباب المفتوح، وإلى الساقين الطويلتين وهما تهبطان إلى الأرض.
“سموكِ.”
رفعت رأسها ببطء لتنظر تحت السماء التي تلوح فيها ألوان الغروب، شعرًا بنيًّا تتوهج أطرافه الحمرة تحت أشعة الشمس. بدا أن أمرًا ما أزعجه، فشعره الذي كان مرتّبًا جيدًا في الصباح صار مبعثرًا قليلاً. ومع كل نسمة ريح تحرّك خصلاته، تسلّل عطره إليها برفق.
“شعرك مبعثر قليلاً. بدا لي أنك كنتَ منزعجًا ومسحتَه بعصبية.”
“استنتاج منطقي.”
أقرّ إدوين بأن حدسها صحيح. وأخبرها إنه انزعج بعد سماع أخبار تتعلق بليام هامبتون.
“لماذا؟ هل شتمك؟”
“لا، لم يشتم، لكن…”
تتابعت خطواتهما فوق حجارة الطريق نحو الملحق.
“ادعى أنه لا خلفية له، وأن المقال كتب لأول مرة.”
“…”
“لا يمكن أن يكون ذلك صحيحًا.”
غمغم إدوين وهو يرمش بعينين متفكرتين. كان الغروب يكسو الخضرة في عينيه بلون بني باهت يغلف انزعاجه.
“لا بأس. سأذهب إلى لقائه قريبًا على أي حال. وحين يكون على وشك الموت، سيتكلم بالحقيقة.”
هل يعني أنه سيقتله؟
ما إن طرأت الفكرة حتى التفت إليها إدوين بوجه ناعم فجأة، دون أن يمنحها فرصة لاستعاب نواياه المظلمة.
“وماذا فعلتِ اليوم؟”
“تلقيتُ هديتك… صحيح، الهدية! لماذا أرسلتها فجأة؟”
رفعت كورديليا رأسها تنظر إليه متذكرة هديته التي نسيتها تمامًا. ولم تنتبه إلا وقد توقفت خطواتهما في الطريق.
“لم أقدم لك شيئًا. وما أردتُ تقديمه أُلغي أيضًا…”
“مرّرتِ بأيام صعبة مؤخرًا، وظننتُ أن مزاجكِ قد لا يكون جيدًا. كما تعبتِ من القيام بأمور لم يسبق لك القيام بها.”
قال إدوين بلطف وهو يلمّ خصلات شعرها المتطايرة، مسويًا إياها خلف أذنها. لم تتجنب كورديليا لمسته، بل قبلتها. رغم أن أطراف أصابعه كانت باردة قليلاً على بشرتها، لم تشعر بأي نفور، بل بدا الأمر مريحًا، وهذا ما أدهشها.
فكل ما يتعلق بإدوين كان كذلك. فكرت كورديليا بأن هذا شعور عجيب، وحدقت فيه. لم يفهم ما تفكر فيه، لكنه لم يتجنب نظراتها.
عندها، تذكرت كلمات هايلي.
“ألا يوجد شيء ترغب به؟”
“…”
“إذا كان شيئًا أستطيع أن أقدمه لك هدية، فبوسعك قوله.”
مال إدوين رأسه قليلاً كما لو أن السؤال فاجأه. تجعّد حاجباه بخفة وهو يفكر، في حين ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة جميلة.
“لا أدري… لست متأكدًا.”
“لا تريد شيئًا إطلاقًا؟”
سألته بإصرار، كأن فرصة الحصول على شيء ليست أمرًا يأتي كل يوم. عندها ابتسم إدوين، بينما راقبته كورديليا وهي تسترجع فكرة خطرت لها:
طفل يكون بيني وبينه.
لم تستطع تخيله؛ ربما بسبب ضعف خيالها. لم تستطع تصور ملامحه أو من سيشبه.
“كلما شابه الطفل الطرف الآخر، استطعت رؤية مراحل نمو ذلك الشخص التي لم تدركها من قبل.”
لكنها استطاعت أن تتخيل إنجاب طفل يشبه إدوين.
طفل بشعر بني فاتح وعيون خضراء تلمع كبراعم الربيع. طفل ممتلئ الخدين، مختلف عن إدوين الصغير الذي كان يتوق للحب ويتنقل بين الناس، بل طفل ينشأ وهو يعرف الحب ويكبر بلا نقص.
بمجرد أن تخيلت ذلك، خفق قلب كورديليا بعنف. رغم أنها كانت ترى الطفل كخطر يفسد حياتها ويأخذ وقتها، إلا أنها الآن شعرت بشيء مختلف.
“في الوقت الحالي…”
“ماذا عن طفل؟”
توقف إدوين عن الكلام عند الكلمات التي قذفت بها فجأة.
اختفت الابتسامة المحرجة من وجهه، وحلّت مكانها ملامح يصعب قراءة ما وراءها.
“يقال إن الإنسان حين يؤسس عائلة مع من يحب، يرغب برؤية طفل يشبهه.”
ولكن رغبتها كانت ملتهبة في داخلها. أرادت رؤية طفل يشبهه.
“لكنّك لم تطلب ذلك.”
أطبق إدوين شفتيه كمن لا يعرف ما يقول، ورمش ببطء. وقد تلونت عيناه بالكامل بلون الغروب الآن.
“لأنكِ قلتِ ألا أفرض عليكِ الأمر.”
“قلتُ لا تجبرني، لكني لم أقل ألا تتحدث عن رغبتك.”
ضحك إدوين ضحكة قصيرة أشبه بنفَس خرج في الهواء، ثم أعاد نظره إليها.
“إذا قلتُ إنني أريده، هل ستمنحيني إياه حقًا؟”
“إذا كان سيكون هدية لك.”
“…”
“وبالطبع، إذا كان طفلاً يشبهك، فسيكون أيضًا هدية لي…”
مال إدوين برأسه قليلاً وأمعن النظر في عينيها.
“أيمكنني أن أسأل لماذا سيكون ذلك الطفل هدية لسموكِ؟”
“لأنني أحبك. ولدٌ يشبهك يولد وينمو، وسأتمكن من رؤيته كله أمامي.”
“…”
“وأحب فكرة أن أحمل طفلك الصغير وأمنحه الحب. صحيح أنه ليس نسخة حقيقية من إدوين الصغير، لكنه…”
“هل ذلك يسعدكِ؟”
سألها. فنظرت إليه دون أن تهرب من عينيه، ودون تردد، ثم أومأت رأسها.
تطلع إدوين إليها بملامح مذهولة للحظة. كان وجهه جميلاً بشكل غريب، وبليد قليلاً. لدرجة جعلت كورديليا تنسى خجلها لأنها كانت أول من أعلن رغبته بطفل، فضحكت وهي تعانقه بشدة.
انتفخ صدر إدوين تحت وجهها، ثم عاد للانخفاض، قبل أن يدفعها برفق بعيدًا.
رفض؟
كان ذلك غير متوقع، رغم أنها طرحت الأمر فجأة. وقبل أن تتمكن من إخفاء ارتباكها، أمسَكَ إدوين معصمها الرفيع دون إيذاء.
“لا مجال للندم لاحقًا.”
ارتفع نظرها تلقائيًا باتجاه وجهه عبر امتداد ذراعه. كانت أضواء الملحق تتلألأ خلف كتفه، بينما ابتسم بطريقة تختلف عن المعتاد.
“وإن ندمتُ؟”
“حتى لو ندمتِ الآن، فـ…”
أسقط إدوين كلماته ثم استدار وجذب يدها خلفه. وانساقت كورديليا بقوة ذراعه. ورغم أنه لم يكن يركض، إلا أن أنفاسها اضطربت في كل خطوة. الحرارة في قبضته، ودقات قلبه التي شعرت بها في جلدها، وصلت إليها كاملة.
عندها فقط أدركت ما فعلته. بدت كمن فقدت عقلها. هل تحولت لامرأة شهوانية تتوسل زوجها للعلاقة؟
لا، بل الأسوأ أنها عرفت ذلك، ولم تشعر بالندم—وهذا ما جعلها تشعر أنها فقدت عقلها حقًا.
التعليقات لهذا الفصل " 85"