لم تعرف السبب، لكن الأمر بدا لها مزعجًا على نحو غريب. وحين سألت بعد لحظة صمت عمّا يعنيه ذلك، فتحت هايلي عينيها التي كانت نصف مغمضة، ثم ابتسمت بتكلف.
“أقصد أنّ الدوق واقع في حب سموكِ حقا على ما يبدو، وهذا يسرّني رؤيته. لم أكن أعلم أنّه من هذا النوع.”
بدت في ملامحها شيء من الارتباك وهي تشرح على عجل. فمن منظور هايلي، كان من المفترض أن تكون العلاقة الجيدة بين إدوين و كورديليا أمرًا مزعجًا لها. لكن نبرة صوتها لم تكن من النوع المزعج أو المتضايق.
“إن كنتُ قد أزعجت سموك، فأنا آسفة. أعتذر لكِ.”
راقبت كورديليا هايلي وهي تكرر اعتذارها على إزعاج مزاجها دون أن تعلّق.
“كنت أقصد أنّي لم أكن أعلم أنّه شخص كهذا فحسب…”
“لا بأس، يمكنكِ التوقف عن الاعتذار.”
بقي شعور الضيق قائمًا داخلها، لكنها لم ترغب في إطالة الحديث حول أمر كهذا. فقررت إنهاء المسألة بقبول اعتذار هايلي بسرعة.
“سموك، أحضرت الشال الأخضر الذي طلبته.”
“شكرًا، لينا.”
جاءت لينا في الوقت المناسب بسرعة بديهية تحمل الشال الذي كانت كورديليا تبحث عنه. وبعد أن وضعته على كتفيها، خرجت مع هايلي إلى خارج الملحق. كانت أشعة الشمس مشرقة ودافئة.
“هل تخرجين للتنزه أحيانًا، سموك؟”
“ليس كثيرًا، فقط حين أشعر بالرغبة.”
“في النهار تكون الشمس جميلة، والمشي قليلاً يجعل المزاج أفضل.”
استغلت هايلي الحديث عن الطقس لتفتح باب الحوار مع كورديليا. يبدو أنها أرادت إصلاح الجو المتوتر الذي نشأ من حديثهما السابق. وبغض النظر عمّا يدور في داخلها، كانت هايلي تدرك أنّ كورديليا ليست ممن يمكن جعلهم أعداءً بسهولة، لذا كان من الطبيعي أن تشعر بالقلق.
“ألا يُطلب من الحامل عادة أن تبقى هادئة؟”
فما من خيار إلا مجاملتها قليلاً. أثنت كوردليا في نفسها على لطفها وردّت.
“البقاء دون حركة لا يفيد الجسد أيضًا، لذا أظن أنّ نشاطًا معتدلاً لا بأس به.”
“حقًا؟”
“… هكذا قال الطبيب الخاص.”
توقفت هايلي قليلاً عند ردّ كورديليا الذي بدا بلا اهتمام، ثم أضافت: بالطبع، لا بدّ أنها سمعت ذلك من طبيبها، من غيره؟ مشت كورديليا دون أن تكترث وتابعت خطواتها.
“مرحبًا بعودتك، سموكِ.”
وصلتا سريعًا إلى الدفيئة. جلست السيدة ليان داخلها كعادتها، محاطة بألوان باهتة وسط دفيئة مشرقة.
“مرّ وقت منذ أن رأيتكِ، يا سيدة ليان.”
“ذلك لأن سموك مررتِ بكثير من المتاعب مؤخرًا.”
“لم أفعل شيئًا كبيرًا، لذا أشعر بالحرج حين تقولين ذلك.”
“ما تفعلينه يُعد عظيمًا لأن سموكِ من تقوم به.”
لم تكن الأمور عظيمة بحد ذاتها، لكنها تصبح كذلك لأنها من فعل كورديليا، التي لم تفعل مثل هذه الأمور يومًا رغم كونها من العائلة المالكة.
وكحال هايلي، بدت السيدة ليان اليوم مختلفة أيضًا. فحين يكون آرون موجودًا، كانت قليلة الكلام. أمّا في غيابه، فكأن لسانها يصبح طليقًا.
“تفضلا بالجلوس. وأنتِ اجلسي بحذر يا صغيرتي.”
أشارت السيدة ليان إلى المقاعد، داعية كورديليا وهايلي للجلوس. كانت هذه أول مرة تشاهد فيها كورديليا السيدة ليان تدعوا هايلي للجلوس بهذه الأريحية منذ وصولها إلى قصر ترييد.
“يبدو أن السيدة ليان تهتم كثيرًا بهايلي.”
“لقد انتظرت حفيدًا طويلاً.”
ابتسمت هايلي بخجل عند سماع تعليق كورديليا. وللحظة فكرت كورديليا بأنها بلا كرامة، لكن ذلك سرعان ما تلاشى. فلو قضت عمرها تساير الآخرين دون أن تنال كلمة لطيفة، ثم بدأت تتلقى معاملة مختلفة بعد حملها بطفل بارتون، فربما كان ذلك مريحًا لها.
“على سيرة ذلك، ألم تسمعي أخبارًا سعيدة يا سموكِ؟”
تسلل سؤال هايلي الحاد كشوكة إلى أذن كورديليا، فلم تستطع تجاهله.
“يبدو أن الدوق ينتظر ذلك أيضًا. الرجال يحبون رؤية أطفالهم، سواء كان والدك أو بارتون.”
لم تستطع أن تقول بأنها اتفقت مع إدوين في عقد ما قبل الزواج على ألا يجبر أي منهما الآخر على الإنجاب، لذا كان الصمت هو الحل.
“وبما أن الدوق يحب سموكِ حبًا عميقًا، فلا بدّ أنه يرغب أكثر بطفل منكما.”
“وما علاقة محبته لي بوجود طفل؟”
لا يجب خلط الحب بالإنجاب. بدا الارتباك واضحًا على هايلي بعد سؤال كورديليا.
“عادةً…”
“عادةً ماذا؟”
“يحلم الناس طبيعيًا بإنجاب طفل يشبه من يحبونه، والعيش معه بسعادة.”
“…”
“وكلما شابه الطفل الطرف الآخر، كلما أمكن رؤية حياة ذلك الشخص ونشأته أمام عينيك، وكأنك تكتشف شيئًا جديدًا عنه.”
ابتسمت هايلي وربّتت بلطف على بطنها. حدقت كورديليا في المشهد كأنها مسحورة. لم تفكر مطلقًا بالأمر بهذه الطريقة، بل فكرت فقط بوجود طفل ينمو. ولم يكن إدوين قد تحدث يومًا عن رغبته بطفل معها.
“لا تقولي كلامًا كهذا. أنتِ أيضًا لم تحملي بسهولة.”
تدخلت السيدة ليان في الحديث فجأة، وكأنها فسّرت صمت كورديليا على أنه تأثّر بكلام هايلي الذي قد يبدو توبيخًا.
“صحيح…”
بدت هايلي محرجة وهي تبتسم وتخفض صوتها.
“الطفل هبة من السماء، فلا تشعري بالقلق يا سموك.”
دفعت السيدة ليان بفنجان الشاي نحو كورديليا وهي تتحدث. وكأنها لا ترغب أصلاً بأن تفكر كورديليا بموضوع الحمل.
“سأفعل.”
ففي النهاية، إن حملت كورديليا بطفل، فسيتقلّص مكان بارتون أكثر.
حين وصلت إلى تلك الفكرة، حدقت كورديليا في الشاي ذي لون الخريف، ثم سايرت تغيير موضوع حديثهما.
***
طال الحديث أثناء شرب الشاي. خرجت السيدة ليان لانشغالها بأمر ما، لكن هايلي لم تغادر واستمرت في الكلام.
راقبتها كورديليا بعناية، محاولة معرفة ما إذا كانت تحاول جسّ نبضها أو تسريب أي لمحة تتعلق بالحادثة، لكن هايلي لم تنطق بكلمة واحدة عن ذلك.
“سموكِ، يقال إن صاحب السعادة في طريقه إلى المنزل.”
“هايلي، بما أن إدوين قادم، أظن أن عليّ المغادرة.”
لقد طال انتظارها حتى كاد إدوين يصل. قررت كورديليا المغادرة.
“سـ… سموكِ!”
ما إن تحرك كرسيها وأصدر صوتًا مزعجًا، حتى أسرعت هايلي تمسك بكورديليا قبل أن تغادر.
“أود أن أطلب من جلالتكِ شيئًا.”
على ما يبدو، كانت تنتظر طوال الوقت فرصة لطلبه.
“طلب؟ مني أنا؟”
كان طلب هايلي غريبًا قليلاً. فإن كان الأمر يخص قصر ترييد، فهي تعرف عنه أكثر من كورديليا. فقد عاشت هنا أطول، وكانت أقرب إلى الخدم، وفوق هذا فهي زوجة ابن السيدة ليان.
“في الحقيقة، أنا أبحث عن كتاب، يا سموكِ.”
كتاب؟
أمالت كورديليا رأسها بدهشة. أيًّا كان ذلك الكتاب، فلم تكن تملك ما تعيره، فهي لم تجلب معها كتابًا حين تزوجت.
“لا أظن أن لديّ شيئًا…”
“إنه ديوان شعر قديم ذو غلاف أخضر.”
لكن ما إن وصفت الغلاف والمحتوى حتى أدركت كورديليا ما تعنيه. لقد قرأت ذلك الكتاب من قبل.
“أظن أني تركته في الدفيئة بعد أن قرأته هناك، ومنذ ذلك الوقت لم أجده رغم بحثي في الدفيئة والمكتبة في المبنى الرئيسي. وكما تعلمين، لا يمكنني دخول مكتبة الدوق، لذا ظننتُ أنه ربما بإمكان سموكِ مساعدتي…”
وكان سبب طلبها المساعدة واضحًا. فإدوين لا يسمح بدخول أي أحد إلى الملحق، خاصةً بارتون والسيدة ليان وهايلي.
“ألا يمكنكِ شراء نسخة جديدة من الكتاب؟”
“في الحقيقة، وضعت رسالة شخصية بين صفحاته، وأود العثور عليها.”
هزّت كورديليا رأسها متفهمة، متذكرة رسالة الاعتراف. فالأمر شخصي، ومن الطبيعي أن ترغب في استعادته قبل أن يراه أحد. سواء كان من بارتون أو من حبيب سابق، فستريد إخفاءه.
“أفهم قصدكِ. لكن إدوين لا يحبذ دخول أحد الى مكتبته، لذا سيكون من الصعب السماح لكِ بالدخول.”
فتفهم مشاعرها لا يعني السماح لها بدخول مكتب إدوين. فبعد ما حدث مؤخرًا، باتت كورديليا أكثر حرصًا على من يدخل مساحتها.
التعليقات لهذا الفصل " 84"