فقد تم ضبطه متلبسًا أثناء محاولته نشر مقال خبيث يصوِّر كورديليا كإحدى أفراد العائلة المالكة التي تتظاهر بالإحسان أمام العامة بينما تضطهد العمّال الفقراء من الطبقة الشعبية من وراء الستار. قيل إنه، شأنه شأن كاثرين بوتر، سيتلقى عقوبة بتهمة إهانة العائلة المالكة، ونشر معلومات كاذبة، وتشويه السُّمعة.
ومع ذلك، لم يتحسّن مزاج كورديليا. فقد بدا واضحًا أن الرسالة التي كتبتها بيدها قد أُرسلت من قصر ترييد، مهما كانت الظروف. وعند جمع دلالات الخطّ، والختم المستخدم على الشمع، وحقيقة أن الرسالة لم تعثر عليها في أي مكان داخل غرفة نومها، يصبح الاستنتاج جليًّا.
“إنها غلطتي.”
لم تكن السيدة ليمونت، التي شحب وجهها من شدّة القلق بسبب الرسالة التي لم يتم العثور عليها في غرفة نوم كورديليا ولا في أي مكان في المُلحق، غافلة عن الأمر، فقد اعتذرت بصدقٍ مرات عدّة.
“سموكِ عهدتِ إليّ بالمُلحق كلّه، ومع ذلك تحدث كارثة كهذه. لا أملك ما أقوله مهما حاولت.”
“لا بأس. فالأمر ليس لأنكِ أنتِ التي أرسلتِها. منذ البداية كان من الصعب تفقد المُلحق وحدك. وإدوين قال إنه بخير أيضًا، فلا تشغلي بالكِ كثيرًا.”
أن تصل رسالة لم يكن يجب أن تصل… كان ذلك خطأ العاملين في المُلحق لا السيدة ليمونت. وإدوين كان يشاركها الرأي ذاته.
“…….”
ورغم أن كثيرًا من الأمور كانت تُحلّ تدريجيًا، ظلّ في نفسها شعور غير مريح. تنهدت كورديليا بهدوء، وضعت أدوات الطعام على الطاولة، ثم أمسكت كأس الماء.
“لِمَ لا تتناولين سوى هذا؟ تناولي المزيد، سموك.”
بادرت السيدة ليمونت بالكلام وهي تراقب كورديليا تأكل.
وما كان ذلك مستغرَبًا… فشريحة السلمون على الطبق لم تُمس تقريبًا. مع أنها الطبق المفضل لدى كورديليا، وقد طلب الملك والملكة من الطاهي الاهتمام بها، إلا أنها لم تكن تشتهيها اليوم. بل بدت وكأن لها رائحة تزكم الأنف قليلاً.
“إن رغبتِ في شيء آخر فسآمرهم بإعداد طعام مختلف.”
قالت السيدة ليمونت بقلق، لكن كورديليا هزّت رأسها بهدوء.
“لا بأس. لا أشتهي شيئًا. أظنني فقط مرهقة.”
وبالفعل، فمنذ عودتها من الإقليم وهي تشعر بإرهاق عميق. صحيح أن أعراض النعاس الشديد الذي لم تستطع تحمّله هناك قد اختفت، لكن بقي فيها تعبٌ مستمر حتى دون أن تبذل جهدًا.
“سموكِ.”
حدث ذلك عندما أنهت كورديليا غداءها المتأخر ونهضت من مكانها بعد أن شطفت فمها بالماء. أطلت لينا بحذر داخل قاعة الطعام.
“لقد أرسل الدوق أحدهم.”
“إدوين؟”
لم تذكّر أنها تلقت إشعارًا بأنه سيُرسل أحدًا اليوم. خطت كورديليا نحو البهو بوجه يعلوه الاستغراب. كان هناك رجل يقف حاملاً شيئًا ما.
“لقد جئت بأمر من سمو الدوق.”
“وما هذا؟”
“قال إنه هدية لجلالتك. وأضاف أنه، بعد ما حدث مؤخرًا من أمور مزعجة، يرجو أن تخفّف هذه الهدية، ولو قليلاً، من انزعاجك.”
هدية فجأة؟ استغربت كورديليا وهي تتناول الهدية التي قال إنها من إدوين. لم تستطع تمييز ما في داخل الصندوق المتوسّط الحجم من الخارج.
“هيا، افتحيه.”
بإلحاح السيدة ليمونت، فتحت كورديليا الصندوق الكبير بحذر. لتظهر بطاقة بيضاء وحذاء أزرق. كان الحذاء مُزيّنًا بشرائط صغيرة وأحجار لامعة على مقدمة القدم، تتلألأ بألوانٍ متعددة تحت الضوء.
“يبدو أنه كتب لكِ رسالة أيضًا.”
ابتسمت السيدة ليمونت برضى.
أسندت كورديليا الصندوق الذي يحوي الحذاء إلى ذراعي لينا، ثم تناولت البطاقة أولاً. اخترقت أشعة الشمس النهارية اللطيفة النافذة وسقطت على البطاقة، وعلى خصلات الذهب المتوهّجة لشعر كورديليا.
قد لا يُمكن مقارنة هذا اللون بعيني جلالتك، لكنني طلبت صنعه بأقرب لون ممكن. سيُسعدني أن تتذكريني كلما انتعلتِه.
مع كل الحب،
إدوين خاصتك.
كانت الكلمات مفعمة باللطف والدفء. وعندما قرأت كورديليا رسالته القصيرة بعناية، أدركت أن عينيها وشفتيها تبتسمان بسعادة تكاد تكون محرجة… لكنها لم تفكر بإخفائها. أو بالأحرى، لم تستطع كبح سعادتها المتدفقة من أعماقها.
“طلب مني سموه أن أعود وأطمئن ما اذا أسعدتك الهدية.”
“أخبره إنني سعيدة جدًّا. بل متأثرة للغاية أيضًا.”
لطالما كانت ممتنّة لأي التفاتة من إدوين تجاهها. وكلما قدّم لها هدية وهو يفكر بها، أو كتب رسالة بخط يده، كانت تتأثر بلا حول ولا قوة.
“إن أخبرته فسيُسعده ذلك كثيرًا أيضًا.”
وبفضل هذا، تبدّد الحزن الغريب الذي خلّفه حديثهما السابق عن الرسالة التي أُرسلت إلى متجر كلايتون.
“شكرًا لك على توصيل الهدية. عُد بأمان.”
شيّعت كورديليا الرجل بابتسامة، ثم وقفت تحدّق في الحذاء داخل الصندوق الذي تحمله لينا وكأنها مسحورة.
“أتريدين تجربته؟”
“آه… لما لا؟”
لم تفكر حتى في قياسه، بل اكتفت بالنظر إليه. ومع اقتراح لِينا، استعادت وعيها قليلاً وأومأت برأسها. فأسرع الخدم بإحضار كرسي ومسند للقدم.
“يا إلهي، إنه مناسب تمامًا.”
“يبدو أن الدوق يعرف مقاس قدمي سموك.”
“أنا معجبة به حقًا.”
كان الحذاء مناسبًا لكلا قدميها. وقفت كورديليا وهي ترتديه، تدور قليلاً لتتفقد شكله. وكان الحذاء الأزرق الياقوتي يلمع كلما اهتزّ طرف تنورتها البيضاء.
“لكنني لم أقدّم لإدوين شيئًا.”
واحتاج وجهها بعض الوقت ليعود لطبيعته بعد أن فقدت السيطرة على تعابيرها من شدّة السعادة. إلى أن انتبهت أنها لم تهدِ إدوين أي شيء قط.
“هل أخرج الآن وأشتري شيئًا؟”
سألت كورديليا بدهشة، وقد خطَر لها الأمر فجأة. سيطر عليها شعور بالعجلة دفعها للاندفاع.
“لم تحددي حتى ما الذي ستشترينه.”
“صحيح، ولكن…”
ومع ذلك، فكّرت أن الذهاب للخارج سيجعلها بالتأكيد ترى شيئًا مناسبًا. وإن اشترت له شيئًا عمليًا يحتاجه، فلن يكون تبذيرًا.
“سموكِ، السيدة هايلي جاءت لزيارتك.”
جاء ذلك الصوت في اللحظة ذاتها التي كانت توشك فيها على أن تأمر بالاستعداد للخروج. فزيارة غير متوقعة أوقفت اندفاعها.
حدّقت كورديليا للحظة، تفكّر في سبب قدوم هايلي فجأة. لكن لم تستطع التكهّن. فهي لم تكن قريبة منها، ولا علاقتهما ودّية خصوصًا مؤخرًا.
“دَعيها تدخل.”
ومهما كانت حقيقة الأمر، فهي ما تزال فردًا من العائلة أمام الناس، ولا يمكن تجاهل زيارة مفاجئة.
“أعتذر لقدومي فجأة، جلالتك.”
بدت هايلي محرَجة قليلاً وهي تلقي التحية. أعادت كورديليا الحذاء إلى الصندوق ونظرت إليها.
“لا بأس. لكن ما الأمر؟”
رحّبت بها كورديليا بلطف. فمع أنها لم تكن مهتمة بأسباب زيارتها، إلا أن للأدب واجبًا.
“والدتي رغبت بأن تلقي التحية على سموكِ بعد عودتك مُتعبة، وقالت إنه سيكون من الجيد احتساء الشاي معًا بما أننا لم نفعل منذ مدة.”
“أوه، حسنًا. كان بإمكانها إرسال أحدهم.”
“أردتُ أن أتمشى قليلاً…”
قالت هايلي بابتسامة خفيفة. وكان مظهرها دائمًا لطيفًا ومتواضعًا. لكن مع ما حدث في المُلحق مؤخرًا، لم يكن من الحكمة الاطمئنان تمامًا. فحتى لو لم يُكشف مَن سرق رسالة كورديليا، لا يزال من الممكن أن تكون هايلي أو السيدة ليان وراء الأمر.
“خذي هذا الصندوق إلى غرفتي.”
“نعم، سموك.”
“هل هذه الهدية تلقّيتِها للتو؟”
“نعم. أرسل إدوين حذاءً بشكل غير متوقع، وقد قُمتُ بتجربته للتو.”
“يا إلهي، حذاء كهدية؟ ما ألطفه!”
قالت هايلي بإعجاب. واكتفت كورديليا بهزّ رأسها دون اكتراث.
“أحضري لي الشال الأخضر…”
“لم أتوقع منه أن يفعل ذلك—”
عند تلك اللحظة، وقبل أن تُكمل كورديليا طلبها لجلب الشال الذي سترتديه، سمعت كلمات بدت ذات معنى عميق. فتوقّفت عن الكلام والتفتت إلى هايلي.
“يبدو أنه بدأ يُحبّ سموكِ حقًا.”
تمتمت هايلي بذلك، وكأنها لم تلاحظ نظرة كورديليا الحادّة ولا جملتها التي قُطعت. بنبرة بدت متألمة بعض الشيء.
التعليقات لهذا الفصل " 83"