بعد أن تركت زوجها وراءها وصعدت القطار بتعبير متعالٍ، جلست كورديليا كما في السابق مستقيمة الظهر. هذه المرة لم تُضِيع وقتها في مراقبة القطار. فمظهر الأميرة التي تبدو كفتاة قروية ساذجة يكفي أن يحدث مرة واحدة فقط.
في الواقع، لم يبدُ أن أحدًا في المقصورة يلاحظ جهد كورديليا. فخفتت ملامحها المحرجة تدريجيًا، بينما تستلم من لينا الكتاب الذي أحضرته معها لكنها لم تقرأه قط.
كان محتوى ديوان الشعر الذي يسبّح بالحب والحرية جميلاً. إنه النوع المفضل لدى الملكة، وكانت كورديليا تفضّله أيضًا. لكن أثناء قراءته، كان من الصعب إنكار شعورها بشيء من الملل.
لماذا؟
بعد وقت قصير، عرفت كورديليا السبب. إذ إن الكلام الذي يمدح الحب والحرية لم يكن مثيرًا للاهتمام بقدر رسالة الحب التي قرأت نصفها صدفة في الدفيئة من قبل. قد يبدو قراءة ما بين السطور أمرًا ذكيًا وأنيقًا، لكنه لم يترك أثرًا قويًا في ذهنها.
لكن الانغماس في روايات مبتذلة ومثيرة كالتي تصنف ضمن الأدب الشعبي كان أكثر ما يحذر منه الملك والملكة. شدّت كورديليا نظراتها نحو الديوان من جديد.
“……”
استمرت بالتحديق.
مهما حاولت، لم تستطع أن تقرأ، فكان ذلك أقصى ما بإمكانها فعله. بل خشيت أن تحاول القراءة بالقوة فتغفو دون وعي كما حدث في العربة. وقد سبق أن أظهرت أمام لينا وسكوت شكلها وهي نائمة مرات عديدة، لذا لم ترغب هذه المرة في إظهار حتى مجرد التثاؤب. فسيبدو ذلك نقصًا في الهيبة بصفتها من علية القوم.
“بهذه الطريقة لن يعود مشروع قطارات الركاب مفيدًا للشركة.”
لكن بهذه الطريقة قد تنام مجددًا. وبينما كانت كورديليا تشعر بتلك الأزمة، اخترق صوت إدوين مسامعها. وإذ كانت تبحث عن شيء مثير للاهتمام، أنصتت خلسة لحديث إدوين وسكوت.
“حجم المبيعات لا يتغير. إضافة إلى أن أغلب العملاء يتركزون في الطبقة الأرستقراطية.”
“هل نغيّر التشغيل ليصبح مرتكزًا على قطارات الشحن؟”
“قلنا إننا سنوسّع مشروع قطارات الركاب، ولو غيّرنا المعايير هكذا فوالدي سيعتبر الأمر سخيفًا.”
رفض إدوين اقتراح سكوت بابتسامة.
كان واضحًا أن إدوين يريد تجنب الظهور أمام والده كشخص ضعيف القدرة على إدارة الأعمال. فما زال يتنافس على منصب وريث شركة ترييد مع بارتون، وكان ذلك مفهومًا.
ومع نجاح بارتون في مشروع الفنون مؤخرًا، بات كل منهما يجذب التجار الى مجاله — إدوين في التوزيع والتجارة، وبارتون في الفنون.
“إذن يمكننا التفكير في تحديد أسعار التذاكر بسعر مرتفع للغاية، مستهدفين النبلاء الكبار أو عددًا قليلاً من أصحاب رؤوس الأموال.”
“……”
“سيُعد ذلك ميزة مميزة للنبلاء، أما الرأسماليون فسيعتبرون الوقت مالاً ولن يبخلوا في الدفع.”
ولأن سكوت الذي عمل مع إدوين طويلاً لم يكن يجهل ذلك، فقد تحوّل مباشرة لاقتراح بديل. كان سكوت حقًا سكرتيرًا كفئًا. أُعجبت كورديليا قليلاً بقدرته على التعامل مع المواقف — رغم أنها لاحظت هذا منذ المقاطعة…
“……”
ربما كان اقتراحًا جيدًا، إذ بدا إدوين مترددًا يفكّر، لكن وكأن هناك ما يعيقه، لم يقرر فورًا.
“لا. لن يدفعوا بقدر ما نريده.”
رفض إدوين اقتراح سكوت بعد برهة طويلة. رفعت كورديليا نظرها من الكتاب الذي كانت تتظاهر بالتركيز عليه، وتطلّعت نحو إدوين بطرف عينها.
“لنوسّع أولاً خطوط التشغيل إلى مسافات طويلة التي كانت سابقًا محصورة بقطارات الشحن، ونقسّم المقاعد إلى درجات. ومن الأفضل أن تكون مقاعد الدرجة الدنيا صغيرة ومزدحمة بدل الشكل الحالي الذي يشبه الأرائك.”
كان أمرًا غير متوقع. فتوقفت كورديليا حتى عن محاولة التجسس خفية، وبدأت تراقب إدوين علنًا بإعجاب.
“تخطّط لطرح أكبر عدد ممكن من المقاعد بأقل سعر إذن.”
“فقط للدرجة الدنيا. حتى لو كانت الأسعار مرتفعة قليلاً لكن عدد مستخدميها قليل، فإن العائد الكلي سيكون أقل مما لو استخدمها الكثير بسعر مناسب. أما العملاء الحاليون فسيستمرون باستخدام المقاعد في الدرجات الأعلى.”
حتى وإن كانت تذاكر القطار غالية، فهي ليست بمستوى السلع الفاخرة، لذا فإن ارتفاع السعر مع انخفاض الاستخدام لن يفيد الشركة. كان ذلك حكمًا منطقيًا.
“صحيح. لكن النبلاء قد يتحسسّون من ركوب القطار مع العامة، لذا من الأفضل تشغيل خط تجريبي أولاً، ومراقبة نسب المستخدمين قبل اتخاذ قرار نهائي.”
يا له من رجل مذهل حتى فيما يتعلق بالمال. لم تكن تفهم كثيرًا في الأعمال، لكنها بدأت تدرك أن إدوين رجل يجذب المال إلى شركة ترييد.
وكانت فخورة بأن رجلاً كهذا هو زوجها. فعلى الرغم من أنها بكت كثيرًا رافضة الزواج في البداية، إلا أن إدوين لم يكن ينقصه شيء تقريبًا.
“يسعدني أنني ركبته قبل أن يتغير.”
انفلتت منها جملة تحمل فخرًا، رغم أنها كانت تعتقد أنها مجرد فكرة في رأسها. لكن كورديليا قابلت ثلاث نظرات تتجه نحوها فابتسمت بتوتر.
“أقصد، يعجبني حتى الآن.”
لا مفر. في مثل هذه المواقف يجب الاعتراف بأن الكلام خرج فجأة. حينها سيتظاهر الجميع بعدم ملاحظته. هكذا فكرت كورديليا وهي تحاول إنهاء كلامها بسرعة.
“أتعتقدين أن العملاء الحاليين سيتحسرون على التغيير؟”
ولذلك بدا سؤال إدوين عن رأيها مفاجئًا.
“ألا تعتقد ذلك؟”
ارتبكت كورديليا قليلاً، لكنها تحدثت بصراحة كممثلة عن الطبقة العليا.
فمن استخدم هذا القطار سابقًا استمتع بمساحة واسعة ومريحة والتنقل بسرعة، وربما شعر بنوع من التفوق تجاه من يهدرون الوقت في العربة.
“لأن الشعور بالتميز سيختفي.”
فالطبقات العليا غالبًا ما ترغب في التكريم والنظرة العالية أكثر من المال ذاته.
“حتى لو قُسِّمت الدرجات؟”
“حتى لو قُسمت، فهم يظلون مثل الآخرين. ما لم يكن هناك اختلاف داخلي أو شيء مميز…”
كان مجرد كلام عابر، لكن إدوين بدا يفكر به بجدية.
“إذن هل يمكنني أن أسألك ما الفكرة التي ترينها مناسبة؟”
ولم يكن إدوين شخصًا يجهل ارتباكها، لكنه لم يهدر الفرصة وطرح سؤاله. نظرت كورديليا بين إدوين المراقب لها باهتمام وبين سكوت المتشكك.
“أمـم…”
وبمشاهدة اهتمام إدوين وتوقعه، شعرت بضرورة تقديم جواب منطقي، لكنها لم تعرف ماذا تقول. فجالت أفكارها سريعًا.
“سـ… سرير؟”
“سرير؟”
رد إدوين وكأنه سمع شيئًا غير متوقع، وفي الوقت نفسه تجهّمت ملامح سكوت.
“الـ…”
“……”
“لو كانت الرحلة قصيرة فيمكن الجلوس هكذا، لكن إن امتد وقت السفر حتى الليل فالكثير سيتعبون.”
حاولت كورديليا تغليف الفكرة العشوائية بشكل يجعلها تبدو منطقية. لكنها مهما حللت نظراتهما، لم تتغير ملامح إدوين ولا سكوت.
“مِـ…”
لقد أخطأت. فكرت كورديليا بذلك وفتحت فمها لتعتذر عن كلامها السخيف، رغم الإحراج، فهذا أفضل ما يمكن فعله. فهي لا تمتلك معرفة في مجال الأعمال، وتوقعت أن يتجاهلا الأمر ببساطة.
“فكرة جيدة.”
عندها دوى صوت سكوت في المقصورة بهدوء. أطبقت كورديليا شفتيها سريعًا بعد أن كانت على وشك الاعتذار.
“يمكننا تمييز المقصورات داخل القطار نفسه.”
ابتهج سكوت. ارتبكت كورديليا من ابتسامة سكوت المشرقة التي تراها لأول مرة. حتى لينا التي اعتادت رؤيته بلا تعبيرات فُغرت شفتاها دهشة.
“بالتأكيد.”
ولم يكن ذلك ردّ سكوت وحده. فما لبث أن وافق إدوين أيضًا على رأيه. رمشت كورديليا بدهشة وهي تستوعب ما يحدث.
“سندير القطار نفسه، لكن نقسم المقصورات من الدرجة الأولى إلى الثالثة. لا مجرد درجات للنبلاء والعامة، بل مقصورات تختلف بالخدمات وعدد الركاب المسموح. حتى مداخل الاستخدام ستكون مختلفة.”
تدفقت الأوامر من إدوين. وبدأ سكوت يهز رأسه محمومًا وهو يدون ملاحظات في دفتر ظهر فجأة بين يديه.
“……”
لم تعرف ما الذي يجري، لكن بدا أنها قالت شيئًا أفاد عمل إدوين. هكذا خمنت كورديليا وهي تشاهد جانبًا من العمل المحموم في شركة ترييد.
كانت نظرات إدوين اللطيفة تقول إن نصيحتها ذات قيمة. فابتسمت بفخر. شعرت أنها أصبحت شخصًا أفضل، من الإقطاعية وحتى أعمال إدوين.
“لكن، بناءً على ما أعرفه عن زوجك، أعتقد أنه يفضل امرأة ذكية وجريئة على فتاة ضعيفة تتمايل كزهرة هشة.”
حتى وإن تظاهرت بأنها لا تهتم، فقد كان ذلك يعني لها الكثير — أنها تقترب نوعًا ما من النوع الذي يعجب به إدوين.
‘ماذا لو بدأ يحبني أكثر بهذا الشكل؟’
ومع هذه الأفكار، توقّف القطار الذي كان يسير بلا توقف الى عاصمة روتشستر. وبفضل يقظتها هذه المرة وعدم نومها، استطاعت كورديليا أن تنزل من القطار بمظهر الأميرة الأنيق.
التعليقات لهذا الفصل " 77"