ماذا يمكن أن يكون سوى المطر المنهمر خارج النافذة؟ اعتقدت كورديليا أن إدوين يتفوه بكلام عابر، لكنها مع ذلك وجهت نظرها نحو الخارج. في تلك اللحظة كانت لينا قد رفعت الستار المعلق على النافذة لتثبته جانبًا.
“…….”
بجانب وجه لينا المبتسم على اتساعه، كان يمكن رؤية أشخاص مصطفّين على طول الطريق خلف الزجاج المبتل بالمطر. شاب يافع، شيخ نحيل كالعصا، طفلة صغيرة وواهية المظهر، وحتى أم تضم طفلها بين ذراعيها. رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا—الجميع كانوا هناك دون استثناء.
“يبدو أنهم جاؤوا لتوديع صاحبة السمو.”
كانوا يلوحون بفرح نحو العربة التي تقل كورديليا. بلا مظلات، تحت المطر الغزير، فقط ليودّعوا كورديليا وإدوين.
‘ألم يكن بوسعي أن أكون أفضل؟ مجرد لمحة من اللطف تقابل بكل هذا الامتنان.’
فجأة امتلأ أنفها بمرارة البكاء وارتفعت الحرارة في عينيها. لكنها لا تستطيع أن تنفجر بالبكاء أمام لينا وسكوت. رفعت ذقنها تكبح دموعها ولوّحت بيدها نحوهم. ورأت بعضهم يبتسمون على اتساع وجوههم عندما ردّت التحية.
إنها ليست حزينة. ليست غاضبة أو مجروحة، ومع ذلك كان قلبها مضطربًا بمشاعر لا تعرف اسمها.
“اقتربي.”
بعد أن راقب المشهد بصمت، أصدر إدوين تعليماته بلطف إلى لينا، التي سارعت لتفسح له المجال، ثم مدّ يده إلى كورديليا التي كانت منهارة على وشك البكاء. أما يده الأخرى فلوّح بها في الهواء كأنه يقول للآخرين أن يصرفوا أنظارهم. ومع ذلك لم يبدُ عليه أي انزعاج من تهدئتها.
التفتت لينا وسكوت على الفور في اتجاهين مختلفين، متعمّدين تجاهل الزوجين. فاستطاعت كورديليا أن تدفن وجهها في صدر زوجها وتبكي بحرية.
“لقد بذلتِ جهدًا كبيرًا.”
بررت لنفسها بأن تضخم مشاعرها مؤخرًا هو السبب.
“أحسنتِ.”
مثل ذلك اليوم الذي كان فيه الأطفال يهرعون ببراءة خلف عربتها ليودّعوها—علمت أن مشهد اليوم أيضًا سيبقى في ذاكرتها إلى الأبد.
***
آخر ما تتذكره هو أنها كانت تبكي في حضن إدوين، لكنها الآن وجدت نفسها في وضع مختلف. كان إدوين يجلس وقد وضع إحدى ساقيه الطويلة على المقعد، بينما كانت هي مستلقية على صدره كأنه وسادة.
“…….”
‘هل نمتُ مرة أخرى؟’
يقولون إن الشك يهلك صاحبه، لكنها كانت شبه متيقنة هذه المرة. أغمضت كورديليا عينيها بإحكام، وفي مخيلتها بدأت تركل الأرض بعنف. ليس على السيدة الرصينة أن تفعل ذلك، لكن طالما الأمر في خيالها فما الضرر؟
لقد انهارت بالبكاء وعانقته أمام الآخرين، ثم نامت فوق صدر زوجها داخل العربة أيضًا—هل يمكن أن يكون هناك خزي أكبر؟
كانت غارقة في شعور بالإحراج والفراغ عندما بدأت العربة الهادئة تبطئ، ثم توقفت كلياً.
“صاحبة السمو، لقد وصلنا إلى محطة القطار.”
في مثل هذه اللحظات، هل عليها التظاهر بالنوم؟ أم الاعتراف بأنها استيقظت؟ لو أنها نامت دقيقة أخرى فقط لكان أفضل. شعرت بالندم بلا سبب.
“انزلا أولاً.”
في هذه الأثناء، طلب إدوين من سكوت ولينا النزول أولاً. وبعد حركة حذرة، غادرا، تاركَين كورديليا وإدوين وحدهما في العربة. حتى بعينيها المغمضتين، استطاعت أن تستشعر ذلك.
“صاحبة السمو.”
“…….”
“هل لا تزالين نائمة؟”
طالما بقي إدوين وحده، فربما حان وقت فتح عينيها؟ فكرت كورديليا، وأرهفت السمع لتختار لحظة مناسبة.
“…….”
حتى لمست يده شفتيها.
لماذا شفاهها؟ هل ينوي تقبيل زوجته النائمة؟ هل هذا سبب إبعاده الخدم أولاً؟
بدأ عقلها يدور بجنون. دون وعي شدّت قميصه عند الصدر وارتجف حاجباها.
عندها سمعت ضحكة قصيرة عند أذنها. أيقنت أن إدوين يعلم أنها مستيقظة وهو يمازحها.
“إدوين!”
هذا ظلم! فتحت عينيها فجأة ونادت اسمه بنبرة حادة. كانت تنوي أن تقول: “بما أنك تعرف أنني محرجة، فهل كان من الصعب أن توقظني بلطف بدلاً من العبث بي؟”
“…….”
لكن ما إن التقت عيناها بعينيه من مسافة قريبة جدًا حتى عجزت عن الكلام. ارتبكت بحيث لا تستطيع حتى التفكير بجملة واحدة. أما يد إدوين التي كانت تعبث بشفتيها فقد كانت معتادة عليها، لكن قرب وجهه منها بهذا الشكل لم تتوقعه.
“لقد استيقظت الأميرة النائمة أخيرًا.”
“ك، كنت تعرف مسبقًا.”
ابتسمت عيناه برقّة، بينما انخفضت نظراته تدريجيًا من عينيها إلى شفتيها. عندما أدركت ذلك انتفضت شعيرات عنقها. لم تستطع إخفاء توترها. بل بللت شفتيها بطرف لسانها دون قصد، ثم ارتجفت.
هل سيظن أنها تحاول إغراءه؟
“يبدو وكأنك تفعلين ذلك عمدًا.”
“لا!!”
كيف يمكنه أن يتصورها كمن تحاول إغراء زوجها بلا توقف؟ كان ذلك ظلمًا. صرخت كورديليا وقامت من مقعدها بسرعة، تأكيدًا أنها لم تقصد شيئًا من ذلك، وأن كل ما حدث مجرد سوء فهم من جانبه.
“إذن دعينا نقول إنني أردت ذلك، لا أنك تعمدتِ.”
عندها فقط أنزل إدوين ساقه من على المقعد ونهض هو الآخر.
“قلت لك إنك مخطئ!”
“يدك.”
مد يده إليها بينما كان أول من ترجل من العربة.
“سيدي، تم تحميل الأمتعة على القطار بالكامل.”
“سنأتي حالاً.”
تذمرت كورديليا من كونه لا يستمع، لكنها مع ذلك وضعت يدها في يده. ساعدها إدوين على النزول بأمان من العربة.
“أنت لا تستمع إلي، صحيح؟”
“أستمع. دائمًا.”
وبمجرد تنبيهها له، حول انتباهه من سكوت إليها فورًا. كم من الأشياء يديرها في آن واحد؟ رجل مدهش فعلاً.
“مجرد كلمات…”
تمتمت كورديليا فسحب إدوين ابتسامة صغيرة.
“هل أزعجك مجرد أنني بدوت أرغب بكِ؟”
“……!”
“أخشى أن تشعر سموّك بالحرج لو أبديت حبي أمام الآخرين، فاغفري لي سوء فهمي.”
لقد أصبح لعبه بالمشاعر أمرًا طبيعيًا له لدرجة أنه يفعلها كما يتنفس. أغمضت كورديليا عينيها بقوة وارتجفت. تبعت حركتها اهتزاز أطراف الفستان الوردي مثل زهرة تهتز.
“كيف لم ترتبط من قبل؟ كذبتَ حين قلت إنك لم ترَ امرأة بعد زوجتك الراحلة، صحيح؟ كلما فتحت فمك—تتصرف هكذا—فكيف…”
“هكذا؟ أي طريقة تقصدين؟”
“…….”
“هكذا؟”
مرر إبهامه على ظهر يدها بلطف. عابرًا، خفيفًا، لكنه مقصود—مثل لمسة عابرة بين عاشقين مجبرين على الفراق. ورغم أيديهما المغطاة بالقفازات، وصلتها حرارة جلده.
كان الكثير من الرجال يتقربون منها—رفيعو المقام ودونه—ويمطرونها بالمجاملات والثناء. وكانت تظن أن لديها مناعة ضد الكلمات المعسولة، لكن مزاح إدوين وحده جعل وجهها يحتقن في لحظة.
“……نحن في النهار! ماذا تفعل؟ يا—يا منحرف!”
ظنت أنها قالتها بصوت منخفض، لكن سكوت ولينا التفتا نحوها. بالتأكيد كانا يقيّمان إن كان الأمر مجرد شجار هزلي، لكن الاحتياط واجب.
أحرجها ذلك فأفلتت يد إدوين وتوجهت بخطى سريعة نحو القطار.
ابتسم إدوين بإيجاز—ذلك الذي تم وصفه بالإنحراف فقط لمجرد لمسه يد زوجته—ثم تبعها.
* تبعته، تبعته، وطأتُ بنجمي الساقط خطواته.
وفجأة تذكر كلمات أغنية قصيرة لا يعرف حتى متى سمعها أول مرة.
التعليقات لهذا الفصل " 76"