رغم علمها بأنها ستغادر في صباح اليوم التالي، لم تستطع النوم. كانت كورديليا تتقلب على السرير حين اكتشفت زوجًا من العيون الجوهريّة تحدّقان بها بصمت، فشهقت بخفوت.
“إدوين.”
ولحسن الحظ أنها كانت تعلم أن من بجانبها هو إدوين، وإلا لصرخت ملء القصر.
“أما زلت مستيقظًا؟”
“بدا أن سموكِ لا تستطيعين النوم.”
“هل أيقظتك؟ آسفة.”
وضعت كورديليا يدها على صدرها المذعور واعتذرت لإدوين. فقد كانت تقلّبها قد أزعج نومه، وهو المستلقي معها في السرير، وهذا أمر طبيعي.
“ما الذي يشغلكِ إلى هذا الحد؟”
بدت له تلك الأمور غير ذات أهمية. أما كورديليا فأخذت تعبث بذقن إدوين ووجهها غارق في القلق. واكتفى إدوين بمراقبتها بهدوء.
“سنغادر صباح الغد.”
“أتحزنين على الرحيل؟”
“ليس الأمر حزنًا بقدر ما هو…”
لم تكن حزينة. لولا أن مقاطعتها تعرضت لجفاف وكارثة، لما رغبت بالمجيء أصلاً، فهو مكان مملّ.
لا وصيفات يمكن اعتبارهن صديقات، ولا متجر لشراء الأشياء. بل إن الجفاف أزال جمال البحيرة والغابة وحتى السكينة، فلم يبق شيء يشجعها على البقاء.
“مشاعري متضاربة.”
لكن حين جاء وقت المغادرة، غمرها شعور لا يوصف. صحيح أن الوضع تحسن كثيرًا مقارنة بما كان عليه قبل قدومها هي وإدوين، لكنها شعرت بأن ذلك غير كافٍ.
فكلما استقبلتها وجوه الأطفال البريئة بابتساماتهم رغم الظروف القاسية، وكلما رأت من يشكرها، طال تسلسل أفكارها بلا نهاية.
وحين تذكرت مدى استخفافها حين جاءت إلى هنا لأول مرة، كان طبيعيًا أن تشعر هكذا. في الحقيقة، جاءت فقط خشية تضرر سمعتها — فلا يجوز تلطيخ وجه إدوين أو شرف العائلة الملكية.
لذا كانت الأنشطة التي خططت لها مع إدوين مجرد وسيلة لتهدئة الرأي العام، لا أكثر.
لكنها بعد أن جاءت ورأت الأمور بنفسها، أدركت أن ذلك غير كافٍ. وإدوين بدوره لاحظ ذلك، وقال إنه سيفكر في طريقة لتقاسم المسؤولية معها، لكن تلك لم تكن خطة كاملة. فحتى لو صمدوا لوقت هطول الأمطار، فلن يساعدهم ذلك إن تكرر الأمر لاحقًا.
كانت كورديليا تتذكر تلك الليلة التي جلست فيها مع إدوين على الأرض يستمعان إلى أغاني الناس. وجوه من كانوا يتشبثون ببعضهم ويغنون أملاً، رغم الظلام وتلاشي الرؤية.
بالنسبة إليها، كان هذا المكان مجرد محطة مؤقتة، لكنها بالنسبة لغيرها، كانت موطنًا ومصدر حياة لابد من الاستمرار فيها. بل بدا أن السكان يحبون الأرض أكثر منها، صاحبتها الحقيقية.
وماذا لو حلّت مأساة أخرى؟ ماذا لو تحطم جهدهم المضني مرة أخرى؟
شعرت بالعجز. أحست بثقل العديد من الحيوات موضوعة في يدها الصغيرة الهشّة.
“لماذا لا يهطل المطر؟ ألا يوجد شيء آخر يمكنني فعله؟…”
لم تدرك معنى الجملة القديمة في الكتب — أن حياة النبلاء والملوك تُقدَّس لأنهم مسؤولون عن حياة الكثيرين — سوى الآن.
“ألا يناقشون من يجب أن يُعيَّن كوكيل جديد؟ وما التهم التي ينبغي رفعها ضد البارون وينفيلد؟”
“لكن تلك ليست حلولاً. أعلم ذلك. لو كانت هناك طريقة لجلب الماء من مناطق أخرى عند وقوع مثل هذه الكوارث، لكان رائعًا…”
لكن لم يخطر ببالها شيء. فلم تتعلم إدارة المقاطعات، ولا كيفية التعامل مع الجفاف أو الفيضانات.
يا ليتها لم تتجاهل الأمر قائلة إنه عمل لورنسن. ليتها قرأت صفحات المجتمع في الصحف، واطلعت على الكتب، وعرفت كيف يعيش الناس خارج القصر الملكي.
“أنا بائسة جدًا.”
تأتي لحظة النضج متأخرة، مصحوبة بثقل مسؤولية طال نسيانها.
“لستِ بائسة.”
“…”
“أنت لا تتحججين بأنه لم يكن بالإمكان فعل شيء. لم تكتفِ بالندم على الماضي، بل تفكرين فيما يمكنك فعله لاحقًا.”
حتى وهي تصارحه، شعرت بالعار من ذاتها ومن نظرة إدوين إليها. لكنّه همس لها بأنها شجاعة، لأنها لم تتجاهل الحقيقة أو تهرب منها، مهما كانت أخطاؤها.
“ومع أن جلب مياه منطقة أخرى بالكامل مستحيل، لكن يمكن ربط القنوات بالاتفاق، ربما.”
“حقًا يمكن؟”
بل وحتى أمنياتها التي تمتمت بها بلا تفكير، شاركها إدوين فيها ودرس احتمالاتها. فنهضت كورديليا فجأة وقد أفلتت تقريبًا يد إدوين التي كانت تعبث بها.
“ربما. لكن ذلك يحتاج تعاون مناطق أخرى، والوقت، والمال.”
“آه… المال…”
نظر إدوين إلى يده التي تُركت فجأة وضحك بخفوت، ثم جلس مسندًا ظهره على لوح السرير. أما كورديليا فانشغلت بأمر المال.
“لا أعرف كم من الثروة أملك. يفترض أنها مودعة في البنك الملكي.”
“…”
“هل نقيم مزاد؟ لا أعرف كم نحتاج من المال، لكن ربما أستطيع بيع بعض الأشياء الجيدة في مزاد كي أساهم ولو بالقليل…”
كان إدوين يراقبها، وقد أسند مرفقه إلى لوح السرير ورفع رأسه بزاوية متأملة.
“ما رأيك يا إدوين؟”
“يبدو أن ذلك لن يكون كافيًا.”
أجاب بصدق، فانطبعت الخيبة على وجه كورديليا. كان تغير مشاعرها سريعًا حدّ أن يثير الشفقة.
أمعن إدوين النظر في وجهها الجميل الذي يضيئه الأمل ثم يخبو به الحزن.
“لكن لا تقلقي.”
أتراها تفعل ذلك لأنها تعلم أن رؤية رجل لامرأة بتلك الحال يدفعه للرغبة في التخفيف عنها؟
بالطبع لا. فكرة مضحكة، فلطالما لم تهتم كورديليا بمشاعر الرجال الذين كانوا معجبين بها.
“هل لديك طريقة أخرى لجمع المال؟”
“يمكن تدبيره من الضرائب والغرامات التي اختلسها البارون وينفيلد على مدى سنوات.”
قالها إدوين بصوت لطيف، كاشفًا طريقة لجلب المال. لم تكن طريقة عبقرية، بل مجرد نية لمقاضاة البارون وأخذ كل ما يملك دون ترك شيء.
ومع ذلك، هزّت كورديليا رأسها وكأنها فكرة عظيمة، فابتسم إدوين قليلاً.
“…”
وفجأة، سُمع صوت خافت لكنه واضح، جعل كورديليا تلتفت خلفها.
“آه…”
بقعة صغيرة تعكس ضوء القمر الخافت، كانت بلا شك قطرة ماء. نهضت كورديليا مسرعة وركضت نحو النافذة.
“إدوين، المطر! المطر يتساقط الآن، أليس كذلك؟”
لم تدرك أنها حافية القدمين. نزل إدوين بهدوء من السرير، وأخذ نعليها وتقدم نحوها. ثم جثا على ركبة واحدة ليُلبسها إياهما. لاحظت كورديليا أنها حافية بعد فوات الأوان وشعرت بالحرج، لكن عينيها أسرعتا إلى النافذة ثانية.
“يا إلهي.”
طرق… طرق… بدأت قطرات قليلة، ثم راحت تتزايد حتى لم يعد بالإمكان تقدير عددها مع صوت اندفاعها بقوة على الأرض.
تعلقت كورديليا بالنافذة مبتسمة بوجه مضيء، كجرو يرى الثلج لأول مرة.
“يا له من أمر رائع!”
حتى حين انحدر ضوء خافت على وجهها، لم تتلاشى ابتسامتها ولم يحجبها شيء. تمامًا كما حين تلقت اعترافًا مزيفًا بحبه ذات مرة وضحكت — لم يكن تمثيلاً لأخلاق حسنة أو تعاطفًا مثل ما يفعله شقيقها.
أخذ إدوين يتأمل وجهها بصمت، وجه شخص يفرح بإخلاص لسعادة الآخرين، على عكس ثقله هو وابتعاده الدائم خطوة خارج كل علاقة، وكأنه يشتاق لشيء لم يعد موجودًا في حياته.
التعليقات لهذا الفصل " 74"