تمامًا كما قالت كورديليا، فالحياة مرهقة حين يعيش المرء وهو يشكّ في حقيقة نوايا الجميع. لقد طالت السنوات التي قاوم فيها وحيدًا حتى أصبح مرهقا حدّ الإنهاك.
“…….”
كان لجلبه المتعسّف لِأحكامٍ مسبقة خاطئة دورٌ كبير في إنهاك حياته كذلك. وكانت كورديليا واحدة من تلك الأحكام.
مسح إدوين يديه بالمنشفة التي كان قد مسح بها وجه كورديليا، وألقى نظرة على وجهها المستغرق في نوم هادئ، دون أن يدرك حتى أنه ألبسها ثوب النوم.
ذلك الوجه الذي كان يراه ببساطة جميلاً رغم امتلائه بالغرور وحبّ المظاهر.
فالملك والملكة ما زالا يتفاخران بتفوّقهما كأفراد من العائلة المالكة، وشقيقها كذلك يفيض بالنزعة الاستعلائية والرغبة في السيطرة — فماذا عساه يكون مختلفًا كثيرًا عند هذه المرأة؟ لهذا لم يكلّف نفسه مرة أن يقيّم كورديليا بما يتجاوز انطباعه الأول. ولم يكن يرغب بذلك أيضًا.
لكن كورديليا التي رآها منذ قدومه إلى هذا المكان، وإن لم يمر على ذلك سوى أيام قليلة، كانت مختلفة عن حكمه السابق.
رغم أن الوصفة التي طبختها لإطعام الناس بسيطة إلى حدّ أن الأطفال قد يستطيعون فعلها، فقد قامت بذلك بنفسها، ووزّعت الطعام، ولم تغضب من طفل أفسد لها فستانها. بل حتى قالت إنها ستقتسم ما لديها أو تبيعه لتوفّر مالاً للمساعدات.
ولم يكن ذلك بقصد نشره في الصحف، مما جعل الأمر أكثر إثارة للدهشة. فلم يخطر له يومًا أن كورديليا يمكن أن تتصرف بدافع الخير الخالص.
لهذا كان الوقت قد حان ليعترف بأن حكمه المسبق كان خاطئًا. لم تكن كورديليا غبية، كانت فقط غير ناضجة. ولم تكن شخصية مهووسة بالمال أو الشهرة كما ظنّ.
ثم إن شخصًا يهوى التعلّق بتلك الأمور ما كان — مهما ضغطت عليها عائلتها — ليرفض الاستمرار في الزواج منه حتى النهاية. فالملك في النهاية لن يستطيع ثني الأميرة عن عنادها.
“لقد أحسن والدي صنعًا في شيء واحد على الأقل.”
ربما… ربما سيكون بإمكانهما أن يصبحا زوجين لا بأس بهما، أكثر مما كان يتوقع. وللمرة الأولى، امتدح إدوين آرون الذي ألزمه بالزواج من كورديليا.
“إدوين……”
لا يعلم أي حلم تراه الآن، وهي تبتسم ابتسامة خافتة وتناديه في نومها، فطبع قبلة على وجهها بعد أن لم يتمالك نفسه.
***
“هل يكفي إرتداءه بأن نغلق الأزرار فقط؟”
“نعم، صحيح.”
“إذن لنترك زرين أو ثلاثة فقط.”
“ليس بالشيء الصعب… لكن… هل سترتديه أنتِ يا سموّك؟”
كانت كورديليا مشغولة منذ الصباح الباكر. فقد وصلت الملابس التي اشترتها من المتجر. وذلك بفضل أن إدوين أرسل من يحضرها من منزل ترييد فور سماعه اقتراحها.
“الفستان متعب ولا يريح الآخرين كذلك، لذا لا أظن أنه من المناسب ارتداؤه.”
ظهر على وجه لينا الذهول والأسى في آن. فبينما كان حسنًا أن تهتم كورديليا بأحوال الناس المحتاجين، بدا الأمر كأنها تجلب المتاعب لنفسها عمدًا، مما أثار قلقها.
“يا سموّ الأميرة، دعيني أعمل بدلاً منك……”
“على كل حال، نحن نحتاج أيادي إضافية اليوم. لذا ما قمتُ به بالأمس، ستقومين أنتِ به اليوم. وسأكافئك بزيادة في راتب هذا الشهر.”
“أستطيع العمل أكثر مهما احتجتِ. ألا ترتاحين اليوم يا سموك؟ لقد قلتِ إن كتفيك يؤلمانك بعد يومين من العمل.”
“لا يمكن. انظري فقط إلى ما تراكم هنا.”
ورغم أن بعض ما تراكم كان من المشتريات الإضافية التي طلبتها من السيدة ليمونت، فمع ذلك كان معظمها من إسرافها السابق.
وقفت كورديليا لحظة تحدّق في أكوام الأغراض. كان ذلك إسرافًا أشبه بتنفيس عن الغضب، وقد تعرّضت بسببه لانتقادات، لكنها الآن تشعر ببعض الامتنان أنها اشترتها.
“ثم إني وعدتُ إدوين بالفعل. يجب أن أشارك في التوزيع.”
وفي النهاية، لم تستطع لينا ثنيها عن رأيها.
كان من المقرر أن توزع كورديليا وإدوين الملابس بنفسيهما للناس الذين خسروا منازلهم وممتلكاتهم في الحريق. فرغم توفير مأوى مؤقت لهم، فلم يكن لديهم سوى ما يرتدونه، وغالبًا ما تكون ملابسهم متسخة لم يجدوا وقتًا لغسلها.
“شكرًا لك كثيرا، يا سموّ الأميرة.”
كان الناس ممتنين لها، رغم أنه كان بإمكانهم لومها على إهمال المسؤولين. لكنهم بدل ذلك نظروا إليها كمنقذة.
“عليك أن تقولي شكرًا.”
أخبرت الأم ابنتها أن تحيي الأميرة أيضًا. كادت كورديليا تقول إن الأمر لا داعي له، لكن الطفلة انحنت ضاحكة وهي تضمّ الثوب الجديد إليها.
“الأميرة تشبه الأميرة الحقيقية.”
“يا لهذه الكلمات التي تقولينها أمام الأميرة…”
أحيانًا كانت بعض الأطفال يطلقون تعليقات كهذه. وكان قول ‘أشبه بأميرة’ لأميرة حقيقية أمرًا مضحكًا، لكنه أسعدها أيضًا، لأنها لم تكن متزينة بأي زينة.
رغم أنها ارتدت ملابس عادية بدل فستانها الفاخر لأنه يزعج الآخرين ويعيق حركتها، فإن سماعهم يصفونها بالجمال كان لطيفًا. بل كان أجمل من إعجاب الرجال بها عادة.
“جميل أن أسمعه. شكرًا.”
ابتسمت لهم كورديليا واستدارت.
“الدوق ذهب لزيارة آخر منزل هناك.”
كان سكوت ـ الذي يقف كعلامة دلالة على الطريق ـ يُعلمها بمكان وجود إدوين، كأنه يعرف أنها ستسأل بعد قليل.
“آه، هناك إذًا.”
وبذلك استطاعت كورديليا إيجاد إدوين بسهولة. كان، مثلها، يرتدي قميصًا وبنطالاً ليسهل عليه الحركة، بينما يتحدث مع أحدهم. كان الهواء الجاف يحرك خصلات شعره البني برفق.
إدوين كان رجلاً وسيماً في كل الأحوال. فشعره كان يلمع تحت الضوء، وعيناه الخضراوتان رقيقتان كأوراقٍ غضّة. وحين يتناغم كل ذلك مع ملامحه، حتى الهواء الجاف يبدو كنسيم لطيف.
كانت البداية صعبة وفوضوية، لكنها تشعر الآن، كما قال إدوين، أن كل شيء يتحسن تدريجيًا.
“دوق، من الأفضل أن نعود الآن، لم يبقَ أي منزل.”
“كان ينبغي أن تنتظر صاحبة السموّ في العربة.”
وبمجرد أن لمح كورديليا، نزل إدوين من الطريق بسرعة وانتقد سكوت لأن تفكيره محدود. وبدت ابتسامة صغيرة على فم سكوت كأنه يريد توضيح أنه لم يكن هناك وقت ليمنع الأميرة من العودة.
“أنا بخير.”
“يدكِ، يا سمو الأميرة.”
لم يبدُ إدوين راغبًا في سماع أعذار سكوت، بل مدّ يده نحوها. فابتسمت كورديليا بخجل، واعتذرت لسكوت بصمت قبل أن تمسك يد إدوين.
“سموّ الأميرة!”
في تلك اللحظة، ركض الأطفال بثيابهم الجديدة نحوها، فالتفتت لأصواتهم. رغم أن أهاليهم قد طووا لهم الملابس بعناية، إلى أنها كانت واسعة عليهم كأنها ثياب شخص بالغ.
“هذا… هذا نريد تقديمه لكِ…”
قدّم الأطفال — وهم يجرون ومعهم رائحة الرمال — زهرة برية تحتضر. زهرة صغيرة قاومت حتى آخر لحظة قبل أن تجف.
“…….”
لكنها كانت تفوح برائحة لطيفة، وقد تلوّن لونها بدرجة بين الوردي والبنفسجي، رغم صغرها الذي لا يتجاوز عقدة الإبهام.
“شكرًا.”
تركت كورديليا يد إدوين واستدارت بالكامل نحو الأطفال، ثم أخذت الزهرة بعناية شديدة. كانت أوراقها الضعيفة ترتجّف في الهواء.
“إنها أجمل زهرة تلقيتها في حياتي.”
ابتسم الأطفال بفرح. كانوا قلقين من رفضها، لكن تعبيرهم تبدّل بعد سماعها.
شمّت كورديليا الزهرة بعمق، وملأت قلبها بنعومة ذلك الشعور العذب. شعرت أن قلبها يذوب مثل خبز طري دافئ.
ابتسامة… يجب ألا تبتسم كثيرًا…
وبينما كانت تحاول كبح ابتسامتها المتصاعدة، شعرت بنظرات فرفعت عينيها.
“…….”
كان إدوين يراقبها بصمت.
“هل ستعودين مرة أخرى؟”
وقبل أن تستقرأ نظرته، بادرها الطفل الذي قدّم لها الزهرة بسؤال خجول.
“نعم. سأعود لاحقًا.”
بفضل الطفل، استطاعت قطع تواصل الأعين مع إدوين. فالتفتت إليه وابتسمت برقة، فردّ بابتسامة واسعة تكشف فراغ سن أمامي.
“سموك، من الأفضل أن نغادر الآن.”
“حسنًا.”
لم يكن بإمكانهما الوقوف في الشارع يتبادلان الابتسام للأبد. فأفاقت كورديليا من شرودها، ولوّحت للأطفال قبل أن تستدير.
“يبدو أن كل أطفال الإقليم وقعوا في حبّ سموكِ.”
قالها إدوين وهو يساعد كورديليا على الصعود أولاً، ثم اعتلى العربة بساقيه الطويلتين. وقبل أن يجلس، ألقى نظرة عبر النافذة المفتوحة.
تابعت كورديليا نظره فرأت مجموعة من الأطفال مجتمعين لتوديعهم.
فلوّحت لهم بيدها، وكانت ابتساماتهم البريئة تجعلها تنسى حتى هيئاتهم البسيطة. وبدأ الأطفال يركضون بجانب العربة حين تحركت.
لكن ذلك لم يستمر طويلاً. سرعان ما تراجعوا حتى اختفوا من مجال رؤيتها.
“…….”
ومع ذلك، بقيت صورتهم في عينَي كورديليا طويلًا، لا تمحى.
التعليقات لهذا الفصل " 73"