كان صوت إدوين قريبًا من الرفض، لكن رأيها كان قد حُسم بالفعل. انحنت كورديليا نحو الطفلة التي كانت تبكي.
“صغيرتي، ما اسمك؟”
“إ… إيميلي.”
“حسنًا، إيميلي. هيا نذهب معك إلى منزلك.”
“…….”
“سنذهب بأنفسنا لنتأكد إن كان في بيتها أخ مريض فعلاً لدرجة انه لا يستطيع القدوم معها، وإن كان ما قالته كذبًا فسنستعيد الطعام منها. هل يظل الأمر مناسبًا لك؟”
تنهد إدوين بعمق.
“صاحبة السمو، افعلي ما ترينه مناسبًا.”
تدخل سكوت، الذي كان يراقب الجدال أشبه بمن يراقب خلافًا بين زوجين، وقال إن التجربة لن تضرّ ما دامت لن تغيّر شيئًا، واقترح أن يفعلوا ما قالته كورديليا.
“حسنًا. لكن إن كنت أنا على حق—”
“فلن أكرر مثل هذا الادعاء ثانية. مع أنني لن أتراجع عن قناعتي بضرورة منح الثقة أولاً.”
كانت تعلم أن إدوين يرى فيها شخصًا يغلبه الانفعال، لكنها لم تكن مستعدة للتراجع هذه المرة. حتى لو أخطأت عشر مرات، فإن أصابت مرة واحدة في موقف كهذا، فذلك هو الأهم. لم تستطع كورديليا تجاهل طفلة بائسة أمامها.
“مفهوم.”
وافق إدوين بوجه مُكرَه، بينما أسرع سكوت في لف الطعام بقطعة قماش وتسليمه.
“تقدّمي.”
وما إن خطت إيميلي مترددة، حتى تبعتها كورديليا دون تردد. فجاءت لينا بسرعة منذهلة، فقد توقعت أن تعود سيدتها إلى العربة.
“سموكِ، ستذهبين بنفسك؟ أستطيع الذهاب بدلاً منك…”
“أريد أن أرى بعيني.”
ارتسم الارتباك والحيرة واضحين على وجه لينا، لكن كورديليا لم تغير رأيها.
حتى عندما تبعتهم بعض النظرات الفضولية في الشارع، لرؤية صاحبة السمو وإدوين يسيران خلف طفلة صغيرة.
وحتى حين أدركت، متأخرة، أنها ستضطر لقطع الطريق كله بحذاء يخنق قدميها منذ الصباح، وتمنّت لو أنها استقلت العربة بدلاً من المشي.
“هنا…”
لكن لحظة وصولهم، تلاشت كل الأفكار.
“أهذا…؟”
تجمّد عقلها، وتوقف الزمن معها.
“هذا إسطبل…”
كان المكان عبارة عن إسطبل تابع للنزل المجاور. وبسبب عدم وجود نزلاء، كان الإسطبل فارغًا، فقام أحدهم بكنسه قليلاً، وسمح للطفلين بأن يتشاركاه.
لكن حتى هذا لم يعد مهمًا. فالرائحة العالقة في ثياب إيميلي، والغبار الذي غلّف جسدها، أصبح لهما الآن تفسير مؤلم… حتى إن الدموع في عيني كورديليا كادت تسقط.
لكنها لا يجب أن تبكي هنا. لا يجب أن تبدو وكأنها ترثيهم أو تتفضل عليهم. فأغمضت نصف عينيها وضغطت بكل قوتها لتمنع دموعها. ومع ذلك، كان تنفسها يضطرب.
“…أعطي الطعام لهما، لينا.”
عند سماع الأمر بصوت مبحوح، سارعت لينا إلى إعطاء الطعام للطفلين. أخذته إيميلي بيديها الصغيرتين وشكرتهم مرارًا، وهي تنحني.
“لماذا أنتما هنا؟”
سأل إدوين وهو يراقب بصمت. رفرفت عينا إيميلي بعدم فهم.
“يسأل إن كان لكما أقارب. أيّ قريب، خالة، عم…”
أوضح سكوت، المعتاد على ترجمة جفاف كلمات إدوين للآخرين، مغزى السؤال بلطف وهو يقترب منها.
“والداي توفّيا ليلة الحريق…”
“…….”
“وخالتي لم تستطع استقبالنا لأن زوجها عارض الأمر. قال إن أخي مريض وقد ننقل له العدوى…”
حرّكت إيميلي يديها الصغيرتين وهي تجيب. حدّق إدوين طويلاً في الطفل الرضيع الذي بالكاد يفتح عينيه ويئنّ بصعوبة.
ربما سمع من الأقارب كلمات أكثر قسوة من مجرد الخوف من المرض… كلمات جارحة بلا شك.
“ألم تفكري ولو مرة أن تتركي أخاك وتذهبي أنتِ لتعيشي عندهم؟”
هزت إيميلي رأسها بعنف دون تفكير، وكأن الفكرة نفسها مستحيلة.
“إنه أخي.”
وهنا انفجر السدّ. سالت دموعها على خديها، ومسحتها بعجلة لكن عبثًا. دفعت كورديليا يد إدوين بعيدًا، واستدارت عن الجميع. لم تعرف ماذا تفعل من شدة الألم الذي شعرت به… كان بصرها مشوشاً، كأن الألوان تتداخل في دائرة باهتة.
“سكوت.”
بينما كانت كورديليا تمسح دموعها بمنديل ناولتها إياه لينا وتتنفس بعمق محاولة التماسك، ناداه إدوين بصوت منخفض.
أرهفت السمع. فهي تعرف أن إدوين ليس قاسيًا كما بدا قبل قليل، لكنها كانت مستعدة للرد إن قال كلمة واحدة مؤذية للطفلة.
“استدعِ الطبيب فورًا. تأكّد أن الطفلين يُفحَصان ويتلقيان العلاج. سأتكفّل بكل التكاليف.”
تلاشى القلق كله في لحظة. لم يعد هناك ما تحتاج أن تقوله. فإدوين بدا وقد انكسر قلبه حين رأى الحقيقة بعينيه… وربما أراد أن يعتذر للطفلة بطريقته.
“حسنًا.”
“وأيضًا…”
تحركت خيمة قريبة بفعل الرياح، ومرّت لحظة صمت قبل أن يتنهد إدوين، فالتفتت كورديليا قليلاً لترى وجهه.
“باسم سموها، اشتَرِ كل النُزل والبيوت المتاحة في نطاق الإقليم. نحتاج لتوفير مساكن مؤقتة للمتضررين من الحريق.”
“حالًا يا سيدي.”
“وإيميلي.”
“نعم؟”
قفزت الطفلة متفاجئة عندما سمعت اسمها.
“أنا آسف. أنا رجل بالغ، وكان يجب ألا أشكّ في صدقك ولا أقول كلامًا جارحًا.”
“…….”
“لم يكن ذلك من حقي.”
ارتسمت على وجهه ابتسامة باهتة تحمل مرارة واعتذارًا.
حزن… لكنه حزن مكشوف لأول مرة. وشعرت كورديليا، التي رمشت بدهشة، بأن مشهد الألم السابق انسحب قليلاً من قلبها.
***
قام إدوين بشراء النُزل الملاصق للإسطبل فورًا، ودفع عليه ثمنًا مضاعفًا، ليسمح للطفلين بالإقامة في إحدى الغرف. ثم أحضر الطبيب ليفحصهما.
“يبدو أنه مصاب بإلتهاب رئوي.”
شخّص الطبيب مرض شقيق إيميلي بأنه التهاب رئوي، وقام بصرف العلاج فورًا. عندها فقط استطاع الثلاثة المغادرة.
“لقد أصبح الليل حالكًا.”
كانت العربة تتحرك ببطء، وكورديليا تكاد تفقد آخر ذرة من طاقتها. كان رأسها يرتدّ كلما اهتزت العربة فوق حجر.
“…….”
أما إدوين فكان يحدّق بصمت خارج النافذة، شاردًا. عادةً ما كان يضع يده بين رأسها وجدار العربة ليحميها، لكنه بقي ساكنًا هذه المرة. ربما كان منهكًا.
راقبته كورديليا في ظل ضوء الليل الباهت، وتذكرت ملامحه الحزينة، وشعرت بالفضول.
لمن كان يريد أن يقول ما قاله قبل قليل؟ لمن كان يعتذر في داخله؟ من كان يشبه إيميلي في قلبه؟
لكنها لم تستطع سؤاله. لأن ذلك يعني نبش ذكرى مؤلمة يخفيها… وهي لا تريد أن تُوجِعه أكثر.
وفجأة أضاء وجهَه ومضة ضوء برتقالي. لم يكن ضوء القمر، بل وهج نار. استدارت كورديليا بسرعة نحو النافذة، فرأت مجموعة من الناس يلتفون حول نار مشتعلة.
“ماذا يفعلون هناك؟”
“يبدو أنهم يغنون.”
يغنون؟ رمشت بدهشة، وأرهفت سمعها. وسط اهتزاز العربة، وصلها صوت غناء خافت. لم يكن هناك ما يبعث على السعادة، ومع ذلك…
“هل ترغبين في النزول ومشاهدتهم؟”
سألها إدوين وقد فهم حيرتها. ترددت. كان يومها طويلاً بلا نهاية، والتعب ينخر في جسدها. كانت تتمنى العودة إلى القصر والنوم، خصوصًا أن يوم الغد سيكون طويلاً أيضًا.
“إن كان الأمر لا يزعجك…”
لكن صوت الغناء كان جميلاً، ولسبب ما شعرت أن إدوين يريد النزول مثلها. هذا الشعور دفعها إلى اتخاذ القرار.
وبمجرد موافقتها، طرق إدوين جدار مقعد السائق، فبدأ السائق يخفف سرعة العربة تدريجيًا.
التعليقات لهذا الفصل " 71"