وبينما كانت كورديليا تُدخِل قدميها في الخفّ، كان إدوين قد حرّك أولاً حبل الجرس منادياً الخدم.
“اعتنوا بسموّها.”
تحرك الخدم، ومن بينهم لينا، بسرعة وانسجام. وبمساعدتهم أنهت كورديليا غسل وجهها على نحو بسيط، ثم انتقلت خلف الستار لتبديل ملابسها. تبعتها لينا بخطوات صغيرة وهي تحمل فستان كورديليا.
“إدوين، ما جدول اليوم؟”
“مماثل ليوم أمس.”
تقلصت ملامح لينا قليلاً حين سمعت جوابه؛ كان وجهها مليئًا بالقلق من احتمال أن يتسخ الفستان مجددًا كما حدث البارحة.
“هممم……”
خرجت آهة متضايقة من شفتي كورديليا. فقد كان ذلك يشغل بالها هي أيضًا.
ومع ذلك، ليس بإمكانها ارتداء لباس الخادمات. فمكانتها لا تسمح، عدا عن أن قلة المياه تجعل الخدم أنفسهم يعانون من صعوبة في الغسيل.
“ساعديني في ارتدائه، لينا.”
لم يكن أمام كورديليا سوى خيار واحد. حتى لو تلطّخ الفستان مرة أخرى، فلا حيلة لها. فبمجرد عودتها إلى القصر ستغرق بالثياب الجديدة، ولوم نفسها لارتدائها هذه الملابس الراقية أثناء أعمال التطوع لم يكن مجديًا.
“إنه مؤسف جدًّا……”
“بصراحة، أنا أتفق معك. لكن لا خيار لنا هنا، وعلينا تحمّل ذلك.”
مرّرت لينا أصابعها على القماش المصنوع بدقة وهي تتذمر. استطاعت كورديليا أن تشعر بما تشعر به لينا، وقررت حال وصول الملابس الجاهزة التي طلبتها من السيدة ليمونت أن تحتفظ بقطعتين أو ثلاث. ولم تنسَ أن تبرّر لنفسها بأن ترك الفساتين التي أحضرتها دون استخدام يعدّ تبذيرًا.
“سموّكِ، ماذا عن شعرك؟ كيف أصفّفه؟”
“ارفعيه بالكامل. لا أريده أن يعيق حركتي.”
أومأت لينا وأجلست كورديليا أمام طاولة الزينة. وبينما كانت كورديليا تراقب يدي لينا عبر المرآة، لمحت عند طرف المرآة صورة إدوين.
“…….”
كان يراقبها. بخلاف ما ظنّت أنه سيكون منشغلاً بأوراقه كالمعتاد.
“سموّكِ، ماذا عن العقد والأقراط……”
“اتركي كل شيء كما هو. لن أرتدي شيئًا.”
بالأمس فقط كانت تتوق لنظرة واحدة منه، أما الآن وقد شعرت بوجوده خلفها وهو يراقبها، فقد ساورها شعور غريب.
‘لماذا ينظر إليّ هكذا……’
وكأن حرارة خفيفة تسللت إلى عنقها.
***
كان فناء مركز الإغاثة مكتظًا بالناس اليوم أيضًا، وتصلبت كتفا كورديليا وذراعاها بعدد المنتظرين. ومع ذلك، كانت مهمتها اليوم توزيع البطاطا الحلوة بدلاً من طهي عصيدة الشوفان كما في الأمس.
“شكراً.”
تقدّم صبي صغير ملطخ بالتراب والسخام، ومدّ سلة صغيرة بتردد. وحين ملأتها كورديليا له بالطعام، انحنى شاكرًا ثم ركض خارج الفناء.
“سموّكِ، لنعد الآن.”
كانت ما تزال تتأمل ظهر الصبي المتراجع حين ناديها إدوين ليعودا إلى المنزل. فنظرت إلى من كانوا يشاركونها توزيع الطعام وهم ينظفون المكان، ثم أومأت.
كانت متعبة بالفعل، فهذه الأعمال ليست مما اعتادت عليه، لكن شعورًا دافئًا بالرضا سرى في قلبها. فقد شعرت أنها ساعدت ولو قليلاً في حياة الناس هنا. على الأقل لم تكن مضطرة لرؤية اليأس والألم اللذين رأتهما لأول مرة.
“أمم……”
كانت لينا تهرع إليها لتنفض التراب العالق بفستانها حين اخترق صوت صغير هدوء اللحظة. كانت فتاة صغيرة، تبدو في السابعة تقريبًا.
“أ، أنا جئتُ لأستلم الطعام.”
“ألم تأتي قبل قليل؟”
لم يكن ممكنًا تذكّر كل من مرّ، لكن نسيان طفلة تحمل آثار حروق واضحة على ظهر يدها بسبب الحريق لم يكن واردًا. ترددت الطفلة قليلًا قبل أن تنطق.
“لـ… لا……”
أجابت بحذر.
“إنها تكذب.”
قال سكوت ببرود، ليكشف كذبتها دون تردد. كان يتمتع بقدرة مذهلة على تذكّر الوجوه.
“…….”
ومع تأكيده، بدأت الطفلة ترتجف. فتنهّدت كورديليا بأسى.
“دعي سكوت يتولى الأمر وتعالي. سنناقش الليلة أماكن سكن المتضررين من الحريق.”
شعر إدوين بانزعاجها فأسرع ليمدّ لها يده، لكن كورديليا توقفت في منتصف الطريق.
“هل لديكِ سبب يجعلك تحتاجين للمزيد؟”
لا بد أن هناك سببًا. هكذا خطر لها، ولم تستطع تجاهل ذلك الشعور. رفعت الطفلة رأسها بخوف وعيناها دامعتان.
“لقد أخبرونا أن كل شخص يحصل على مقدار محدد.”
“صحيح. وأنتِ حصلتِ على نصيبكِ.”
“لديّ أخ صغير مريض، ولم أستطع إحضاره معي. فظننت أنه إن تصرفتُ وكأني لم آتِ، فسأحصل على المزيد……”
نظر سكوت إلى السلال الفارغة المرتبة بعناية، لكن صوته انقطع حين تقدّم إدوين ودفع كتفه جانبًا.
“سموّكِ. التوزيع له قواعد، ولا يجوز لأحد تجاوزها.”
كان صوته باردًا. وتفاجأت كورديليا حين رأت وجهًا لإدوين لم تعهده.
“لكن لا يوجد أحد هنا الآن. حتى لو أعطيناها مرة أخرى، لن يشكّ أحد.”
“الفقراء قد يكذبون إن كان في الكذب منفعة عاجلة. وتغيير كلامهم ليس أمرًا صعبًا عليهم.”
حاولت كورديليا الدفاع، لكن رد إدوين كان حادًا. لقد أظهر دون مواربة تحيزه تجاه الفقراء.
“إنك قاسٍ يا إدوين.”
فكلماته يجرح بها حتى الكبار. وقفت كورديليا أمام الطفلة لتحجب عنها وطأة كلامه، وتشرح له أن مجيئها في وقت خلوّ المكان دليل على أنها لا تريد أن يعرف الآخرون.
“هؤلاء يذهبون لقليل من الطعام، ويحاولون التلاعب لنيل المزيد.”
“…….”
“أو ربما هناك مَن في عائلتها مَن طلب منها ادعاء ذلك.”
لم يتراجع إدوين، ورآها بمنتهى السذاجة لأنها تصدّق مثل هذه القصص.
ولم تستطع كورديليا فهمه. بل بدا لها غريبًا. تمامًا مثل اليوم الذي رأته فيه يحتقر سكان الأزقة الخلفية، رغم اعتياده على ظروف قاسية كالتي في المقاهي الرخيصة.
“سموّكِ لا تعرفين الحقيقة.”
كانت حدته مربكة. فهل حقًا كانت مخطئة وهو على صواب؟
راودت كورديليا ذكرى كلمات لورنسن التي قالها سابقًا: إن من لا يملكون شيئًا، ويكافحون للعيش، لا تعني لهم السمعة والكرامة شيئًا. فتسلل إليها الظن بأنه ربما… ربما ما يقوله إدوين صحيح.
“أستطيع أن أحلف! سأقسم بحياة أبي وأمي الراحليْن، وحتى حياة أخي!”
شقّ صوت الطفلة المرتجف الصمت. فنظر إدوين و كورديليا إليها في اللحظة نفسها.
“إن ذهبتم معي إلى المكان الذي أعيش فيه أنا وأخي، ستعرفون أني لم أكذب. أنا لا أكذب… حقًا….”
بدأ صوتها يخفت وسط شهقاتها المتقطعة، كطفل عالق بين ابوين يتشاجران.
اشتدّ خطّ فك إدوين، وانصدع وجهه المتجمّد قليلًا. رغم إنكاره، بدا واضحًا أن دموع الأطفال نقطة ضعفه. ومع ذلك لم يتراجع عن موقفه.
“إدوين.”
نظرت كورديليا بينه وبين الطفلة، مزفرة بزفرة متعبة.
“بما أنها تقول هذا كله… ما رأيك أن نذهب ونرى منزلها؟”
حتى لو كان رأيًا ساذجًا، لم تستطع كورديليا تجاهل طفلة باكية.
التعليقات لهذا الفصل " 70"