“إنها ماسةٌ زرقاء بلون عيني الأميرة كورديليا.”
“علاقتنا ليست مبنية على العاطفة يا سكوت. طالما نلتزم بالاحترام المتبادل في العلاقة، فذلك يكفي…”
“يكفي هذا، ولكن عندما تقابل الأميرة كورديليا، أبلغها من فضلك أنني أنا من بحثتُ بنفسي عن ماسة بهذا اللون المطابق لعينيها.”
قبل بضعة أيام، حين أحضر سكوت الماسة الزرقاء، قال ذلك بحزم لإدوين. كان قطعه لكلام سيده تصرفًا وقحا نوعًا ما، لكن بما أنه سكرتيره الكفء، فقد اختار إدوين أن يلتزم الصمت ويُطيعه.
ورغم أن إدوين أدرك سوء الفهم في نظر كورديليا، فإنه لم يُحاول تصحيحه، بل اكتفى بمراقبة الموقف وهو يبتسم، راضيًا بسير الأمور على هذا النحو. فذلك الفهم الخاطئ يصبّ في مصلحته، إذ يرفع من شأنه في نظرها، فلا حاجة لتوضيح غير ضروري.
“إنك لطيفٌ للغاية.”
أما كورديليا، فقد كانت تحاول جاهدة ألا تبتسم أمامه، وكأنها تخشى أن تُظهر اهتمامها الكبير به. والنتيجة كانت وجهًا يجمع بين الرقة والتمنّع في آن واحد.
ومع ذلك، لم تستطع نظراتها البريئة أن تفارق حركاته وتصرفاته، فكانت تتابعه بعينيها أينما تحرك. وكان إدوين يدرك تمامًا ما تعنيه تلك التناقضات بين تصرّفاتها ونظراتها.
كم هي لطيفة.
كانت الأميرة ما تزال تحاول أن تُظهر عدم رضاها التام عن هذا الزواج، وتسعى إلى فرض تفوقها في العلاقة، لكن في المقابل، كان ميلها نحوه يزداد يومًا بعد يوم.
أما إدوين، فكان في الحقيقة غير معنيٍّ كثيرًا بهذا الارتباط؛ لذا لم يُبالِ أكانت كورديليا تُمسك بزمام العلاقة أم لا.
لا أدري، أهي لطيفة أم مسكينة؟
“شكرًا لك.”
قالها إدوين بأدب وهو يحيّي الخادم الذي فتح له الباب ثم غادر القصر. كان قد أنهى الوقت المخصص لمرافقة الأميرة، وآن أوان العودة إلى منزله للراحة.
“جلالة الملك يطلب حضورك على الفور.”
لكن حلم الراحة تبدّد تمامًا مع استدعاء الملك. كتم إدوين تنهيدة كادت تفلت من صدره، ولحق بالخادم الذي جاءه بالرسالة الملكية، محاولاً في الوقت نفسه أن يستجمع أفكارًا سارة لئلا يبدو وجهه عابسًا أمام الملك.
وفي تلك اللحظة، تذكّر نبرة السيّدة ليان الساخرة التي سمعها في الصباح.
“يبدو أنك أصبحت بارعًا في أمور الغرام.”
فقد انتشرت في العاصمة أخبارٌ مفادها أن إدوين اختار بنفسه وأهدى للأميرة كورديليا جوهرة نادرة.
في البداية، شكّ البعض في صحة تلك الشائعات حول علاقة رومانسية بين أميرةٍ ورجل أعمال من العامة، لكنّ الصحف سرعان ما بدأت تُركّز على قصة الحب تلك، إذ إنّ ذلك يُنعش المبيعات أكثر من أي تكذيب أو إنكار.
“بالطبع، كان الزواج من البداية مثيرًا للجدل، أليس كذلك؟”
كان صوت السيّدة ليان هادئًا وهي تمسح بعناية آثار الزيت عن شفتيها بعد العشاء، كان يصعب على من لا يعرفها أن يلاحظ خبث ما تخفيه نبرتها.
لكن بعد أن عاشا تحت سقف واحد لأكثر من عشرين عامًا، لم يكن صعبًا على إدوين أن يدرك كم كانت تعتبره شوكة في عينها.
“العيش الرتيب كحياة بارتون لا يُثير الاهتمام، أليس كذلك؟”
لم يُفوّت الفرصة، فذكر اسم ابنها بارتون بسخرية واضحة.
“كنتُ أظن أنك أقسمت ألا تعرف الحب مجددًا، لكن يبدو أن الأميرة فاتنة حقًا، أليس كذلك؟”
قهقهت ليان بازدراء وهي تستحضر زواجه الأول، مستهدفة بذلك أضعف نقاطه، التي كانت تعرفها جيدًا.
“صحيح. يبدو أن زوجتي دومًا الأجمل، أيًّا كانت. حتى بارتون يظنّ أن زوجته هي الأجمل في العالم أيضًا.”
لكنّ كلماتها لم تجرحه. فإدوين لم يعد رجلاً يسهل كسره بهذا النوع من الاستفزاز.
“يسرّني أن علاقة ابنكِ بزوجته تسير على ما يرام، لكن هل يُعقل أن نقارن امرأة عادية بأشرف وأجمل نساء روتشستر؟ جمال الأميرة لا يُقارن بغيره، فهي تفوق هايلي ترييد نفسها.”
“إدوين ترييد!”
صرخت ليان وقد احمرّ وجهها غضبًا. كان يؤلمها أصلاً أنها لم تستطع تزويج ابنها بالأميرة، وها هو الآن يسخر منها بمقارنةٍ لاذعةٍ بين هايلي وكورديليا. فجنّ جنونها في تلك اللحظة. لم يستطع إدوين سوى أن يبتسم عند تذكر ذلك المشهد.
ومع ذلك، لم تكن كلماته كلّها كذبًا، إذ إنّ في طيّاتها بعضًا من الحقيقة.
نعم، إنها حقًا جميلة.
فكّر بذلك بتجرّد موضوعي، كرجل له عينان تُدركان الجمال.
“جلالتك، السيّد إدوين ترييد قد وصل.”
فُتح الباب، فدخل إدوين ورأى الملك أمامه. كان وجه الملك لا يزال يحتفظ بوسامته التي اشتهر بها في شبابه، وقد ورثت كورديليا ملامحها عنه بوضوح. إلى جواره جلس وليّ العهد، الأمير لورنسن، على نحو لم يتوقّعه.
“إدوين ترييد يحيّي جلالة ملك روتشستر وسموّ وليّ العهد.”
انحنى بعمق احترامًا، فأشار الملك برأسه وأجابه بنبرة مهيبة:
“اجلس.”
ثم أومأ إلى المقعد المقابل للورنسن.
“كما تَوقّعت، سبب استدعائي لك اليوم هو كورديليا.”
لم يكن بين الملك وإدوين مواضيع كثيرة للحديث سوى الأميرة، لذا لم يتفاجأ.
“ربما جرت الأمور على هذا النحو، لكنك تعلم جيدًا أنك لولا تلك الحادثة، لما كنت لتقابل كورديليا أصلًا.”
قال الملك ببرود واضح. وكان إدوين يعرف أن كلماته صادقة. فمحبة الملك لابنته كانت من الأمور التي يعرفها القاصي والداني.
“أشعر بالكثير من الذنب تجاهها.”
فكم كان الأمر صعبًا على أب مدلّل لابنته الوحيدة أن يُزوّجها لرجل من العامة لا يرقى في المكانة إلى مستواها. والأسوأ، أنّها في يوم إعلان الخطوبة بكت كما لو أن العالم قد انهار من حولها.
“إيّاك أن تجرحها.”
ربما لذلك كانت نظرات الملك إليه حادّة وباردة أكثر من أي وقت مضى. ففي نظره، كان زوج ابنته دائمًا في موضع المتّهم.
“خصوصًا ما يتعلّق بالنساء. لو تسبّبتَ لها بأيّ ألم بسبب أمر كهذا، فسأُطلّقها منك في الحال، واضح؟”
رغم شدّة التهديد، ظلّ إدوين مبتسمًا بلُطف. لقد تمرّس طويلاً في إخفاء مشاعره خلف قناع هادئ لا يتزحزح.
“لم يحدث في الماضي ما يسيء إلى سمعتي في هذا الجانب، ولن يحدث في المستقبل، أعدكم بذلك.”
كان توقّع مثل هذا التحذير أمرًا طبيعيًّا بالنسبة له. وإن كان في قرارة نفسه يرى أن من احتاج إلى هذا الزواج أكثر هو القصر الملكي لا أسرة ترييد. لكن، هكذا هم أصحاب النفوذ دومًا.
“حتى إن طُلّقت كورديليا، فسيظل هناك الكثير من الرجال الذين يطمعون بها. لذلك إيّاك أن تعتبرها زهرة في قبضتك، فهمت؟”
“جلالتك، عائلة ترييد تدرك هذا تمامًا، فلا داعي للقلق.”
تدخّل الأمير لورنسن بخطوة إلى الأمام، في محاولة لتخفيف حدّة التوتر. كان واضحًا أنّه لا يحمل ضغينة تجاه إدوين، بل يحاول تهدئة والده.
“لقد أقسمت عائلة ترييد بأن تبذل قصارى جهدها بصفتها جزءًا من العائلة الملكية الآن.”
ابتسم لورنسن وألقى نظرة ودّية على إدوين، الذي ردّ بإيماءة خفيفة تدلّ على الموافقة.
“نعم، لقد أقسمتُ بنفسي على ذلك.”
كانت الصفقة بين عائلة ترييد وبيت روتشستر واضحة: كلّ طرف قدّم أحد أهمّ أفراده ضمانًا للعهد، ليكون اتفاقًا لا يمكن كسره.
فالأسرة الملكية كسبت فرصة لإثبات مصداقيتها أمام البرلمان وتجاوز الفضيحة التي كادت أن تطيح بسمعتها، بينما حصلت عائلة ترييد على حماية أعمالها التجارية من تهديدات النبلاء، بل وعلى إمكانية توسيع نشاطها بفضل لقب “أصهار العائلة الملكية”.
“إنّ والدي ما زال يرى كورديليا طفلته الصغيرة، لذا أرجو أن تتفهّم موقفه.”
قال لورنسون بنبرة لطيفة موجّها حديثه لإدوين، الذي شعر أنّ الأمير هو الشخص الوحيد في هذا القصر الذي يتحدث بعقلانية.
“لقد أقسمتُ أن أبذل قصارى جهدي للأميرة، كزوج لها وكفرد من عائلة ترييد على السواء.”
“……”
“وأُدرك تمامًا أنّ جلالتك قد ائتمنتني على أثمن ما تملك، لذا لا تقلق.”
كانت لقاءاته المتكرّرة مع كورديليا، التي لم تكن ضمن خططه الأصلية، جزءًا من هذا العهد.
“سأكون الرجل الذي يليق بلقب فارسها.”
لم يكن إدوين يحبّ تضييع وقته في أمورٍ لا طائل منها، لكنّه رأى في قضاء الوقت مع كورديليا استثمارًا ناجحًا. فمجرد منحه إياها جزءًا من وقته كان كفيلاً بتعزيز مكانته في قلبها، وهو أمرٌ فعّال للغاية.
نظر الملك إليه بامتعاض، متظاهرًا بالهدوء، لكن الغضب كان واضحًا في عينيه. كان يكره وجهه الواثق أكثر من أي شيء، ومع ذلك لم يجد ما يقوله بعد أن سبقه إدوين بكلمات محسوبة بإتقان.
“سأمنحك لقب دوق قبل الزفاف.”
قالها أخيرًا وهو يحاول إقناع نفسه بأنّ ما يفعله نابعٌ من كونه والدًا يمنح ابنته للرجل الذي اختارته. كان عليه أن يُهدّئ غيظه بطريقة ما.
“أليست وصمة العار التي تحاول العائلة الملكية محوها هي احتقارها للعامة، ورفضها الاعتراف بالبرلمان كمؤسسة سياسية؟”
لكن بدل أن يشكره، جاءه سؤالٌ غير متوقّع. بدا للملك سؤالُه هذا جريئًا… بل وقحًا.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"