قدّمت كورديليا للطفل ملعقة كبيرة من العصيدة. عندها بدأ الآخرون الذين كانوا يراقبون الوضع من الخارج يتسللون ليرفعوا رؤوسهم فوق سور الفناء.
“العم بوب!”
الطفل الذي كان يلتهم نصيبه على عجل لمح رجلاً يرتدي قبعة بالية، فرفع صوته منادياً. فارتبك الرجل الذي ناداه الطفل بـ العم بوب.
“قالوا إن بإمكانك الدخول لتأكل!”
لقد بدا الرجل شديد الحذر حين رأى إدوين وكورديليا اللذين يبدوان في غاية الوجاهة، لكنه سرعان ما أغلق عينيه بإحكام ودخل. كان يبدو كمن يفكر أن الموت شبعا خير من الموت جوعًا.
وكان هو البداية. فبمجرد أن وطئت قدم أحدهم الداخل، بدأ الآخرون بعد تردد قليل بالدخول واحدًا تلو الآخر.
“ألم يحن الوقت بعد؟ هل يقدمون الطعام مبكرًا اليوم؟”
“إذن يجب أن نسرع! ماذا لو نفد الطعام؟”
وبدأ البعض يركضون خشية أن يصلوا متأخرين فلا يتمكنون من الحصول على حصتهم. وفي وقت قصير أصبح مدخل المبنى مزدحمًا بالناس.
“ليمثل كل شخص صفّه بحسب وصوله. من يتجاوز دوره سأعيده إلى آخر الصف، فلا تفعلوا ذلك.”
كان سكوت يكره الفوضى، فركض مباشرة إلى المدخل، ومنع الناس من الازدحام، وصفّهم في طابور منتظم. كما حدّد كمية الطعام والماء لكل شخص.
كان الوضع فوضويًا على نحوٍ يفوق التوقعات، إذ نفد الطعام والماء بسرعة. لكن في المقابل، دبّت الحياة في وجوه الناس، وعمّ النشاط في فناء المبنى.
“لا تركضوا، أيها الأشقياء!”
“إنه أمر خطير!”
وإذا كان هذا حال الكبار، فلا حاجة للحديث عن حال الأطفال. فقد ركض الأطفال بلا تردد بالقرب من كورديليا وإدوين وهم يلهون ويلعبون.
“آااخ!”
ثم وقع المحظور. إذ تعثر أحد الأطفال الذين كانوا يركضون حاملاً وعاء العصيدة، فسقط.
“…….”
وكان اتجاه سقوطه مواجهاً لكورديليا تمامًا. فانقلبت الأجواء الصاخبة في الفناء إلى صمت ثقيل في لحظة واحدة.
“يا لشديد الأسف… إنها ثياب سيدة نبيلة…”
يبدو أنهم لم يعرفوا أن كورديليا وإدوين هما الأميرة والدوق، بل مجرد نبلاء. لكنّ اتساخ ثياب أحد النبلاء ذريعة كافية لتوقّع عقاب شديد.
“…….”
نظرت كورديليا بهدوء إلى فستانها. ولحسن الحظ كان الطفل قصير القامة، فلم يتناثر شيء على وجهها أو جزعها العلوي، لكنّ العصيدة انسكبت على أحد جانبي الفستان مخلّفة أثرًا واضحًا.
“أ… أ… آسف…”
أدرك الطفل خطورة ما حدث، وبدأ صوته يرتجف موشكا على البكاء.
“يا صاحبة السمو، هل أنتِ بخير؟”
تجاهل إدوين الطفل واقترب من كورديليا، وأخذ يمسح العصيدة بمنشفة. أما الحاضرون، فبدأت أفكارهم تتسارع.
من هي المرأة التي يمكنها التفوق على البارون وينفيلد، ويُخاطِبها رجل واضح النبل بـ صاحبة السمو؟ كم عدد النساء في روتشستر اللواتي تنطبق عليهن هذه الصفة؟ وكيف كان شكل الأميرة كورديليا أصلاً؟
“يا إلهي…”
أخيرًا أدركوا حقيقتها. وامتقعت وجوههم في اللحظة نفسها. كما لاحظت كورديليا بدورها نظراتهم المتفاجئة، والتي اختلط فيها الخوف.
“أنتِ!”
“إدوين، أنا بخير.”
أوقفت كورديليا إدوين الذي كان على وشك توبيخ الطفل.
“لم يفعلها عن قصد.”
“لكن الثوب…”
“لم أتضرر. مجرد بعض الأوساخ.”
أكدت كورديليا لإدوين أنها بخير، ثم انخفضت نحو الطفل. وما إن التقت عيناهما بعينيها حتى انفجر بالبكاء.
“لقد… لقد أخطأت…”
كان قد أخطأ—بالاندفاع والركض بلا تحكم—لكن كورديليا لم ترغب في قسوته. فهو كان مذعورًا بالفعل، وأدرك خطأه تمامًا.
“أنا بخير، لا تبكِ.”
“…….”
“لكن، لكي لا تؤذي نفسك أو الآخرين، لا تركض هكذا بين الناس. حسنا؟”
هز الصغير رأسه وهو يشهق بالبكاء، كان يبدو في السابعة من عمره.
“لقد ابتلّ وجهك كليا…”
بحثت كورديليا حولها عن شيء لمسح وجهه، لكنها لم تجد. فالمنديل بيد بدون كان متسخًا، أما فستانها فلا يمكنها استعماله.
“هل أُقدّم لك طبقًا آخر؟”
مسحت دموعه بيديها وهي تسأله، فهز رأسه إيجابًا. ابتسمت قليلاً. بدا أن دموعه لم تكن بسبب الخوف فقط، بل أيضًا لأنه لم يكمل طبقه.
“هيا، أمسك بيدي وانهض.”
تمسك الطفل بأطراف أصابعها ونهض ببطء.
“…….”
هنا تقدّم إدوين وقدّم طبقًا آخر للطفل. انحنت كورديليا بعمق تحيةً له، ثم راقبت خطواته الحذرة وهو يبتعد حاملاً طبقه.
أما إدوين فبقي يحدّق بها بنظرة غريبة، وكأنه يشهد أمرًا لم يتوقعه.
***
لم ينته العمل الشاق سوى مع بداية الغروب. عادت كورديليا إلى القصر وهي تتحاشى أن يلامس الجزء المتّسخ من فستانها مقعد العربة.
بعد يوم كامل وسط الضجيج والفوضى، شعرت كأنها حضرت حفلات لأيام متواصلة. وبدأت ذراعاها وكتفاها يؤلمانها من كثرة العمل. كانت مرهقة لدرجة أنها لم تستطع حتى مراقبة إدوين كالعادة.
“يا صاحبة السمو.”
وما إن فتحت باب غرفة النوم—بعد أن اكتفت بمسح وجهها وجسدها بمنشفة مبللة لعدم قدرتها حتى على الاستحمام—حتى اخترق صوت إدوين أذنها.
“لقد بذلتِ جهدًا كبيرًا اليوم.”
كان يعرف جيدًا مقدار تعبها، وصوته الهادئ كان يقدّر جهودها ويثني عليها.
“ذراعاي تؤلمانني. وقدماي أيضًا من الوقوف الطويل.”
هناك لحظات يصعب فيها على المرء كتمان أوجاعه إذا وجد من يصغي. وهذا ما حدث معها الآن.
“لا بدّ أن الأمر كذلك.”
أجاب إدوين بلطف، متفهمًا شكواها.
“هل تريدين أن أدلِّكهما قبل النوم؟”
“أنت؟”
بل وعرض عليها تدليك ذراعيها وساقيها. فاندهشت وفتحت عينيها على وسعهما.
“لقد عملتِ طوال اليوم دون أن تعترضي، رغم أني لم أخبرك مسبقًا بما ستفعلينه.”
أخبرها إن جهودها تستحق مكافأة. كلمات لم تعهدها كورديليا التي لم تعمل يومًا عملاً شاقًا.
“وأنت تتعب أيضًا بسببي.”
شعرت بالفخر، لكن أيضًا بالذنب. فهي لم تتطوع للعمل بملء إرادتها.
“ولا تنسي أن الطفل لوّث فستانك ومع ذلك تمالكتِ نفسك.”
واصل إدوين البحث عن سبب ليكافئها.
“توقعتُ أنك ستغضبين.”
فهمت حينها. كان إدوين على وشك الغضب لا لأنه انزعج، بل لأنه أراد تجنّب مقال صحفي قد يسيء لكورديليا لو أنها فقدت أعصابها، ففضّل أن يتحمل هو الموقف بدلاً منها.
“لأنني قلت إنني لا أحب الأطفال.”
“صحيح أنك لا تحبين ذلك، ولكن…”
“…….”
“هم أطفال في النهاية.”
عدم حب الأطفال لا يعني إيذاءهم أو الصراخ في وجههم بلا سبب. بل يعني صعوبة تحمّل فوضاهم. وهو فارق كبير.
“لقد أسأتُ الفهم إذن.”
اقترب إدوين وقد وقف من مكانه.
“لا، بل إنني لم أوضح جيدًا… ما الذي—؟”
قبل أن تكمل، أمسك إدوين بها من خصرها ونقلها إلى وسط السرير. رمشت بعينيها متفاجئة.
“إدوين!”
من دون تفسير، تحرك إدوين نحو قدميها، وأمسكهما فجأة. شهقت كورديليا. لكنه تابع دون أن يكترث، دلك قدميها بضغط ثابت ثم صعد تدريجيًا إلى كاحليها وساقيها. فارتجف جسدها من شدة الألم الممزوج بالراحة.
“استرخِي فقط.”
لم يمهلها فرصة للاعتراض. فتابعت يداه القويتان فَتْرَفَة عضلاتها المتشنّجة.
التعليقات لهذا الفصل " 68"