نادته كورديليا باسمه. فالتفت إدوين بهدوء إلى زوجته.
“هل يمكن أنّ….”
كانت كورديليا تتردد وهي تنظر إلى إدوين. لم يكن يبدو أنها ستقول شيئًا مهمًا للغاية، أو هكذا ظن. ومع ذلك تحلّى بالصبر وانتظر أن تُنهي كلامها.
“ما رأيك لو أحضرتُ الأشياء التي اشتريتها آخر مرة ووزعناها هنا؟”
“الأشياء التي اشترتها سموّكِ؟”
ابتسم إدوين ابتسامة متحيرة. فالأشياء التي اشترتها كورديليا لم تكن سوى فساتين وجواهر وما شابه، وهي بلا فائدة للفقراء الذين يجدون صعوبة حتى في سدّ جوعهم.
“سيستغرق تحويلها إلى مال وقتًا طويلاً.”
“من بين الأشياء التي اشتريتها ملابس جاهزة أيضًا.”
“…….”
“أ- أعرف أن هذا أمر مُخجل. كنت فقط أريد التخفيف عن نفسي وقتها.”
بدأت كورديليا تعترف بخجل بما في قلبها. فقد كانت ترغب يومها في تفريغ توترها بأي شكل، ولم تعرف سوى إنفاق المال بسخاء، حتى لو كانت تلك الأشياء بلا فائدة لها وانتهت ملقاة في أحد زوايا المخزن.
“قد تُفيد أولئك الذين فقدوا كل ممتلكاتهم.”
إن استُخدمت بهذا الشكل، فلن تكون عديمة القيمة تمامًا.
“سأبلّغ سكوت بالأمر.”
عادت الحياة إلى وجه كورديليا للحظة. كانت سعيدة بإمكانية مساعدة المساكين، لكن ذلك لم يكن السبب الوحيد. كان يبدو عليها الارتياح لأنها لن تُوبَّخ على تبذيرها بلا فائدة.
كان من المؤلم قليلاً رؤيتها تتصرف بحذر شديد. فقد كان هو من قال أثناء كتابة عقد ما قبل الزواج إنها تستطيع إنفاق المال كما تشاء.
وفي الحقيقة، لم يكن ذلك ليؤثّر كثيرًا على ثروة عائلة ترييد، ولولا أن السخط على الملكية دفع بعض الأشخاص إلى مهاجمة كورديليا بشكل مباشر مؤخرًا، لما كان ذلك مشكلة من الأصل.
“كل شيء سيمرّ بسلام، فلا تقلقي.”
“سأعمل بجدّ خلال نشاط التطوّع غدًا أيضًا.”
وقفت كورديليا من مقعدها واقتربت من إدوين وعانقت خصره بقوة. فقبّل إدوين أعلى رأسها بعفوية.
“فقط لا تُجهدي نفسك حدّ الأذى.”
“حسنًا.”
كانت المقالات المزعجة تُفسد هدوء أيامهما، وهذا أمر مُزعج حقًا، لكنه في المقابل جعل الأميرة الصغيرة تبدأ بالنضوج، وهذا… قد يكون مفيدًا على نحو ما.
وبهذا التفكير.
***
استيقظت كورديليا باكرًا ذلك الصباح، ونظرت مطولاً إلى وجه زوجها الذي كان نائمًا على غير عادته. بدا التعب واضحًا تحت عينيه، فشعرت بالأسى نحوه.
كانت تعلم بالفعل أنه مشغول بأعمال الشركة، ومع ذلك كان يُرهق نفسه بأمور أخرى بسببها. وكانت تعلم أنه ما إن يعودا إلى قصر ترييد، سيكون عليه معالجة الأعمال المتراكمة، وهذا جعلها تشعر بالذنب.
ولهذا السبب قررت أن تُحسن التصرف من الآن فصاعدًا.
كان ذلك العزم لأجل إدوين… ولأجل سكان هذه الأرض أيضًا.
“…….”
لكن ذلك كان قرارًا اتخذته كورديليا بناءً على ما اعتادت عليه من أعمال في الماضي. أي أن ما تراه الآن أمام عينيها… لم يكن ضمن توقعاتها أبدًا.
فالمكان الذي اصطحبها إليه إدوين في هذا الصباح الباكر كان دار الإغاثة التي صدمتها بالأمس، والمهمة الموكلة إليها هي إعداد الطعام من جبالٍ من المكونات الموضوعة أمامها، ثم توزيعه.
“إدوين.”
حدّقت كورديليا في كومة المكونات المرتفعة بعينين مرتجفتين، ثم التفتت إلى إدوين.
“لم… لم أفعل شيئًا كهذا من قبل….”
لم يسبق لها قط أن أعدّت طعامًا أو وزعته على أي شخص طوال حياتها.
كان ما تقوم به حين ترافق الملكة في أعمال التطوع هو قراءة الكتب للأطفال أو تعليمهم القراءة. فلم يكن هناك أحد يجرؤ على أن يُكلّف أميرة البلاد أعمالاً مرهقة.
ولذا، كان هذا أول مرة ترى فيها الوجه الحقيقي لمؤسسة غير مرتبة بهذا الشكل. إذ إن جميع دور الأيتام التي زارتها سابقًا كانت نظيفة ومنظمة، وحتى الأطفال كانوا في حالة جيدة نسبيًا.
“…….”
كانت رائحة المكان ونظافته المتردية والمهام التي لم تقم بها قط… أمورًا جعلت شعور الإحباط يثقل عليها.
“سيدي.”
لاحظ سكوت ارتباك كورديليا وعضّها شفتها بلا حول ولا قوة، فتقدم خطوة كأنه يريد التدخل.
“أعلم أن الأمر سيصعب عليها.”
لكن إدوين تحدث أولاً. كان يتفهم مشاعرها تمامًا. فهو يعرف أكثر من غيره النعيم الذي نشأت فيه كورديليا.
“لكن هنا يوجد الصحفيون الذين استدعيناهم، وهذا الدور هو الأنسب لتُظهِري لهم صدق ندمك.”
لذلك، عليها أن تقوم بهذه المهمة. فمشهد أميرة مدللة لم تتعب يومًا في حياتها وهي تعمل بنفسها من أجل أرضها—ومشاعر الندم الصادقة التي تظهر منها—سيمسّ قلوب الناس.
“سموكِ.”
لم تكن راغبة. وبصراحة، لم تكن ترغب في فعل ذلك على الإطلاق. لم يخطر على بالها يومًا أنها قد تُكلَّف بمثل هذه الأعمال. لكنها…
“لكن إن لم تستطيعي حقًا….”
“لا، لا بأس.”
“…….”
“سأجرب. أستطيع فعلها.”
لم ترغب في خذلان إدوين. ولم ترغب في أن يزداد الناس كرهًا لها.
وقبل كل شيء… لم ترغب في تجاهل أولئك الذين فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم بسبب إهمالها بعد الآن.
لم يكن السبب خوفًا من المقالات… بل رغبتها في الاعتذار لهؤلاء الناس.
ولا يمكن لكلمة واحدة أن تنقل تلك المشاعر. وإذا كان بإمكانها التعبير عن ذلك عبر مجرد تطوع… فهذا يعتبر ثمنًا زهيدًا. وقد أدركت كورديليا هذا منذ الأمس، بعد رؤيتها لأولئك الذين كانوا أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة.
“ما الذي يجب أن أبدأ به؟”
فلا بدّ من الالتزام بما عاهدت نفسها عليه. رفعت كورديليا كمّها بحماسة.
“لكن يجب أن يُعلمني أحد أولاً كيف أطبخ….”
وسرعان ما ضحكت بخجل، غير أن إدوين بدا فخورًا بها حتى بهذا القدر.
“سنطهو عصيدة الشوفان.”
ربت على خدها برفق مُشيدًا بجدّيتها، فيما ابتسم لها.
“سأعلمكِ طريقة إعدادها، فلا تقلقي.”
“حسنًا.”
وعندما رأت ذاك الوجه اللطيف منه، تأكدت أنها اتخذت القرار الصحيح. فهو لا يبدو هكذا إلا نادرًا… عندما يكونان في السرير.
“لنخرج الآن.”
مدّ إدوين يده إليها. فأمسكت بها وتوجهت معه إلى الساحة الأمامية حيث تم تجهيز معدات الطهو.
كانت المكونات ترد تباعًا وفق ما طلبه سكوت، والرجال ينقلونها جيئة وذهابًا بانشغال. وتقدم إدوين بين أولئك الرجال حتى وصل إلى قدرٍ ضخم مع كورديليا.
“سنطهو في هذا الشيء الكبير؟”
“الطعام لن يكون لشخص أو شخصين فقط.”
لم يكن شخص يتجرأ على الاقتراب من مركز الإغاثة بعد بسبب القواعد التي وضعها اللورد وينفيلد سابقًا، لكن بمجرد أن ينتشر خبر توزيع الطعام… سيكتظ المكان بالناس.
“حين يبدأ الماء بالغليان، ضعي الشوفان وحرّكي باستمرار كي لا يلتصق.”
راقبت كورديليا إدوين وهو يحضر العصيدة وتعلمت الوصفة البسيطة، ثم بدأت تقلده. لم يكن يبدو لذيذًا جدًا، لكنها فوجئت بأن لمساتها المبتدئة تستطيع بالفعل إنتاج شيء يصلح لأن يُسمّى طعامًا.
“…….”
لكن المشكلة الوحيدة… أنه لم يأتِ أحد.
كانوا يطهون في الساحة أمام الجميع، ومع ذلك لم يقترب أي شخص. ظلت كورديليا تلتفت حولها حتى رأت طفلاً يطل بحذر من باب المركز.
“إدوين، هناك طفل هناك.”
“هذا جيد.”
لكن الصبي كان يكتفي بالنظر خلسة، ولم يجرؤ على الدخول رغم الرائحة الشهية. بدا واضحًا أنه لن يخطو خطوة واحدة دون أن يُدعَى مباشرة.
“أنت، أيها الصغير.”
إذًا يجب دعوتُه. فكرت كورديليا هكذا واقتربت من الطفل قبل أن يلاحظ تقدمها. وما إن رآها بملابسها الفاخرة حتى أطلق صيحة خوف قصيرة.
“لا تخف. لم أرد قول أي شيء سيئ!”
وكاد أن يهرب، فبادرت كورديليا للإمساك به بسرعة. فتسعت عينا الطفل عندما أمسكت يدٌ نظيفة وناعمة بكمّه المتسخ.
“يمكنك أن تأكل. صنعنا عصيدة الشوفان.”
“لكن… في هذا الوقت….”
بدا عليه الخوف من أن يتعرض للتوبيخ. كان ينظر حوله بحذر شديد، فأشفقت عليه كورديليا.
“لا بأس. لقد طردتُ ذلك الرجل السيّئ.”
“ح-حقًا؟”
“حقًا.”
وتظاهرت كورديليا بالقوة وهي تقول إنها أقوى من اللورد وينفيلد، فانبهر الطفل بشدة.
التعليقات لهذا الفصل " 67"