كما قال السائق، كان التراب الجاف قد اسودَّ تمامًا. أما الأشجار المحترقة فقد تحوّلت إلى فحمٍ أسود تقريبًا.
“…….”
كانت آثار المنازل القريبة التي احترقت مع الغابة مغطاةً برمادٍ أسود وترابٍ متفتّت، فلا يكاد يُرى لها أثر. خُيِّل إليها أنّ انهيارًا أرضيًّا قد وقع، أو لعلهم فعلوا ذلك ليُضلِّلوا أعين الناس. وبما أنّ انهيارًا أرضيًّا لا يمكن أن يحدث في جفافٍ كهذا، وليس فيضان، فإنّ الاحتمال الثاني كان أكثر منطقيّة.
“أين ذهب الناس الذين كانوا يعيشون هنا؟”
صحيح أنّ المباني يمكن إخفاؤها، لكن البشر لا يمكن إخفاؤهم بهذه السهولة. وكان غريبًا ألّا يوجد في الجوار أيُّ شخصٍ يقترب أو يحوم حول المكان.
“ربما يتنقّلون بين الطرقات أو بيوت الأقارب.”
قال السائق إنه لا يعرف إلى أين رحلوا بالضبط. كل ما يعرفه أنه صادف بعضهم في الطرقات أثناء قيادته العربة، أو رآهم في السوق. ويبدو أنه لم تُتَّخذ إجراءات مناسبة للخسائر التي لحقت بهم.
“على أي حال، يجب توفير الطعام والماء لمركز الإغاثة. أمّا ما يتعلق بالتوزيع، فيحتاج إلى دراسة أكثر دقّة.”
المهمّة التي لم يفكّر فيها البارون وينفيلد أصبحت بطبيعة الحال على عاتق كورديليا وإدوين. وفكر إدوين إن عليهم التفكير جيّدًا في كيفية تقسيم الموارد المحدودة، ثم قاد كورديليا إلى العربة مجددًا.
“يبدو أن الشمس ستغرب قريبًا، لذا يجب أن نتحرّك نحو مركز الإغاثة.”
كان من حسن الحظ أنهم لا يكتفون بمشاهدة هذا الجحيم بعينٍ شاردة، لكن اضطراب كورديليا الداخلي لم يتبدّد.
“…….”
لم تكن تعرف. لم تكن تعرف شيئًا حقًا، لكن هل يُعدّ الجهل حتى اليوم عذرًا يبرّئها؟
“يا صاحبة السمو.”
طوال الطريق كانت كورديليا تعبث بيديها بقلق ووجهها يحمل كآبة واضحة. أمّا إدوين فكان يراقبها بصمت.
“إن كان الأمر يزعجكِ، يمكننا العودة الآن.”
أخبرها إدوين إنه إن كان من الصعب عليها مواجهة الواقع، فيمكنه أن يدير الحصان ويعود أدراجه. وبصراحة، رغبت بذلك قليلاً. رؤية ما يزعج القلب أمرٌ مرهق للغاية، والأسوأ أنها لا تعرف ماذا يجب أن تفعل، فكل شيء كان يربكها.
“لا، لا يمكنني فعل ذلك بعدما وصلنا إلى هنا.”
لكنها كانت تعلم أن الهرب ليس صائبًا. ليس لمجرد السمعة، بل لأنّ تجاهل ما تعرفه يشبه تصرفات البارون وينفيلد، وهو تصرّف غير مسؤول. كونها من العائلة الملكية وصاحبة الأرض يجعل ذلك أمرًا لا يجوز لها فعله.
“يبدو أننا وصلنا، فلننزل.”
تفاجأ إدوين قليلاً من قرارها، لكنه فتح باب العربة بطاعة. نزلت كورديليا وقد عقدت عزمها.
“…….”
انسحب بصرها بانسياب الشمس المائلة على الأرض، ثم ارتفع حتى لامس حذاءً جلديًا باليًا. رفعت رأسها وكأنّ قوةً خفية جذبتها.
رأت أناسًا يتجولون أمام مركز الإغاثة بتردّد ظاهر. كانت ملابسهم الرثّة على طرف نقيض من ملابس كورديليا الأنيقة الراقية. كانوا هزيلين لدرجة أن ملامحهم بدا عليها الانغمار.
وفي أعين أولئك الذين يراقبون كورديليا وإدوين بقلق، لم يكن هناك سوى إرهاق الحياة الملطّخة بالبؤس واللامبالاة. كان ذلك صدمة كبيرة لكورديليا. لم يكونوا يشبهون الأحياء.
وفي تلك اللحظة، دوّى صوت بكاء طفل صغير بين الجموع. كان بكاء رضيع. وجعلها ذلك تتذكّر تلقائيًّا حكاية الطفل الذي قيل إنه كان يرضع من صدر أمّه الميّتة.
شعرت كورديليا وكأنّ قدميها قيّدتا، وقد اجتاحها شعورٌ غريب لم تعرفه من قبل.
***
“يا صاحبة السمو، أرجوكِ استمعي لي! فقط لحظة، لحظة واحدة!”
“أخرجوه.”
ما إن عادت كورديليا إلى القصر حتى قامت فورًا بطرد البارون وينفيلد من منصبه وإخراجه. وفي حين كان سكوت يناول إدوين السجلات وهو يشعر بفخر الجندي الذي استعاد غنيمته، قال إدوين ببرود:
“لا تقترب من هنا مجددًا.”
وأضاف سكوت بلطف كلامًا لم يُطلب منه قوله، ثم أغلق الباب لعزل الضوضاء. وما إن اختفى صراخ البارون حتى عمّ الهدوء أرجاء القصر.
“…….”
كان ذلك لأن كورديليا كانت صامتة على غير عادتها. رفع إدوين نظره عنها بعد أن كان يتفحّص السجلات، فرأى ملامح وجهها الغارق في التفكير تحت ضوء القمر الشاحب، وقد اكتست ببرودة لم يعتدها فيها.
وكان لذلك ما يبرّره.
فكل ما حدث كان أسوأ بكثير مما توقّعوه. ولو كانت شابة صغيرة لم تستطع إخفاء فرحتها بالرحلة عند المغادرة، فطبيعي أن تكون الصدمة عليها كبيرة.
“يا صاحبة السمو.”
كان ما حدث بعدها غريبًا قليلاً. صحيح أنه توقّع أن تتأثر كورديليا، لكن لم يتوقّع تصرفاتها. فقد ظنّ أنها ستبكي أو تبالغ في السؤال عمّا عليها فعله وهي متعلّقة به.
لكن المفاجئ أنها بعد عودتها من مركز الإغاثة لم تتصرف كطفلة ساذجة. اكتفت بطرد البارون والتفكير بصمت.
“إدوين.”
“نعم.”
“هل… سيصبح كل شيء على ما يرام؟”
كان الحل الذي اقترحه إدوين قادرًا على تهدئة الرأي العام مؤقتًا، لكنه لم يكن حلاً جذريًا للمشكلة.
وكان يعلم ذلك جيدًا.
ومع ذلك، تردّد في قول الحقيقة. فمجرد تخيّل إخبار كورديليا بالحقيقة بعد ما رأته، كان يسبب له ضيقًا.
“…….”
رمقه سكوت بنظرة جانبية، وكأنّه يلومه على عدم صراحته، أو يمدحه على محاولته حماية زوجته من الألم. نظرة محيّرة تجمع الاثنين.
“سأتابع الأمر حتى بعد عودتنا إلى العاصمة.”
هذا كان أقصى ما يمكن لإدوين قوله. فهو ليس إلهًا، ولا يملك وسيلةً سحرية لإصلاح أرض دمّرتها كارثة في لحظة.
“سكوت.”
“نعم.”
“خصّص ميزانية إضافية للتبرعات، غير تلك التي ستصل غدًا.”
“حاضر.”
على الأقل كان بإمكانه تقديم الدعم المالي. ولعله يستطيع المساعدة بعض الشيء في إدارة الإقليم مستقبلاً. وهذا ما كان يفعله دائمًا. خصوصًا الآن، إذ أصبحت سمعة كورديليا متداخلة مع سمعته، فواجبه أن يكون أكثر إخلاصًا.
“ثم غادرنا قليلاً.”
أمال سكوت رأسه بتعجّب من أمر إدوين، لكنه غادر من دون اعتراض. وبذلك لم يبقَ في المكتب سوى إدوين و كورديليا.
“هل ما رأيته اليوم يزعجك؟”
أومأت كورديليا. استعاد إدوين مشهد مركز الإغاثة الغارق في نور الغروب.
“ماذا يفعلون هناك؟”
كان أولئك الهزيلون، الذين بدا وكأنهم لم يأكلوا حتى حساء الشعير، ينتظرون غروب الشمس أمام مركز الإغاثة. ذلك لأن البارون وينفيلد أمرهم بألّا يقفوا في طوابير أثناء النهار لأن المنظر غير جميل.
“كانوا… كانوا ينتظرون الخبز.”
ومع ذلك، فالخبز الذي يحصلون عليه بعد كل هذا الانتظار لا يتعدّى رغيفًا يابسًا أشبه بقطعة خشب لكل عائلة.
بلغت الصدمة بكورديليا مبلغًا كبيرًا حين علمت بذلك. فهي لم تختبر يومًا حياةً بهذا القدر من البؤس، بل لم تتح لها حتى الفرصة لرؤية حياة العامة عن قرب.
“لم أكن أعلم… أن الأمر بهذا السوء.”
وفي نهاية كلامها انخرط صوتها بالبكاء. كانت تشعر بالذنب بلا شك. فزوجته لم تكن شريرة بطبعها، وإنما عاطفية قليلاً.
تنفّس إدوين بعمق. كان ينبغي عليه مواساتها والقول إن الأمر ليس كما تعتقد، لكن الحقيقة أن كورديليا كانت تنظر إلى العالم بنقاء زائد، وهذا جعل الرد صعبًا. كما لم يكن مناسبًا أن يقول إن من الجيد أنها أدركت الواقع الآن.
“ستبدئين العمل مبكرًا غدًا، لذا من الأفضل أن ترتاحي. عندما يتعب المرء، يميل تفكيره إلى الجانب السلبي.”
لم يكن بوسعه إلا أن ينصحها بالراحة. نهض واقترب منها ليساعدها على الوقوف.
“إدوين.”
“نعم.”
“ألا يوجد… شيء يمكنني فعله؟”
طرحت كورديليا سؤالاً غير متوقع. وضع إدوين يدًا على ذراع كرسيها، وبالأخرى لامس خدها وقبّلها قبلة قصيرة.
“أول ما يمكنكِ فعله الآن… هو النوم في غرفتكِ.”
لم يكن لديه طلبٌ آخر منها. كان يرجو فقط ألّا تصرخ أو تعترض بما يعكّر الوضع. صحيح أن شفقتها الآن تمنعه من توقع الأسوأ منها، لكن دفعها للقيام بما تراه دون أن يكون مناسبًا قد يجعلها تتصرف بطريقة لا يتوقعها أحد.
وبالطبع، لم يكن ممكنًا التقليل من أهمية تعاطفها. فالنبلاء غير الأكتراثين بحياة العامة كُثر. لكن غالبًا ما يختفي هذا التعاطف عندما يظنّ المرء أن في الأمر ضررًا عليه.
“حسنًا.”
أجابت كورديليا بحزن. ورغم أنه لم يعرف ما يدور في داخلها، إلا أنها بدت وكأنها أدركت أن إدوين لا ينوي تحميلها أكثر مما تحتمل.
“سآمر بإحضار خادمتكِ.”
هزّت كورديليا رأسها موافقة. ثم التفت إدوين نحو الجرس الموضوع على الطاولة لاستدعاء أحد الخدم.
التعليقات لهذا الفصل " 66"