“أتفهمُ حرجك في إبلاغ جلالته بخبر ليس بالجيد، بل سيء، وأقدّر تردّدك.”
“أشكر تفهّمك، يا أميرة. لقد تردّدت كثيرًا في إبلاغ جلالته بخبر سيئ عن أرض يوليها عناية خاصة. ظننت أنّ الأمور ستتحسن مع مرور الوقت، لكن ذلك تسبّب لكِ في ضرر، وهذا يملؤني بالأسف.”
كان كلامه ينساب كالسيل العذب. ورغم رغبتها في السخرية منه، آثرت كورديليا مراقبة الموقف بصمت.
“في الحقيقة، موت الفقراء جوعًا أمر يحدث كثيرًا حتى دون جفاف. المشكلة في أولئك الصحفيين الذين جمّعوا الأحداث على نحو خبيث ونشروها كخبرٍ مثير.”
احتقن وجه البارون وينفيلد وهو يندفع بالكلام بحرارة. وإدوين كان يدحرج كأس النبيذ بين أصابعه وهو يصغي له كلّه. أمّا كورديليا فلم تكن في مزاج لأي شيء، فاكتفت بترطيب حلقها بالماء.
“لقد عملتُ ليلاً ونهارًا من أجل سكان سكينديل. لم أحاول يومًا تشويه سمعة سموّك، ولم أُهمل الإقطاعية أو أقصّر في إدارتها. أقسم بهذا أمام السماء!”
ولعلّ البارون ظنّ أن تعامل دوق ترييد وزوجته معه نابع من التعاطف أو التفهّم، فراح يرتشف النبيذ بخفة كما لو كان في جلسة ودّية. ومع مرور الوقت بدا وجهه يزداد احمرارًا وارتخاء.
“أنا أتفهّم كلام البارون جيدًا.”
وعند هذه النقطة، لم يعد إدوين يبدو وكأنه يصغي باهتمام. يمكن قراءة قصده من نظراته التي كانت تتجه نحو مدخل قاعة الطعام.
“كما توقعت! فسموّك يدير شركة، ومن الطبيعي أن تدرك الأمر. فالشركة والإقطاعية سيّان في الحقيقة…”
“ولهذا، فلن تكون هناك مشكلة تُذكر لو خرجتُ أنا وسموّ الأميرة الآن لتفقّد الإقطاعية، أليس كذلك؟”
تجمّد البارون وينفيلد في مكانه عند سماعه هذا الكلام غير المتوقع. لم يستطع حتى أن يقول: “عذرًا؟”
“نعتزم القيام بجولة سريعة قبل غروب الشمس. استعدّوا للخروج حالاً.”
إذن كان غرضه أن يطمئنه ويفقده حذره. فهمت كورديليا حينها لطف إدوين الغريب. لقد كان نوعًا من الفخاخ.
“بما أنّ سموّها شربت بعض من النبيذ… لعلنا نؤجّل الأمر للغد—”
“معذرة، أنت الوحيد الذي شرب النبيذ يا بارون.”
“…….”
“بل إنّ سموّ الأميرة لم تلمس الطعام أصلاً.”
طوى إدوين المنديل ووضعه على الطاولة، ثم ألقى نظرة على الصحون التي استعملها البارون.
“ويبدو أنك أنت من ثَمِل حتى بات من الصعب عليك الوقوف.”
ازداد وجه البارون احمرارًا، سواءً من الخمر أو من الخجل لم يُعرَف.
“سنذهب الآن.”
“مـ، مهلاً— اسمعا ما لدي أولاً…”
تجاهله إدوين تمامًا، ونهض مُعينًا كورديليا على الوقوف. ثم أمر، وكأنه أمر طبيعي، خادمَه سكوت، الذي كان ينتظر عند المدخل، بأن يُحضّر العربة.
“العربة جاهزة في الساحة الأمامية.”
طبعًا، فقد أجاب سكوت بأنه سبق وجهّز كل شيء.
“وقد أخبرتُ السائق بجميع الوجهات مسبقًا. ما عليكم سوى الانطلاق.”
حتى الوجهات كانت محدّدة من قبل. من المؤكد أن الأمر نوقش مسبقًا، لكن درجة التنسيق بينهم كانت مذهلة.
“صادروا الدفاتر والسجلات كلها.”
“حالاً.”
وما إن واصل إدوين و كورديليا سيرهما، حتى أسرع الخدم لفتح الأبواب. وساعد إدوين كورديليا على الصعود إلى العربة، كما قال سكوت.
“سموّك! صاحب السعادة!”
وما إن جلست كورديليا مذهولة في العربة، حتى خرج البارون وينفيلد مهرولاً وقد استعاد وعيه متأخرًا.
“انطلقوا.”
خشيت كورديليا أن يسقط من كثرة ترنحه، لكن إدوين بدا غير مكترث على الإطلاق. تحدث ببرود، وأغلق سكوت باب العربة ثم أمر السائق بالتحرك.
“كنت آمل أن أسمع منه شيئًا مفيدًا، لكن يبدو أنه لا داعي لذلك.”
تحركت العربة بثبات، غير عابئة بقرع البارون على بابها بيأس. وابتعدت صورته رويدًا رويدًا حتى تلاشت.
“لقد أرسلتَ أحد الرجال مسبقًا، صحيح؟”
“أجل. وضعناه مع سكرتير البارون لمراقبة ما يحاول إخفاءه.”
“لذلك لم ترفض دعوته إلى العشاء؟”
“كان علينا كسب الوقت للحصول على العربة التي ما كان ليسمح لنا باستخدامها، كما أن ذلك سيساعد على عزله من منصبه.”
أومأ إدوين وهو يرتب قفازيه بتأنٍّ. ولم يُنكر أنّ كل لطفه لم يكن سوى وسيلة لكسب الوقت. كان في لطفه جانب مظلم كهذا.
“مع علمه بسبب قدومنا، ما زال يحاول تضليلنا بالعشاء والنبيذ.”
“…….”
“هذا بحد ذاته دليل على إهماله، بل إنه يعني أنه يستخفّ بسموّ الأميرة.”
أزعجها قليلاً ذلك الوجه الآخر من لطفه، لكنها سرعان ما تخلّت عن الشعور. فالبارون مذنب، وكلام إدوين كله صحيح. لقد عاملها البارون كحاكمة فاسدة لا تستحق الاحترام.
“سنقوم بجولة في سكينديل اليوم، ثم نقوم بعزل البارون، صحيح؟”
ومن أجل هذا الاهتمام الكبير من إدوين، كان عليها أن تكون أكثر نشاطًا. قبضت كورديليا قبضتيها بعزم. كانت تنوي تفقد المواقع اليوم لتجد الخلل وتستخدمه سببًا رسميًا لعزل البارون.
“…….”
لكن بينما كانت العربة تسير في الطرقات، بدأ عزمها يضعف تدريجيًا. فبالرغم من أن كل شيء متأخر عن العاصمة، كانت ملامح الناس مرتّبة، والشرطة تعتني بالشوارع جيدًا.
“لقد وصلنا إلى البحيرة.”
في اللحظة التي بدأت فيها كورديليا تقنع نفسها بأن الوضع ليس سيئًا كما بُلّغوا، توقفت العربة قرب البحيرة.
“هذه هي البحيرة؟”
وهناك رأت الحقيقة. لم تعد تتخيل أو تنكر. الواقع الذي رأته بعينيها كان أسوأ بكثير.
البحيرة، التي كانت تُعرف بصفائها الأزرق حتى سُمّيت دمعة الجنيّة، لم تكن مجرّد فخرٍ للإقطاعية، بل مصدرًا لمياه الشرب. أما الآن، فقد جفّت حتى بان قاعها المتشقّق. الأعشاب حولها صارت صفراء متيبّسة، وجذور الأشجار الملتوية برزت جافة يابسة.
“هذا… غير معقول…”
كان التراب يتفتت تحت قدميها بصوت هشّ. نظرت حولها بذهول. كان الجفاف أشدّ وأفظع مما توقعت. وبوجود هذا الدمار، بدا مستوى معيشة البارون وقصره ترفًا فاحشًا.
“الوضع خطير بالفعل.”
حتى إدوين، الذي كان قد علم سابقًا، بدا بالانطباع ذاته. سحق التراب اليابس بحذائه وأطلق تنهيدة.
“إن كان هذا حال منطقة واحدة فقط، فهو سبب كافٍ لعزل البارون دون أي نقاش.”
ولكن عند هذا الحد، لم يعد العزل هو المشكلة.
“علينا أن نوضح للناس أنّ سموّ الأميرة لم يكن لها أي اتصال معه طوال الفترة الماضية.”
كان الوقت قد حان للقلق على سمعتها. ولها الحق في ذلك. فهي في النهاية مالكة هذه الأرض.
“في الواقع… هذه ليست أسوأ منطقة.”
تردد صوت السائق بحذر. التفتت إليه كورديليا بينما نزع قبعته وتكلم باحترام.
“أتقصد أن هناك ما هو أسوأ؟”
“اندلع حريق كبير مؤخرًا في الغابة الشرقية.”
أجاب السائق وهو يومئ برأسه. قال إن الغابة اليابسة اشتعلت، وإن الحريق كان هائلاً لدرجة أنه أثار ضجة كبيرة. وأضاف أن البارون لم يعد يستطيع تجاهل الوضع بسبب هذا الحريق، وأن الأمر انتشر حتى وصل إلى مناطق بعيدة.
“لم ينجُ أي كائن حي. حتى البشر.”
“هل كانت هناك خسائر كبيرة في الأرواح؟”
سأل إدوين بعد صمت قصير. فهزّ السائق رأسه نافيًا.
“كان هناك ضحايا، نعم، لكن بالنظر إلى حجم الحريق، فقد كان هذا بحد ذاته معجزة. كما أحرقت المنازل القريبة بالكامل، وهناك الكثيرون ممن فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم كلها.”
لم تسمع كورديليا شيئًا من هذا من قبل. كان الوضع فوضويًا إلى حد يستحيل التعامل معه بسهولة كما ظنت. رفعت بصرها نحو إدوين بحيرة، مدركة عجزها عن معرفة ما يجب فعله.
“من الأفضل أن نتوجّه إلى هناك أولاً.”
اقترح إدوين ذلك. فهزّت كورديليا رأسها بمرارة وهي تقاوم رغبتها في البكاء.
التعليقات لهذا الفصل " 65"