كان المكان مريحًا كغرفة نوم. شعرت كورديليا بملمسٍ وثيرٍ يستحيل أن يوجد داخل مقصورة قطار، وبإحساس العجلات وهي تضغط برفق على الحصى في الطريق، ففتحت عينيها.
“….”
كان أمامها الجزء السفلي من جسدَي شخصين. تحديدًا، سيقان تمتد من الركبتين حتى القدمين، تخص امرأة و رجلاً.
لماذا؟
لم يكن مشهدًا يُمكن أن تراه لو كانت تجلس في الوضع الذي تتذكره. طرفت كورديليا بعينيها محاولة تدوير رأسها الذي بدا وكأنه لا يتحرك.
“استيقظتِ؟”
جاءها صوت إدوين من فوق رأسها. حينها فقط اكتشفت فخذَي الرجل الممتدين، ففوجئت. تمامًا كما حدث في الدفيئة ذات مرة، كانت قد غفت وهي تسند رأسها على فخذَي إدوين.
مرة أخرى!
السيدة المهذبة لا تغفو على فخذَي رجل. خصوصًا في الطريق. صحيح أنها كثيرًا ما تشعر بالنعاس، لكن في الفترة الأخيرة أصبحت تنام بلا اكتراث للزمان والمكان، وهذا كان مزعجًا جدًا. بدت ملامحها على وشك البكاء.
“صاحبة السمو.”
“أنا آسفة……”
لكن لا بد من الاعتذار. وحين تمتمت بالاعتذار بصوت متهدّج يكاد يبكي، ابتسم إدوين بخفة. وضع يده الكبيرة على خدّها وأدار رأسها قليلاً لتواجه السقف.
“لا أعلم لماذا تعتذرين.”
وكأنه يطلب منها أن تنظر إلى وجهه لتنسى شعورها بالإحراج. وكانت طريقة فعّالة بالفعل، إذ إن كورديليا نسيت خجلها للحظة، بل وأُسرت بجمال زوجها الذي لا يَسقط عنه الوقار حتى وهي تنظر إليه من أسفل لأعلى.
“لكن… أين نحن الآن؟ هل هذه… عربة؟”
“نعم. نحن ننتقل الآن بالعربة إلى أراضي صاحبة السمو.”
“كم مرّ من الوقت؟ وهل ساقك بخير؟”
لكن إدراكها أنها نُقلت وهي نائمة إلى العربة، ثم نامت مجددًا على فخذَي إدوين، جعلها تنتفض. حاولت النهوض بسرعة.
“الطريق وعر، وإن نهضتِ فجأة هكذا……”
وبينما كانت تتخبط محاولة النهوض، تمكنت أخيرًا من رفع الجزء العلوي من جسدها. وفي تلك اللحظة اهتزت العربة بقوة فانحنى جسدها إلى الأمام.
“سهل أن تفقدي توازنك.”
وكأنه توقّع ذلك، أحاط إدوين خصرها وأعادها إلى حضنه. فاستقرت مؤخرة رأسها على كتفه.
“سكوت والخادمة نائمان أيضًا، فاتكئي براحتك.”
صحيح، لينا وسكوت كانا في الجهة المقابلة. كانت كورديليا قد نسيت وجودهما تمامًا وهي تتحدث مع إدوين. نظرت إليهما بحذر. لينا كانت نائمة وهي تسند رأسها إلى جدار العربة، بينما نام سكوت وذراعاه معقودتان ورأسه مائل.
“على أي حال، يبدو أننا شارفنا على الوصول.”
“يا إلهي… كم ساعة نمت؟”
لم يكن بإمكانها الآن استعادة وقارها. استسلمت كورديليا تمامًا وأسندت جسدها إلى إدوين. على الأقل، عندما يصلون إلى الأراضي سيكون هناك من يراقب، ولن تستطيع الاسترخاء هكذا. هكذا برّرت لنفسها.
“من هنا تبدأ أراضي صاحبة السمو.”
كان ذلك حين استسلم جسدها للراحة. ومع صوت إدوين المنخفض، تسرب ضوء من خلف الستارة المرفوعة قليلاً. رفعت كورديليا نظرها إلى المنظر الواضح في الخارج.
سكينديل. الأرض التي مُنحت لها من الملك حين كانت في العاشرة، ولم تفكر فيها قط منذ ذلك الحين.
“ه… هذه؟ هذه أراضيّ؟”
“هي أقرب إلى حدود سكاهيل، لكن من هنا فصاعدًا تُعدّ سكينديل بلا شك.”
رغم أن المكان كان غابة، فإن الأشجار كانت جافة بلا مسحة خضراء. جثث حيوانات ميتة كُشط لحمها. غربان تقف على أغصان يابسة تكاد تنكسر. منظر لا يظهر إلا في لوحات تصوّر الجحيم.
“سكينديل أرض ذات سهول خضراء. ليست مميزة كثيرًا، لكنها مسالمة ونادرًا ما تتعرض لكوارث طبيعية، وأهلها طيبون.”
هكذا قال الملك، حين منح ابنته الحبيبة أرضًا هادئة لتعيش بسلام. لكن ما رأته الآن لا يشبه كلامه أبدًا. حدّقت كورديليا في الخارج بذهول لا تخفيه.
هل هذا بسبب كونها قرب الحدود؟ لا يمكن أن تكون الأرض كلها على هذا الحال… مستحيل.
وبينما كانت تحاول تهدئة نفسها، خرجت العربة من الغابة ودخلت القرية بصعوبة فوق أرض متشققة.
“نرحّب بالأميرة كورديليا.”
نزل إدوين أولاً، ثم مد يده إليها. أمسكت كورديليا بيده المغطاة بالقفاز ونزلت. هناك ظهر البارون وينفيلد، الوكيل الذي يدير أراضيها.
“صاحبة السمو، سأصطحبكِ إلى القصر.”
كان القصر الذي يقيم فيه البارون بالنيابة عنها كبيرًا ومزخرفًا بعناية لافتة. تفحصت كورديليا المكان بعينيها، من الحديقة إلى المبنى.
لم يكن هناك أثر للجفاف أو المعاناة. ما رأته سابقًا لا بد أنه كان مجرد منطقة حدودية متضررة، فتنفست الصعداء.
“لابد أنكم متعبون من السفر. أرى أن تبدأوا بوجبة بسيطة ثم تستريحون.”
“منذ متى اشتدّ الجفاف؟”
“لم يمضِ عليه نصف عام.”
كان إدوين يطرح أسئلة على البارون. بدا البارون حذرًا جدًا، يراعي ألا يثير غضب دوق ترييد وزوجته.
“وما سبب تأخر وصول التقارير إلى هذا الحد؟”
تردد البارون ثم جفف عرق يده بمنديل من جيبه.
يبدو أنه أدرك النقد والاتهام الخفيين في كلمات إدوين.
وكان ذلك طبيعيًا. فمنذ أن تولى البارون إدارة الأراضي، لم يُبلّغ أحدًا بجفاف دام نصف عام. حتى الملك ولورنسن لم يعلما بذلك إلا حديثًا. وهذا يعني أن البارون لم يقدّم أي تقرير طوال تلك المدة.
“كنت أرغب فقط بعدم إزعاج أصحاب المقام الرفيع بأمور بسيطة، لكن يبدو أن تعاملي كان ناقصًا. لكن المقالات التي تصف الوضع بهذا السوء مبالغٌ فيها، فالأمور ليست خطيرة إلى ذلك الحد.”
ضحك إدوين بخفة، وقد أدرك أن البارون يكذب. أما كورديليا فاتسعت عيناها غضبًا، مستعدة لتوبيخه مباشرةً على إهماله المخزي. لكن إدوين أمسك يدها ليمنعها.
“…….”
نظرت إليه بهدوء. ربت على ظهر يدها برفق وكأنه يطلب منها الصبر قليلاً.
كان إهمال البارون يستحق التوبيخ الفوري، لكن إن كان هذا ما يريده إدوين، فستنتظر.
“هكذا إذن.”
“ن-نعم، صحيح.”
“حسنًا. على أي حال، لم تتناول صاحبة السمو شيئًا منذ الصباح، فالأجدر اتباع اقتراحك وتناول الطعام أوّلاً.”
“بالضبط. دعونا نؤجل كل شيء، ولتتناولا شيئًا يخفف الجوع.”
سارع البارون بدفعهما إلى غرفة الطعام، وكأنه جهّز شيئًا لتهدئة غضبهما.
“لقد حاولت تجهيز كل ما أستطيع رغم زيارتكم المفاجئة. أتمنى أن يوافق الطعام ذوقكما.”
العشاء لم يكن فاخرًا كطعام قصر ترييد، لكنه أيضًا لم يلائم أجواء الجفاف والمجاعة الشديدة. نظرت كورديليا إلى الأطباق الموضوعة على المائدة بصمت. وفجأة شعرت بالظلم؛ فهي كانت الوحيدة التي وُجه إليها الغضب بسبب المقال.
“كما تعلمون، الوضع ليس جيدًا، لكنني اخترت أفضل ما تبقى في القصر من مكوّنات لإعداد هذا الطعام.”
“لابد أنك بذلت جهدًا كبيرًا. فالكوارث الطبيعية لا تأتي بعد إنذار.”
قال إدوين ذلك بصوت هادئ وهو يمدح جهد البارون.
“شكرًا لك، أنا حقًا ممتن.”
حين لم يظهر عليهما الغضب المتوقع، بدأ وجه البارون يشرق قليلاً. لم يعد متوترًا كما كان عند استقبالهما.
“لابد أن أجسادكما متصلبة من الجلوس طوال الطريق. اشربا كوبًا من النبيذ لتسترخيا.”
وحين وافق إدوين على شرب النبيذ، ابتسم البارون بارتياح واضح. وملأ كأسه بخمر غالٍ بنفسه، متفاخرًا بأنه يحتفظ به للضيوف الأعزاء فقط.
“لتشربي أنتِ أيضًا كأسًا خفيفًا يا صاحبة السمو.”
ما الذي يفكر به إدوين بالضبط؟
تناولت كورديليا الكأس الذي قدمه البارون، ثم رمقت وجه إدوين بطرف عينها.
لقد قال بنفسه إن البارون سيتحمل مسؤولية خطئه ويُعزل من منصبه، فكيف يمكن تفسير لطفه المفاجئ مع رجل كهذا؟
التعليقات لهذا الفصل " 64"