حدث ذلك عندما وصلت لتوِّها إلى قاعة العرش لمُقابلة الملك. وما إن فُتح الباب، حتى اندفع الملك كالرصاصة تقريبًا، ثم ضمَّ كورديليا إلى صدره بوجهٍ يفيض شوقًا وحنانًا.
“لا بد أنكِ مرهقة بعد قدومكِ إلى هنا… هيا، فلندخل.”
لو كانت الملكة حاضرة ورأت هذا المشهد، لَكانت وبَّختهما معًا لِما تعتبره مبالغة. لكن لحسن الحظ، لم تكن موجودة.
“لقد عانيتِ كثيرًا يا كورديليا. لقد نحفتِ.”
ما إن جلست على الأريكة حتى اقترب الملك من وجه كورديليا ينظر إليه بقلق، كأنه متألم لأجلها. أما كورديليا، فكانت تتساءل ما إذا كان تغير مظهرها ممكنًا في ليلة واحدة فقط، ثم لمست وجهها بخجل.
“نعم، لابد أن حالكِ لم يكن جيدًا. فبمجرد خروجكِ من القصر الملكي، ما زالت تلك الحوادث تتوالى…”
تمتم الملك وهو يزفر زفرة منخفضة.
لم تُنكر كورديليا ذلك. فلم يحدث شيء من هذا القبيل عندما كانت تعيش في القصر. كان الجميع يمجّد جمالها، ويقول إن في ذلك وحده ما يكفي لأداء دورها. لذلك صدَّقت كورديليا هذا الكلام أيضًا.
“قلتِ إن لديكِ طلبًا بخصوص تلك المسألة”
لكن كل ذلك كان داخل أسوار القصر. وكان أيضًا حين لم يكن أحد يعلم ما الذي تفعله كورديليا في الأيام التي لا توجد فيها مناسبات. أما الآن، وهي تعيش في منزل عادي، وسط أشخاص لا يحملون ولاءً خاصًا للعائلة الملكية، فالوضع مختلف تمامًا.
“إن تركنا الأمر كما هو، فسيسبب ذلك مشكلات للعائلة الملكية أيضًا.”
“أوه، كورديليا. يا ابنتي. لا داعي لأن تقلقي بشأن هذا. سنعثر على ذلك الوغد الذي نشر الخبر ونحاسبه بتهمة إهانة العائلة الملكية.”
“لا.”
توقّف الملك في منتصف الكلام عند جواب كورديليا الحاسم، وقد كان يحاول مواساتها وتهدئة قلبها.
“يقول إدوين إن المرة الماضية، وهذه المرة أيضًا، كان الصحفي يستهدفني. كلما تحركتُ، يظهر صحفي مجهول الهوية يتعقبني.”
“من يجرؤ…”
“بما أنني أضعف فرد في هذه العائلة، وبما أنني أبدو الأكثر سذاجة، فمن الطبيعي أن أكون هدفًا.”
“كورديليا!”
شهق الملك ونطق اسمها بارتباك. كان من الواضح أنه لا يصدق أنها قالت ذلك بِنَفَس مليء بتحقير الذات. لم يكن غريبًا ذلك، فقد كان يعاملها دائمًا كزهرة يافعة يعتني بها ويحميها. ومن هذا نشأ دلال كورديليا وثقتها العالية بنفسها.
“هل قال لكِ ذلك الوغد إدوين ترييد؟”
“لم يقله إدوين. لكن حتى لو لم يقله، أنا أعرف ذلك.”
ردت كورديليا بوجهٍ حزين، فبلع الملك آهة ألم مكتوم.
“لا أريد أن أبدو بهذه الصورة.”
“هذا طبيعي. طبيعي جدًا.”
أبدى الملك تعاطفه القوي.
“لكن إن استمر الوضع هكذا، فسأبقى مستهدفة دائمًا. وأنا لا أريد أن يحدث ذلك بعد الآن.”
“……”
“لذا أريد منك أن تقيل من ينوب عني في إدارة الإقطاعية، وأن تمنحني السلطة الكاملة لإدارتها بنفسي.”
لم تُضِع كورديليا الفرصة، وأعلنت الهدف الحقيقي من زيارتها اليوم.
توقف الملك متفاجئًا من الطلب. فقد ظن أنها ستشكو أو تطلب منه إصلاح الوضع بسرعة، لا أكثر.
“إقالة الوكيل أمر بديهي، فقد تهاون في الإدارة إلى حد جعلك تبدين ضعيفة…لكن…”
لماذا تطلب سلطة الإدارة؟ كان سؤال الملك الصامت واضحًا. فلطالما اكتفت كورديليا بالاعتناء بنفسها وبجمالها، ولم تُبدِ اهتمامًا بالجوانب المُرهقة مثل الإدارة والتخطيط.
“إن تركتُ الإدارة لجلالتك أو لأخي مرة أخرى، لا توجد أي ضمانات ألّا يتكرر ما حدث.”
كان لدى الملك وولي العهد أمور أهم من التعامل مع شؤون إقطاعية كورديليا، فكانت دائمًا تأتي في آخر الأولويات.
“إدوين قال إنه سيساعدني. سأُنهي كل شيء بأقل قدر ممكن من الجلبة. أرجوك، وافق… حسناً؟”
هزّت كورديليا يد الملك بلطف وهي تتوسل.
“حسنًا… فلنكن كما تريدين.”
رغم أن جزءًا من قلبه امتلأ بالقلق وهو يرى توسلها، وافق الملك في النهاية. لأنه يعلم أنها على حق.
فحين منحها الإقطاعية أول مرة، كانت صغيرة جدًا، لذلك أسند الإدارة لوكيل، وكان هو ولورنسن يتقاسمان تقاريرها، أما الآن فقد تزوجت كورديليا، وأصبحت راشدة تدير بيتًا خاصًا. لم يعد له الحق في تقييد حريتها وحقوقها.
“أما الصحفي الذي نشر المقال، فلورنسن يبحث عنه الآن. فلا تقلقي كثيرًا، حسنًا؟”
هزّت كورديليا رأسها بابتسامات خفيفة. وإدوين أيضًا وعد بالتحرك، لذا بدا أن العثور على الصحفي مسألة وقت.
“وبالمناسبة، أين أخي؟”
“الحدود مضطربة هذه الأيام بسبب عدة أمور. تنتشر شائعات عن احتمال نشوب حرب.”
“آه…”
“لورنسن مشغول بالمسائل الدبلوماسية. ومع ذلك، غضب كثيرًا من أجلِك وقال إنه سيتولى الأمر بنفسه.”
قال الملك ذلك بنبرة فخر واضحة. أما كورديليا فشعرت بالامتنان لأخيها الذي بادر لمساعدتها رغم انشغالاته.
“لذا، لا تحزني لعدم ظهوره اليوم.”
“بالطبع لا.”
بل شعرت ببعض الرضا لأنها خففت جزءًا من عبء لورنسن الثقيل. وإن كان هذا مبكرًا، إلا أنها أحست بأنها أصبحت أكثر نضجًا قليلاً مما كانت عليه سابقًا.
***
“أجّل كل المواعيد لمدة أسبوع. وأرسل هدايا للاعتذار وطلب التفهّم.”
“أسبوع كامل؟”
“علينا الذهاب إلى إقطاعية الأميرة.”
“حاضر.”
هز سكوت رأسه على مضض. فهو يعلم أنه حتى لو اعترض، فلن يستمع إدوين له.
“لم أتوقع أن توافق الأميرة بهذه السهولة على ما قلته سموّك.”
“وأنا كذلك.”
رد إدوين ببرود، ثم بدأ يتفحص مجموعة المقالات التي جمعها حول إقطاعية كورديليا. كانت الحالة سيئة بالفعل، لدرجة أن انتقاد تصرفات كورديليا بدا مفهومًا في ظل الوضع المرتبط بها.
“هل المنطقة كلها تعاني من الجفاف؟”
“لا، الإقطاعية المجاورة لديها سد، لذا هي قادرة على الصمود.”
ضرب إدوين بأصابعه الطاولة غارقًا في التفكير.
“هل طلب وكيل الأميرة المساعدة منهم؟”
“أبدًا.”
“يا له من شخص عديم الكفاية…”
تمتم إدوين وهو ينقر بلسانه بسخط.
فلو كان الأمر متعلقًا بإقطاعية الأميرة، لكان النبلاء، خوفًا من نظرة الملك، قدموا على الأقل مساعدة شكلية. ولو حدث ذلك، لما وصلت الأمور لهذا الحد.
“أرسل فورًا كل ما يمكن أكله. أي شيء يسدّ الجوع، حتى لو كان لحمًا مجففًا.”
“حاضر.”
“وبخصوص المياه، علينا طلبها من المناطق المجاورة. ابحث عن أقرب مكان يمكن الحصول منه على الماء.”
كان نبش الماضي عديم الفائدة في هذه المرحلة. لذا قرر إدوين البدء بحل أكثر المشكلات إلحاحًا.
“وعندما نذهب إلى الإقطاعية، خذ معنا صحفيًا واحدًا. نحتاج شخصًا يكتب مقالات إيجابية عن الأميرة.”
“أوه، وبالنسبة للصحفي الذي طلبت مني تعقبه سابقًا…”
“من يكون؟”
سأل إدوين بنبرة مليئة بالانزعاج. فهو يعتبر ذلك الصحفي أصل كل هذه المشاكل، فلا يمكن أن تخرج منه كلمة طيبة في حقه.
“أعتذر، لكننا نحتاج مزيدًا من الوقت. ما زلنا غير متأكدين إن كان الصحفي في المقالتين هو الشخص نفسه…”
“تباطؤ لطيف؟ هه”
سخر إدوين، لكن سكوت لم يرد. وبما أنه لا يخشى الكلام عادة، فهذا يعني أنه فعلاً لم يعثر على شيء.
“الصحيفتان مختلفتان، وقد استخدم الصحفي اسمين مستعارين مختلفين. كلاهما من الصحف التي تنشر مقالات معادية للعائلة الملكية، ويحافظون على سرية الصحفيين بشكل صارم، ويقولون إنهم لم يرتكبوا أي خطأ، لذا من الصعب استخراج المعلومات.”
ضحك إدوين بسخرية قصيرة. بينما نظر سكوت نحوه بحذر.
“الصحيفة الأولى تعتقد أن الاعتذار يكفي، والثانية لا يهمها المال كثيرًا.”
“إن رفضت الصحيفة التعاون، فضع رجالاً عند مدخلها. كل من يدخل أو يخرج، يجب مراقبته وجمع المعلومات عنه.”
“لكن ذلك واسع جدًا وقد يكون قليل الجدوى…”
“هل تفضل أن نجلس كالحمقى ننتظر ضربة جديدة على مؤخرة رؤوسنا؟”
سأل إدوين بحدة. فسكت سكوت، فهو يعرف أن إغضاب إدوين الآن لن يفيده بشيء.
“سيدي، لقد عادت الدوقة.”
توقف إدوين عن صبّ غضبه على سكوت، وأدار رأسه نحو الطريق الجانبي في الحديقة، حيث كانت عربة كورديليا تدخل للتو. فوقف من فوره ليستقبلها.
كما يفعل رجل لا يستطيع كبح سروره بعودة زوجته الحبيبة إلى المنزل. يؤدي دوره بإخلاص.
“أنا زوجها، صحيح؟.”
“……”
“وقد قلت إن عليّ أن جعلها في صفي دائمًا… أليس كذلك؟”
كان موعده مع آرون يقترب. ولم يكن من المقبول أن يبتعد عن كورديليا بسبب جدال تافه أو صراع قوة عديم الفائدة.
التعليقات لهذا الفصل " 61"