اتّجه بصر كورديليا إلى الطاولة، نحو دبوس الشعر الموضوع داخل علبة فاخرة. كان دبوس الشعر المرصّع بالماس الأزرق يشعّ بوضوح تحت أشعة الشمس، كأنه يعكس لون عينيها تمامًا.
“إنّه هديّة من السيّد إدوين إلى الأميرة كورديليا.”
كانت تلك الهدية قد وصلت إلى كورديليا قبل أيام، عبر أحد الأشخاص المرسلين من قِبل إدوين. وفي داخل العلبة وُجدت بطاقة مكتوبة بخط يده، كانت بمثابة شهادة ضمان للقطعة، وفي الوقت نفسه رسالة موجّهة إلى كورديليا.
أُقدّم للأميرة أروع ما لدي.
بصدقٍ وإخلاص،
إدوين ترييد، المخلص لكِ.
كانت كلماته مرسومة بخطٍّ جميلٍ وأنيقٍ يترك أثرًا دافئًا في القلب.
“حتى الأعمى سيُدهش من جمال هذا الدبوس!”
“يا إلهي، من إدوين ترييد نفسه! كم هو لطيف!”
لم تزل أصوات الخادمات وهنّ يضعن أيديهنّ على أفواههنّ من شدّة الانبهار عالقة في أذنها.
كان الجميع يقول دائمًا إنّ الأفضل يجب أن يكون لكورديليا، وقد تحقّق ذلك بالفعل. لم تُهدَ تلك الجوهرة الباهرة حتى للملكة نفسها، بل أُرسلت إلى كورديليا. ومن أي زاوية نظرت إليها، كانت قطعة فريدة لا تقدر بثمن.
“صاحبة السمو، السيّد إدوين سيصل قريبًا. يجدر بكِ أن تستعدّي.”
كانت تحدّق بدبوس الشعر بلا حراك حين همست السيّدة ليمونت لها بتلك الكلمات.
“حسنًا.”
“سيكون فستانكِ رائعًا إذا اخترناه ليتناسق مع الدبوس. لقد انتقيتُ واحدًا مسبقًا!”
قالت ليمونت بمرح كفتاة صغيرة وهي تُري كورديليا الفستان. كان أزرقًا كجناح فراشة، مفرودًا على السرير في تدرّجات شفّافة من الضوء، وهو من أكثر فساتينها المحبّبة.
“يبدو أنّه يكنّ اهتمامًا حقيقيًا بصاحبة السمو.”
“أتعتقدين ذلك؟”
“فكّري فقط كيف كان يتصرّف. لقد عاملَكِ باحترامٍ جمّ من دون أن يبدو عليه أي شعور بالدونيّة رغم اختلاف المكانة الاجتماعية.”
أجابت ليمونت بثقة ناعمة.
“وفوق ذلك، حتى وإن كان قد خُطب لكِ، فلو لم يكن مهتمًّا بكِ، ما كان ليقدّم لكِ هديةً بهذه الفخامة قبل الزواج.”
كان الرجال، في رأيها، مخلوقات بسيطة. لا يُنفق أحدهم كل هذا المال على امرأة لا تعنيه، ما لم يكن قد جنّ جنونه بها. كانت ليمونت مقتنعة تمامًا بذلك.
“لكنّه لا ينظر إليّ كما ينظر الرجال الآخرون.”
أمالت ليمونت رأسها في استغراب بينما كانت الخادمة رايا تمشّط شعر كورديليا أمام المرآة.
“الرجال الآخرون كانوا يرمقونني بنظرات خفيّة، ويتمنّون لمسي.”
“أيّ أوغاد تجرّأوا على ذلك؟”
تغيّرت ملامح وجه ليمونت فجأة، فصارت نظرتها حادّة رغم نبرتها الهادئة. بدا عليها وكأنّها تودّ أن تفقأ عيون أولئك الذين تجرّأوا على التودّد إلى الأميرة.
“لكن حين أكون مع إدوين، لا أشعر بأيٍّ من ذلك.”
كانت نظرات إدوين دائمًا نقيةً وبسيطة. لم يكن في عينيه أدنى أثر لشهوةٍ أو رغبة. لمحت فيها فقط أدبًا رزينًا وحزمًا لطيفًا.
ومع ذلك، كان جميع من حول كورديليا يؤكدون أنّ إدوين يُعجب بها، وهو ما جعلها تعيش حالة من التناقض الداخلي.
“بالطبع، ما يشعر به الآن مجرّد إعجاب بسيط، لا أكثر.”
“……”
“كم مرّ من الوقت منذ لقائكما؟ ليس كافيًا ليُسمّى حبًا. أنتِ أيضًا لا تشعرين بذلك بعد، أليس كذلك؟”
كانت ليمونت تتحدث بصوتٍ لطيفٍ محاولة تهدئة قلق الأميرة.
“صحيح، هذا أيضًا.”
“لكنّي أُقسم لكِ، يا مولاتي، إنّ الرجل لا يُنفق المال على امرأةٍ لا تهمّه إلا إن كان قد أصيب في رأسه. أنا واثقة من ذلك.”
وبينما كانت ليمونت تُحدّق برضا في خصلات الشعر الذهبيّة الفاخرة التي صفّفتها بعناية، التقت عيناها بعيني كورديليا عبر المرآة.
“أما أولئك الذين أبدَوا إعجابهم بكِ بطريقة غير لائقة، فقد عبّروا عن اهتمامهم على نحو خاطئ. ينبغي للرجل أن يقترب منك برقيٍّ واحترام.”
ثمّ أضافت وهي تُساعد كورديليا على النهوض: “إذا حدث شيء مماثل مجددًا، أرجوكِ أخبريني فورًا.”
وفي هذه الأثناء، كانت الخادمات يُحضّرن المجوهرات المناسبة. غير أنّ كورديليا رفضت جميعها باستثناء سوار واحد لزينتِها.
“ألَا تعجبكِ؟ هل أجلب لكِ غيرها؟”
“لا، فارتداء دبوس متلألئ كهذا مع عقد وأقراط فوقه سيكون مبالغًا فيه.”
كانت وصيفات كورديليا جميعهنّ من عائلات نبيلة، يُجِدن اختيار ما يلائم الفساتين من الحليّ، لكنّهنّ لم يستطعن إلا التراجع في خيبة أمام رفضها القاطع.
“إنّكِ فاتنة اليوم، يا أميرتي.”
قالت ليمونت وهي تنظر بإعجاب إلى عملها البديع. ارتسمت ابتسامة فخر صغيرة على وجه كورديليا.
“أميرتي، لقد دخل السيّد إدوين القصر.”
“أعدّوا الشاي، سأذهب حالاً.”
انحنت الخادمة وغادرت. انتعلت كورديليا حذاءها وأسرعت نحو الباب.
“سموك! نسيتِ دبوس الشعر!”
توقّفت فجأة في الممرّ، وقد تذكّرت على عجل أنها لم تضع الدبوس. تناولته ليمونت من يد الخادمة وثبّتته برفق على الجانب الأيمن من شعرها.
“الآن أصبحتُ جاهزة فعلاً، أليس كذلك؟”
“تمامًا، يا أميرة.”
أجابت ليمونت بحزم، فأومأت كورديليا بخفّة وتوجّهت إلى مكان الموعد.
كانت نسمات الربيع اللطيفة تداعب الهواء بعد البرد الطويل، وارتفعت أطراف فستانها مع كل خطوة كأمواج ناعمة. حتى أولئك الذين رأوها من قبل كثيرًا لم يستطيعوا منع أنظارهم من التوقّف عندها. كان في ملامحها اليوم شيءٌ مختلف.
“أين إدوين؟”
“لقد دخل لتوّه يا سموك.”
سألت كورديليا الحارس أمام باب الدفيئة. لم ينتظرها طويلاً على ما يبدو، ومع ذلك شعرت بعجلة غغريبة في قلبها.
خطت بخطوات صغيرة على الممرّ المزيّن بالعشب المنظّم، وفي نهايته رأت إدوين ينتظرها كما في المرة السابقة. كانت عيناه، حين فتحهما ببطء، تشبهان خضرة النباتات المحيطة.
شعرٌ بنيّ نادر في مملكة روتشستر، وعينان بلون الزمرد العكر، مزيجٌ فريد الجمال.
“إدوين ترييد يُحيّي الأميرة كورديليا.”
توقّفت كورديليا على مسافة قصيرة منه تراقبه في صمت. وما إن شعر بنظراتها حتى التفت واقترب منها.
“……”
ظلّت تحدّق فيه دون أن تتكلم، ولم يُحوّل هو نظره عنها.
“آه…”
تنفّس إدوين بخفوت وهو يمدّ يده نحو جانب شعرها الأيمن، ثمّ تراجع قبل أن يلمسها.
تابعت كورديليا حركته بعينيها منذ أن اقتربت يده وحتى ابتعدت ثانية. في تلك اللحظة، شعرت برعشة غريبة ورائحة عذبة غير مألوفة تنساب في صدرها.
“كما ظننت، إنه يليق بكِ تمامًا.”
كان قد لاحظ دبوس الشعر الذي أهداها إياه، وابتسم برضا.
“استغرق الأمر بعض الوقت حتى أجد ماسة بلون عينيك، لكنّ النتيجة تستحقّ.”
تسعت عينا كورديليا دهشة.
“أتقصد أنّك بحثتَ عن ماسة تُشبه لون عينيّ خصيصًا؟”
قالت ليمونت إنّ الرجال لا يُنفقون المال على امرأةٍ لا تعنيهم، ولو لم يكن إدوين مهتمًّا بها لما فعل ذلك. لقد بذل المال والجهد والوقت لأجلها.
“إنّها هديّة للأميرة، فلا بدّ أن تكون مميّزة.”
ربما كان حقًّا مهتمًّا بها. وربّما كتب ذلك العقد الذي كان ظاهريًا ضدّ مصلحته بدافع من رغبة صادقة في تعويضها.
“كنت أظنّ أنك اشتريتها مصادفة، لمجرد أن الماسة الزرقاء نادرة. لكنك بحثت عنها بنفسك…”
لم تُكمل عبارتها، إذ مدّ إدوين يده نحوها بهدوء. مدت كورديليا يدها المرتجفة ووضعتها فوق كفّه.
حتى من خلال القفاز شعرت بحرارة يده، فارتجف جسدها قليلاً بينما ارتسمت على وجهه ابتسامة دافئة. كانت ابتسامته رقيقة كزهرة تتفتّح، واهتمامه المرهف جعل قلبها يذوب خجلاً.
“إنّك لطيفٌ للغاية.”
قالت بخجلٍ وهي تجلس على الكرسيّ بمساعدته، ابتسامةٌ صغيرة ارتسمت على شفتيها. في تلك اللحظة، لم يعد يهمّها إن كانت كلمات ليمونت حقيقة أم لا، لقد أرادت أن تصدّقها فحسب.
“إنّه لشرفٌ عظيم أن أسمع هذا من صاحبة السمو.”
أجابها إدوين بابتسامة متألّقة وهدوء نبيل، دون أن يدرك ما يدور في ذهنها. وكأنّه بكلامه ذاك أكّد كلّ ظنونها.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"