مال إدوين برأسه قليلاً، كأنه يواجه سؤالاً لا يفهم معناه. قابلت كورديليا نظراته الزمردية التي تطل في داخلها، بقلبٍ يرتجف.
“ولِمَ تسألين عن أمرٍ كهذا؟”
سألها بصوت منخفض، مذكرا إنهما اتفقا في عقدهما على عدم التطرّق إلى أي موضوع يتعلق بزوجته السابقة؟
“أنا… أنا معجبة بك.”
لم تشعر بالخجل ولا بالحيرة. ما إن قررت أن الآن هو الوقت المناسب، حتى تحرّك جسدها من تلقاء نفسه. انفتحت شفتاها فجأة، وانطلقت منهما اعترافات مشاعرها نحوه. لو فكّرت بكبريائها الشامخ كأميرة، لكان يجب على إدوين أن يعترف بحبه لها أولاً، وأن يتوسّل حبها… لكنها لم تكترث لكل ذلك.
“ليس مجرد إعجاب عابر… بل أنا معجبة بك إلى درجة لا أعرف معها ما الذي ينبغي علي فعله…”
فالرغبة في أن تمسك بهذا الرجل بين يديها بإحكام، هي مشاعر لا يمكن التحكم بها على أي حال.
“أظن… أنه الحب.”
ارتجفت أطراف أصابع كورديليا النحيلة وهي تغلق غلاف الكتاب. كانت تعلم أن توترها المنفلت يظهر جليًا على السطح، لكنها لم تعرف طريقة لإيقافه.
“ولهذا… أتمنى أن تكون مشاعرك نحوي مماثلة.”
بينما كانت كورديليا تحدق فيه محاولة استشفاف دواخله، تحولت نظرات إدوين تدريجيًا نحو يدها الصغيرة المرتجفة. وربما لأن الدم تدفق فيها سريعًا واحمرّت، فبدت بلونٍ يخالف لون قفاز الدانتيل الأبيض فلفتت انتباهه.
“والدتي… ذكرياتي عنها مشوشة، لكنهم في صغري قالوا أنني أشبهها كثيرًا.”
ما علاقة والدته فجأة؟
تبددت علامات التوتر عن وجه كورديليا الذي كان ينتظر جواب إدوين مرتجفًا، وحلّت محلها حيرة واضحة.
“قالوا إنها كانت جميلة.”
هل أراد التفاخر بأن وجهه جميل بقدر جمالها؟ لم تفهم كورديليا قصده، وأخذت عينيها تدوران بارتباك.
“في ذلك الوقت، كان والدي مشغولاً بتوسيع أعمال شركة ترييد التي ورثها، حتى إنه كان يغيب عن المنزل كثيرًا. وقيل إنه عندما كان يعود بعد فترة طويلة، كنت أبكي لأنني لا أعرفه.”
تابع إدوين حديثه بهدوء.
“كانت أمي تشعر بالوحدة، لكنها صمدت خلال ذلك الوقت معتمدة عليّ وعلى مربيتي. إلا أنها أصيبت فجأة بمرض عندما بلغتُ حوالي الرابعة… ورحلت.”
جسدٌ انهار فجأة تحت وطأة مرض مجهول، دون أن يتاح الوقت لإنقاذه. كان إدوين صغيرًا جدًا، لا يفهم حتى معنى موت أمه، فلم يبكِ. وقيل إن مربيته رأت ذلك أفضل له.
أما آرون، فقد اختفى عن الأنظار فترة طويلة، غارقًا في يأس فقدان زوجته. لم يعد يكترث بتوسيع أعماله التي كان يجتهد لها بشدة، بل أغلق على نفسه المنزل، غارقًا في الخمر والتدخين.
“ولم يمضِ وقت طويل حتى دخلت السيدة ليان المنزل وهي تمسك بيد بارتون.”
قيل إن آرون أدخل السيدة ليان وبارتون إلى المنزل بعدما رآهما يبكيان طلبًا لأم إدوين، قبل وفاتها بعام واحد تقريبًا.
“كنت سعيدًا بوجود عائلة جديدة… فقد كنت أشعر بالوحدة.”
كانت المرضعة التي رافقت إدوين منذ ولادته دائمًا في صفه، وكان إدوين يثق بها ويعتمد عليها لطيبتها وحزمها.
لكن المرضعة كانت تُظهر عداءً صريحًا بمجرد رؤية السيدة ليان وبارتون، حتى قامت السيدة ليان، التي أصبحت سيدة بيت ترييد، بتلفيق تهمة لها وطردتها. وهكذا، حين بلغ الخامسة تقريبًا، أصبح إدوين وحيدًا مرة أخرى.
“كان ذلك قبل أن أدرك أنهما الدليل الحي على خيانة والدي.”
وعندما بلغ السابعة، علم بخيانة أبيه.
في تلك اللحظة، شعرت كورديليا بأن أنفاسها حُبست في صدرها. كان صوت إدوين الهادئ ينساب كأنه يروي ماءً جارٍ من الذكريات، حتى استوعبت فجأة بشاعة ما يقول، فانتفض وعيها.
“المرض المجهول لوالدتي… كان مرض القلب.”
“…”
“يوم بلغها أن زوجها، الذي كان يتحجج بالانشغال كي لا يعود إلى المنزل، قد جعل إحدى خادمات النزل تحمل منه…”
أقسم آرون أنها كانت زلة ليلة واحدة، وجدّد عهده بالحب لزوجته كما كان دائمًا، لكن الثقة بينهما اختفت. وابتلعت أم إدوين مشاعر الخيانة، واليأس، والغيرة البشعة، والشك الذي لا يرحم… حتى قضت عليها.
“زعم أنه كان يحبها حتى الموت، وأنه لا يرى أحدًا سواها… ثم أدخلهم منزله في النهاية…”
لم يعلم آرون شيئًا. لم يعلم أن الأدلة الحية على خيانته حاولت قتل إدوين، ولم يعلم أن السيدة ليان كانت تسيء لابنه لسنوات. عاشوا سنوات عدة وهم يمثلون دور عائلة طبيعية.
عند هذه النقطة، استطاعت كورديليا أن تفهم القطع الصغيرة من العداء والريبة التي كان إدوين لا يستطيع إخفاءها أحيانًا تجاه آرون. فهو لم يكن أبًا جديرًا بالثقة، ولا كان حنونًا… خصوصًا منذ كان ابنه في الخامسة فقط.
“لم أعرف قط معنى سياج العائلة الدافئ، وكنت أكره الناس لدرجة أنني أردت الهرب.”
لهذا، فقد كل مشاعر الود تجاه عائلة ترييد.
وما إن كبر قليلاً حتى كره كل من يعيش في ذلك المنزل، فتسلق سور القصر وقفز خارجه. كانت تلك قصة هروبه من المنزل.
“حينها… التقيت بزوجتي الراحلة.”
بدأ إدوين يحكي عن زوجته السابقة بنبرة هادئة. بدا أنه أراد سرد ماضيه كله ليشرح كيف وصل إلى تلك القصة.
“لو لم أحبّ الشخص الذي اقترب مني في تلك الفترة، حين كنت أظن أنني وحدي في هذا العالم… لكان ذلك كذبًا.”
كانت نظرات إدوين شاردة في مسافات بعيدة. راقبته كورديليا بشعور غريب، كأنه رجل تاه في ذكريات بعيدة جدًا.
“لقد أحببتها… إلى حد أنني ظننت أنه لا بأس في التخلي عن كل شيء من أجلها. تزوجنا رغم رفض والدي، ولوحدنا.”
إن كانت تلك المرأة قد ظهرت في وقت وحدته، فلا بد أنه أحبها بعمق. شعرت كورديليا ببعض الكآبة، متوقعة أن يقول لها إنه لن يستطيع أن يبادلها الشعور ذاته.
“لكن الآن… لم تعد سوى شخص رحل ومات.”
جاءت كلمات إدوين التالية باردة قليلاً.
“وزوجتي الآن… هي أنت.”
“…”
“أن أحمل مثل تلك المشاعر… لا يليق بك.”
همس إدوين بنعومة. ما مضى فقد مضى، وهو يعيش في الحاضر.
“إذن… تقصد…”
“أنا ملكٌ لكِ، يا صاحبة السمو.”
“…”
“تمامًا كما أقسمت أمام الجميع في مراسم الزواج.”
وفجأة، مال إدوين جانبًا واقتطف زهرة صغيرة صفراء جميلة الشكل قرب المقعد. راقبت كورديليا حركته كأنها مسحورة.
“أنا لكِ بالفعل… وسأبقى لكِ وحدك.”
لامس إدوين بأنف كورديليا تلك الزهرة، همسة خفيفة. كان العطر الذي يلامس أنفها حلوًا إلى درجة لم تعد تعلم هل يأتي من الزهرة… أم من كلماته.
“هل… تحبني؟”
“أحبك.”
“أنا… أنا…”
خرج صوتها متهدجًا دون إرادتها، مختلطًا باضطرابٍ لم تتوقعه.
“…هل تحبني؟ حقًا؟”
“نعم.”
ابتسم إدوين. وكانت أشعة الشمس الساطعة تنساب فوق رأسه بلطف. مدّت كورديليا يدها نحوه بلا تردد، جذبت ربطة عنقه لتجعله ينحني نحوها.
ولأنه فهم مرادها، أتى طائعًا. ثم، كما لو أنه يعبّر عن عشقٍ صادق لحبيبته، لامس جبينه وأنفه بأنفها، مقربًا المسافة بينهما إلى حدٍّ يشبه لياليهما التي كانا يضمان فيها جسديهما. كانت عينا إدوين تنخفضان ببطء نحو شفتيها، تتفحصانها برغبة واضحة.
وما يرغبه هو… كان ما ترغب هي به كذلك. رفعت كورديليا يدها تلمس فكّه ووجنته بلطف. حينها، طبع إدوين قبلة خفيفة.
“…”
لم تكن القبلة سوى ملامسة سريعة بين شفتيهما، التقت ثم انفصلت. فتحت كورديليا عينيها التي أغمضتهما. امتزجت أنفاسهما المرتعشة. والنظرات المتشابكة لم تفتر أبدًا.
“العشاء.”
“…”
“هل حقًا علينا الذهاب؟”
سأل إدوين. وكان صوته المنخفض يحمل رجفة تشبه الارتعاش. ولم يكن من الصعب معرفة ما يعنيه بذلك.
“… سيشعر آرون بالاستياء.”
تمسّك آخر ما تبقّى من عقل كورديليا بطرف فستانها. غير أنّ إدوين، ما إن أعاد ملامسة شفتيها بخفة، حتى غدت مسألة آرون غير ذات أهمية.
“فليستاء إن شاء.”
أومأت كورديليا مؤيدةً. ابتسم إدوين واستقام في جلسته، ثم نهض عن المقعد ومدّ يده نحوها. كأنه يطلب موافقتها حتى اللحظة الأخيرة.
فمدّت كورديليا يدًا مرتجفة وأمسكت بيده. جذبها بقوة لا تؤلم، لكنها حازمة بما يكفي لينهض بها من مقعدها.
التعليقات لهذا الفصل " 53"