انتهت مراسم منح الأوسمة بمغادرة الملك والملكة أولاً.
وبعد أن حيّت والديها، لم تقترب كورديليا مباشرة من إدوين، بل راقبته من بعيد وهو محاط بالناس. كان البحّارة الذين يطوّقونه يهنئونه بإخلاص على حياته الجديدة كنبيل وعلى زواجه.
وعلى النقيض، فقد كان النبلاء منحازين إلى الجهة التي يقف فيها ولي العهد لورنسن. وكأنهم يعلنون إنهم حين كان إدوين من العامة كان يمكنه التحدث معهم بلطف بشأن الأعمال، أما الآن وقد أصبح نبيلاً، فالوضع مختلف؛ فلا يمكنه أبدًا الوصول إلى مستواهم.
“…….”
ومع ذلك، فهم ليسوا من العائلة الملكية أيضًا. فتجهم وجه كورديليا وقد استبدّ بها شعور مفاجئ بالضيق.
“يا سموّ الأميرة، طُلب من كالاي أن يرفعوا سعر الشحنة الأخيرة.”
وخاصة النبلاء المتحجرون الذين التصقوا بلورنسن كالمحار الملتصق بالصخور. منظر كريه…
“بكم؟”
“الضعف.”
كانت أحاديث مملة حتى بمجرد الاستماع إليها. فقد فقدت كورديليا اهتمامها بسرعة، ثم عادت بنظرها إلى زوجها. إلا أنّ إدوين كان قد غادر مكانه دون أن تنتبه.
“إلى أين ذهب؟”
“عمّن تبحثين؟”
وكان ذلك حينما كانت كورديليا تدير رأسها يمينًا ويسارًا بحثًا عن إدوين، اخترق أذنها صوت مألوف.
“إدوين. أين كنت؟”
“كنت أطلب تجهيز العربة.”
شعرت كورديليا بأصابعه الطويلة والقوية تلتف حول جانب من خصرها، فقبضت عضلات بطنها لا إراديًا، وحبست أنفاسها قليلاً.
“ظننت أنك قد تكونين متعبة من الأمسية. من الأفضل أن نعود ونرتاح قليلاً.”
“صحيح. سيكون آرون سعيدًا جدًّا.”
كان آرون أكثر المتحمسين لحصول إدوين على لقب النبالة. رغم أنه ليس صاحب الحفل، ورغم أنه لم يُمنح حتى إذن الحضور، إلا أنه أصرّ على إقامة حفلة. ولحسن الحظ، تم تأجيل دعوة الآخرين، وتحوّل الأمر إلى عشاء عائلي فقط.
“يبدو أن آرون يحبك حقًا.”
كان مقدار ذلك الحب يوازي تقريبًا مقدار العاطفة التي يظهرها الملك لكورديليا. هكذا كانت تراها. لكن إدوين لم يفعل سوى الابتسام قليلاً قبل أن يصمت.
“إن لم يكن لديك من تريدين رؤيته، فهل نغادر إذن؟”
“ومن سأرغب في رؤيته هنا بالأصل؟”
“ابن الدوق جيرالد الأصغر بدا وكأنه سيبكي إن لم تلتقِ نظراته بسموك.”
بل إنه أشار بذقنه إلى أوين جيرالد ليلفت انتباهها إلى جهة أخرى. وكان ذلك أسلوبًا فعّالاً، فقد اكتشفت كورديليا أن أوين لا يزال ينظر إليها، فعقدت حاجبيها.
“لماذا تفعل ذلك بي؟”
ولم تنسَ أن تصبّ غضبها على إدوين. فضحك إدوين بصوت منخفض، وهدأت كورديليا من أثر اهتزاز صوته المريح في الهواء، ولم تستطع سوى أن ترمقه بنظرة ليست غاضبة حقًا.
“كان ينظر إليكِ مرارًا، فظننت لوهلة أنه ربما كان حبيبًا سابقًا.”
“وإن كان كذلك، هل كنت ستسمح لي بلقائه؟”
“كنت سأبعده إلى مكان لا يراه أحد.”
قالها بنبرة هادئة، مُحكمة، على عكس قبضته التي اشتدت قليلاً حول خصرها. وكأنه يقول: كيف لي أن أسمح لزوجتي بلقاء رجل آخر؟
“مع أنني لا أظن أنه يناسب ذوق سموّك.”
“ومن قال إنك تعرف ذوقي؟”
هزّ إدوين كتفيه دون كلمة، وكأنه يعرف تمامًا ما هي نقاط ضعف زوجته. قليل فقط من القبح، وكانت ستدوس قدمه لتجعله يصحو. كان هذا الرجل مستفز قليلاً.
“سموّ الأميرة، سموّ الدوق. العربة جاهزة.”
عندها اقترب أحدهم ليخبرهما بأن عربتهما بانتظارهما. خطت كورديليا لترك المكان مع إدوين.
“كورديليا. هل سترحلين الآن؟”
ولم يتركهما لورنسن يمضيان قبل أن يعترض طريقهما.
“سنحتفل مع العائلة ونتناول العشاء معًا. نادراً ما يحصل إدوين على يوم إجازة، لذلك نريد الاستمتاع به بهدوء.”
“مؤسف، فقد مرّ وقت طويل منذ آخر لقاء لنا.”
“ستأتي إلى الحفلة في القصر قريبًا على أي حال.”
“بالطبع سأحضر. إنه بمثابة الظهور الاجتماعي الأول لزوجك. أخبرتُ أمي أن ترسل بعض المساعدين إلى القصر، فلا تقلقي.”
يبدو أنه لم ينسَ ما حدث في القصر سابقًا. ونظرت كورديليا نحو إدوين بخفة، خشية أن يناله توبيخ لا يستحقه، فقد كانت تلك زلّة حكم منها هي.
“علينا الذهاب الآن. السائق ينتظر.”
“حسنًا، اذهبا.”
“أراك قريبًا.”
صافحت كورديليا شقيقها بمودة، ثم سحبت يد إدوين. ولم يقاوم إدوين، بل ترك نفسه يُسحب بخفة، وكأنه يعلم أن هذا هو أسلوبها في التعبير عن اعتذارها.
يا له من رجل عطوف بلا داعٍ… لا، بل لديه الكثير من الأسباب.
“انتبهي.”
كان لديه الكثير من الدواعي. فقد تعثرت كورديليا عند حجر نتأ صغير، فتهاوت لتسقط في أحضان إدوين. احمرّ أنفها الذي ارتطم بصدره وبدأ يحكّها.
“…….”
مذنب. إدوين ترييد مذنب لا محالة.
***
وما إن وصلا القصر حتى سحب سكوت إدوين معه. لم تسمع كورديليا إلا شيئًا عن قضية النسخ المقلدة. كان قد قال إنه سيستريح هذا اليوم، لكن يبدو أن العمل كثير بحيث لا يستطيع حقًا.
كان أمام كورديليا وقت فراغ قبل عشاء العائلة مع آرون. إدوين لم يكن هناك، والسيدة ليمونت لم تعد بعد من المنزل الذي ذهبت إليه لإحضار بعض الأغراض، فشعرت بالملل. صارت تتجول في القصر كروح تهيم بلا هدف.
“…….”
ثم وقع بصرها على الدفيئة. كانت مكانًا تحبه لدرجة أنّه أُدرج ضمن خط المشي اليومي في القصر، لكنها لم تطأه منذ الحادثة المتعلقة بالسيدة ليمونت.
لكن ربما الأمر أفضل الآن. فقد مرّ الوقت، وبفضل طلب إدوين نُشر تصحيح في الصحيفة، فهدأت الضجة.
فتحت كورديليا باب الدفيئة بتلك الفكرة. كان الجو أكثر حرارة قليلاً من الخارج بفعل ضوء الشمس المحبوس داخل الزجاج، لكن خضرة الأوراق المتلألئة ورائحة الزهور المزدهرة بددت الانزعاج.
“هل مرّ أحد من هنا؟”
تجوّلت كورديليا وسط النباتات، فوجدت مقعدًا طويلاً بدا كأنه أعد للجلوس والراحة. وعلى أحد طرفيه كتاب تركه أحدهم بعد أن كان يقرؤه.
كان الكتاب مجرد ديوان شعر عادي، بغطاء قديم ومهترئ. وبما أنها بلا شيء تفعله، فكرت أن قراءة بعض الشعر قد تكون مناسبة، فأخذت الكتاب وجلست.
“…….”
وفي تلك اللحظة، انزلقت ورقة مطوية برفق من بين الصفحات وسقطت على الأرض. التقطتها كورديليا من دون تفكير خاص، وفتحتها.
“رسالة حب، إذن.”
كانت رسالة حب ساذجة وغريبة، لكنها صادقة. وبما أن اسم المرسل إليه بدا غير مألوف، فقد خمّنت أنه أحد الخدم.
يجب احترام الخصوصية.
أعادت كورديليا الرسالة إلى آخر الكتاب بعد أن قرأت نصفها، ثم فتحت الصفحة الأولى. كان صوت تقليب الورق مريحًا. استندت بظهرها إلى المقعد ورفعت رأسها نحو سقف الدفيئة.
تراقص الضوء على القبة المستديرة، يتجمع ثم ينسكب، مما أشعل عينيها قليلاً. فأمالت رأسها وأغمضت عينيها تجنبًا للوهج.
وبعد قليل، شعرت بأن رأسها إرتفع. فتحت عينيها، لتقع نظرتها مباشرة على إدوين، الذي كان قد وضع رأسها بحرص على فخذه. يبدو أنها غفت دون قصد.
أتمنى ألا يكون أحد قد رآني. رفعت كورديليا الكتاب الذي كان مستقرًا على صدرها، وغطت به وجهها.
“كنتُ أتظاهر بالنوم!”
صرخت بذلك على عجل.
“هكذا إذن.”
ولم يُشر إدوين إلى كذبتها، بل رفع يده عن شعرها، وقال بنبرة هادئة أنها كانت كذلك بالفعل.
“ما زال أمامنا وقت قبل العشاء. يمكنك متابعة القراءة.”
كانت كورديليا مستلقية على فخذَي إدوين، فرفعت يدها المرتجفة قليلاً لتلتقط الكتاب. لم تستطع رؤية الكلمات بوضوح؛ فقد كان الكتاب مقلوبًا رأسًا على عقب، وكانت الحروف كلها معكوسة.
كانت هناك احتمالية—ولو ضئيلة—أن إدوين لم يلحظ ذلك، لكنها سرعان ما بددتها. الوضع بأكمله كان يخبرها بأنه بالتأكيد لاحظ.
لماذا تبدو دائمًا غير حذرة ومتلعثمة فقط أمام إدوين؟ من المحرج جدًا أن تحاول الظهور بشكل جيد أمام شخص ما، فإذا بكِ تتصرفين كما لو أنك آلة معطوبة.
“…….”
تخلّت عن التظاهر بتمسّكها بالكذبة التي انكشف أمرها مسبقًا. وضعت كورديليا الكتاب على صدرها، ثم رفعت رأسها تنظر إلى إدوين الذي كان يحدّق بشيء بعيد. وما إن فعلت، حتى أعاد إدوين نظره إليها بهدوء.
“لماذا تنظرين إليّ هكذا؟”
مع انعكاس الضوء على وجهه بدا وكأن ابتسامة خفيفة تلوح عليه.
دقّات قلبها—دق، دق، دق—كانت قريبة جدًا، ثم في لحظة ما شعرت وكأنها تبتعد شيئًا فشيئًا، مثل موجٍ ينحسر. عمّ سكون يشبه وجودهما وحدهما في هذا العالم، وهدأت روحها.
“إدوين، لدي سؤال أود أن أسألك إياه.”
كانت تعلم أنها لا يجب أن تُفلت هذه اللحظة—سواء كان اعترافًا، أو رجاءً بأن يبادلها الشعور ذاته.
التعليقات لهذا الفصل " 52"