كانت الضجة تعم أرجاء القصر منذ الصباح الباكر. صحيح أنّ السيدة ليمونت اعتادت أن توبّخ الاثنين كلما عُثر على كورديليا في غرفة إدوين، غير أنّ ضجة اليوم كانت مختلفة قليلاً عن المعتاد.
فاليوم هو يوم مراسم منح الأوسمة. وهو اليوم الذي سيحصل فيه إدوين على لقبه أيضًا، ما جعله يومًا مميزًا لأسرة ترييد.
“إدوين، أظنّ أن هذا يليق بك أكثر.”
لكن معظم الجلبة لم تكن بسبب إدوين، صاحب الحدث، بل بسبب كورديليا. فقد صرفت سكوت، سكرتير إدوين، وجميع الخدم، وأخذت بنفسها تتولّى أمره وكأنها خادمته الخاصة.
“سموكِ، لا داعي لكل هذا. يمكننا استدعاء الخدم…”
“لم تخطّ لنفسك لباساً جديدًا. يجب أن تبدو في أفضل هيئة ممكنة.”
بالطبع، حتى لو حضر إدوين مرتديًا كيسًا خشنًا، فإن وسامته وحدها كانت كفيلة بخطف الأنظار. كورديليا ابتلعت ما فكّرت به وهي تسحب سترة البدلة البنية الممزوجة بالذهبي وتضعها على كتفيه.
“أظن أن هذا اللون أفضل من الأول.”
أعجبها هذا التدرّج الأكثر طبيعية. وكان مناسبًا للون شعره البني، وجعله يبدو أكثر مودة أيضًا، وهذا ما راق لها.
“أما ربطة العنق، فستناسبك الكحلية تمامًا.”
“ليكن كذلك.”
كانت تعرف أن إدوين ليس رجلاً سيئ الذوق، وأنه سيُحسن الاختيار على أي حال. ومع ذلك، فقد شعرت بارتياح كبير وهي تكمل المظهر الخارجي لرجلها على ذوقها. وكان من دواعي سرورها أيضًا أنه يتقبل نصائحها بسهولة.
“والآن من الأفضل أن تستعدّي يا سموكِ.”
لكن ذلك الشعور لم يدم طويلاً. فقد سمعت صوت لينا، التي كانت تبحث عنها بلهفة، يأتي من خلف الباب الذي اتجه إليه نظر إدوين.
“سأفعل كل ما قلتِه، كلّه بلا استثناء.”
أمسك إدوين بكتفيها بخبرة، ودفعها برفق نحو الباب. كان يعني بذلك أنه لم يعد عليها القلق بشأن ظهوره بمظهر غير لائق، فلتذهب وتستعدّ هي أيضًا.
“أراك لاحقًا.”
طبع قبلة خفيفة على صدغها ثم فتح الباب. وما إن ظهرت كورديليا حتى برقت عينا لينا التي كانت تخطو في المكان قلقًا.
“هل انتظرتِ طويلاً؟”
“السيدة ليمونت بحثت عنكِ مرات عديدة. يجب أن تذهبي وتستعدّي بسرعة.”
“هل هي غاضبة كثيرًا؟”
هزّت لينا رأسها بحذر. على الأرجح لو كانت كورديليا ما تزال صغيرة لضربتها السيدة ليمونت على مؤخرتها من شدة الغضب. أسرعت كورديليا بخطاها.
“سموكِ.”
توقفت حين رأت السيدة ليمونت تقف كتمثال تنتظرها.
“لم يخِط إدوين لباساً جديدًا للمراسم، لذلك أردت فقط أن أرى ما الذي يليق به أكثر…”
“لم تنسي أنكِ أيضًا ستحضرين الحفل، أليس كذلك يا أميرة؟”
“بالطبع لم أنسَ.”
اكتفت كورديليا بابتسامة محرجة بدلاً من تقديم حجج لا طائل منها.
تنهدت السيدة ليمونت طويلاً وهي تنظر إلى الأميرة التي لم تتغيّر طباعها رغم تقدّمها في السن. بدا أنّ وقوعها في الحب جعلها أكثر تهوّرًا كلما تعلق الأمر بزوجها.
“لينا، اذهبي وأحضري الفستان والمجوهرات التي اخترناها مسبقًا.”
فاليوم يومٌ سعيد، ولهذا كتمت السيدة ليمونت رغبتها في التذمر واستدارت.
***
“أتيتِ إذن، كورديليا.”
“أخي.”
باعتبارها من العائلة الملكية، وصلت كورديليا إلى القصر مستقلّة عربة مختلفة عن عربة إدوين. كما كان مكان الانتظار مختلفًا أيضًا، لأن مكان تجمّع أفراد العائلة الملكية منفصل.
“لقد أصبحتِ أجمل.”
“كنت جميلة دائمًا.”
“أقصد أنكِ إزددتِ جمالاً.”
حيّت كورديليا لورنسن عند دخولها قاعة الانتظار.
“كورديليا!”
رحّب بها الملك، الذي بدا اليوم أكثر رسمية من المعتاد. عانقت كورديليا والديها واحدًا تلو الآخر.
“أخيرًا ستصبحين دوقة. آسف لأنك انتظرتِ طويلاً.”
لم يخفِ الملك اعتذاره وحنانه. لكن كورديليا هزّت رأسها مبتسمة. فإدوين أراد أن ينال لقبه بجهده، ولم يكن من العدل لوم الملك على ذلك.
“جلالتك، لحظة…”
“تحدثي قليلاً مع والدتك.”
تدخل لورنسن في حديث الملك وكورديليا. وعندما لاحظ الملك جدية تعبيرات ابنه، أرسل كورديليا إلى جانب الملكة.
“يبدو أن الجفاف شديد هذه المرة، والمزارعون يواجهون صعوبة في الحصاد. لذا يطلبون تأجيل الضرائب…”
ابتعد صوت لورنسن شيئًا فشيئًا.
“أخي دائمًا مشغول.”
“هذا طبيعي، فالتاج له ثقله. وبفضله نطمئن أنا وجلالته.”
كانت الملكة تتأمل ابنها وزوجها وهما يتحادثان بجدية، وعلى شفتيها ابتسامة هادئة؛ شعور في طياته فخر بأنها ربّت ابنًا صالحًا، وسعادة وهي ترى زوجها الذي يبدو تافهًا في البيت لكنه يتألق حين يتعلق الأمر بعمله.
“…….”
حدّقت كورديليا في ذلك الوجه المفعم بالرضا. في الحقيقة، لم تستوعب تمامًا كيف يمكن للمرء أن يشعر بكل هذا الفرح لمجرد رؤية زوجها وابنها يتحادثان.
“هل هذا يسرّك إلى هذه الدرجة؟”
التفتت الملكة نحوها.
“بالطبع. وستعرفين هذا الشعور قريبًا يا كورديليا.”
“…….”
“فهذا هو الحب.”
“هل يحبّ المرء أبناءه دائمًا لمجرد أنهم أبناؤه؟”
ابتسمت الملكة ابتسامة دافئة، كما لو أن ابنتها التي كانت تقلق من أنها لن تنضج يومًا قد كبرت أخيرًا.
“ليس دائمًا. سواء كان بين رجل وامرأة، أو بين والد وطفل، فالحب ليس أمرًا مضمونًا.”
“…….”
“لكن حين تنظر إليك روح صغيرة كأنك كلّ عالمها، وتتبعك كأنك حقيقة الكون، تشعرين بأن لك معنى كبيرًا… وهذا يجلب السعادة. لذلك تجدين نفسك تحبينها رغمًا عنك.”
“…….”
“قد يكون مخيفًا أيضًا، حين تدركين أنّ عالم طفل صغير كان ضيقًا بحجم كف، وأنكِ أنت من يوسعه.”
سعادتي، متعتي، ألمي، خوفي… كلمات تبدو متناقضة، لكنها يمكن أن تجتمع في مكان واحد. هذا ما كانت الملكة تقول.
“لا أفهم تمامًا.”
بدا الأمر معقّدًا قليلاً بالنسبة لكورديليا. لكن الملكة اكتفت بهز كتفيها وكأنها تتوقع ذلك.
“جلالتك، حان وقت بدء مراسم التكريم.”
“أوه، حسنًا. سنخرج حالاً.”
دخل كبير الخدم، معلنًا أن الوقت قد حان لظهور العائلة الملكية في المنصة الرسمية. وقفت كورديليا بجانب عائلتها بصفتها من الأسرة الحاكمة. ثم صعدت إلى المنصة المركزية بعد أن تجاوزت أولئك الذين انحنوا إجلالاً.
كان الموقع يتيح لها رؤية الممر الأحمر الطويل، وعلى جانبيه الحرس الملكي، والمرشحون للأوسمة، ورئيسا مجلسي الشيوخ والنواب، والنبلاء، ثم إدوين الواقف معتدل القامة.
“…….”
جميع الحاضرين كانوا يرتدون أزياء فاخرة مثل طاووس ينفش ريشه، فيما بدا إدوين، الذي اكتفى ببنطال وقميص وسترة وربطة عنق، الأكثر لفتًا للأنظار. قد يكون حكمها هذا نابعًا من حبها الأعمى، لكنها على أي حال وجدته الأبرز بينهم.
وبينما كان الملك يقلّد الأوسمة للأبطال الذين ساهموا حديثًا في الانتصار في معركة ريلز البحرية، لم تغادر نظرات كورديليا إدوين لحظة واحدة. كانت جهودها منذ الصباح مجدية؛ فحين تنظر إليه بعين محايدة، يبدو فعلاً رجلاً مميّزًا.
لولا لسان رونالد نيفيل الطويل، لما كان زواجها من إدوين قد حدث. وربما لم تكن لتراه أبدًا. فشعرت بأن عليها تقريبًا أن تشكر رونالد نيفيل على مساهمته الكبيرة في جمعهما.
“أخيرًا… إدوين ترييد. تقدّم.”
ناداه ماغنوس داير في تلك اللحظة. فتقدّم إدوين بخطوات واسعة حتى وقف أمام الملك، ثم جثا على ركبته.
“إدوين ترييد. لقد أنقذتَ قبل سنوات عشرات السفن وأرواح عدد كبير من البحّارة، وقدتَ روتشستر إلى النصر، ولذلك رشّحك مجلسا الشيوخ والنواب…”
“…….”
“وبالنظر إلى إنجازاتك العظيمة، وولائك لروتشستر، ومع اعتذارنا عن تأخر التكريم… أمنحك لقب دوق. ورغم أنه لن تُمنح لك أراضٍ، فإن شعار أسرة ترييد الذي صاغه البلاط الملكي سيحمي شرفك.”
***
قدّم الملك بنفسه التهنئة لإدوين، ومنحه اللقب مع شعار العائلة. وتلقّى إدوين الشهادات التي سلّمها له الملك بأدب شديد.
“إن أسرة ترييد ستكرّس نفسها من أجل شرف روتشستر واستقرارها في المستقبل أيضًا.”
هكذا أقسم إدوين، الذي وُلد من جديد كنبيل، بأن يقدّم ولاءه لروتشستر.
راقبت كورديليا ذلك المشهد بعاطفة جياشة. وما إن تخيّلت مدى رضاه حتى شعرت بالسعادة نفسها. لذلك رغبت في أن تساعده ليحصل على كل ما يريده.
وفي الوقت نفسه، استبدّ بها الطمع. فقد أرادت من إدوين أن ينظر إليها بالمقدار نفسه من المشاعر… وبالحجم ذاته تمامًا.
التعليقات لهذا الفصل " 51"